الـشُّـعـور بالـدونـية تجاه الغـَرب/ الدكتور عـبد القادر حسين ياسـين

في الخـامـسـة والـثـمـانـيـن من عـمره،

ما زال الروائي والكاتب الترينيدادي الأصل، البريطاني الجنسية،

Sir Vidiadhar Surajprasad Naipaul

السير فـيديادار سوراجبراساد نايـبول ،

متمسكاً بمواقفه، التي أثارت ضده عـواصف من الانتقادات الشديدة ،

بسبب نظرته الكولونيالية إلى شعوب الدول المستعمَرة سابقاً،

خصوصاً إلى الهند ودول الكاريبي والعالم الإسلامي.

فهو ، على رغم كونه واحداً من أبناء المستعمرات ،

الذين ارتحلوا إلى أحد المراكز الحضارية الغربية (لندن) ،

وصاروا مواطنين في الدولة التي استعمرت بلادهم،

يضع قـناع الرجل الأبيض على وجهه ،

ويرى بعـيني المستعـمِر لا المستعمَر،

كما يقول فرانز فانون عن بعض أبناء المستعمرات في كتابه،

Black Skins, White Masks “جلود سوداء وأقنعة بيضاء”…

في مـقـابـلـة أجرتهــا معه مجلة New Republic الأمريكية،

يعلق نايـبول على الأوضـاع في الـعـالـم العربي بتشاؤم شديد،

إن لم نقـل إن كلامه ينضح رؤيةً عـرقيةً كارهة ومزدرية للعالم الإسلامي.

يقول نايبول، رداً على سؤال عن رؤيته للأوضـاع في الـعـالـم العربي:

“لا أظن أن هناك ما يبعث على الأمل. إنه لا شيء.

رأينا ما انتهى إليه الأمر في ليبيا. لقد انتهى إلى الفوضى.

وسيحصل ذلك في كل مكان آخر في العالم العربي”.

ويضيف في موضع آخر من الـمـقـابـلـة:

“أظن أن ما حدث لا يمثل شيئاً حقيقياً. سيحدث شيءٌ ما ثمّ يتلاشى،

لننتهي من حيث بدأنا… أي إلى الفوضى، وحكم الفرد.

كما هو شأن العالم الإسلامي في العادة”.

وحين يسأله محاوره عمّا أحـبه في العالم الإسلامي يجيب:

“أحببت إندونيسيا عـندما زرتها عام 1980.

حضارة لافتة وجذّابة، وقد أحببت ناسها الذين قابلتهم هناك.

لكنهم أصبحوا بعد ذلك أكثر تديّناً،

أكثر انشغالاً بالإسلام، وهو ما يؤثر فيهم سلباً”.

 يمكن تفسير هذه الرؤية الكارهة للعالم الإسلامي على خلفية نشأة نايبول.

فهو من أصول هندية، ومن مواليد ترينيداد في 17 آب 1932،

وقد درس في كوينز كوليدج في بورت سبين في ترينيداد ،

كما درس في جامعة أوكسفورد في بريطانيا

وحصل على شهادة البكالوريوس في اللغة الإنجليزية عام 1953،

وكان قد استقـر في لـنـدن منذ عام 1950.

عمل نايبول بعد تخرجه محرراً في عـدد من الصحف والمجلات،

وكذلك في “هـيئة الإذاعـة البريطانية”  BBC،

كما عمل مراجعاً للكتب والروايات الصادرة حديثاً،

وقام بعدد من الرحلات في جزر الهند الغربية ،

وأمـريكا الجنوبية وإفريقيا والولايات المتحدة وكندا،

وآسيا، وخصوصاً الدول الإسلامية منها،

وأنجز عن رحلاته عـدداً من الكتب التي أثارت الكثير من اللغـط ،

بعد صدورها بسبب أسلوبها العـنيف ضد الإسلام والمسلمين.

حصل نايبول، قبل فوزه بـجـائزة نوبل للآداب عام 2001،

على عـدد كبير من الجوائز؛ ومنها جائزة سومرست موم (1961)،

وجائزة سميث الأدبية (1968)، وجائزة البوكر (1971) .

ويـعـتـبـر نايبول  واحداً من أكبر روائيي بريطانيا الأحياء،

ويقارن عمله على الدوام بروائي مهاجر آخر إلى بـريـطانيـا ،

هو جوزيف كونراد بسبب تركيز أعمالهما على الآثار الغائرة،

التي تركها الاستعمار في حياة الـدول المستعمـَرة ،

وأهلها من الأفارقة والآسيويين ودول الكاريبي.

إن حياة أهالي ترينيداد، بعمالها وفلاحيها وتجارها الصغار وسياسييها المحليين،

هي موضوع رواياته: The Mystic Masseur “المُدلّك الغامض” (1957)،

و  The Suffrage of Elvira “صلاة إلفيرا” (1958)،

و Miguel Street “شارع ميغيل” (1959)،

حيث يصف نايبول هذا العالم المعـقـد من العيش والبؤس والصراع،

بحدس بالغ الذكاء وحسٍّ عالٍ من المرارة.

في كتابه The Middle Passage: Impressions of Five Societies

 British, French and Dutch in the West Indies and South America

“العبور الوسيط: انطباعات عن خمسة مجتمعات؛

بريطانيا وفرنسا وهولندا والهند الغربية وأميركا الجنوبية” (1962)،

يتحدث نايبول عن المزارع الكاريبية والثراء الفاحش الذي يمتلكه أصحابها،

وكذلك الإهمال والسقوط الأخلاقي المروع ،

الذي يميز حضور الدول الاستعمارية في تلك المناطق من العالم.

إنه يرسم الفوضى التي تهيمن على المكان بلغة حميميّة،

تمتلك الكثير من الطاقة الخلاقة حيث يتعارض صوت الراوي الهادئ المثقف،

مع أصوات الشخصيات الكاريبية بلهجاتها اللاتينية المحلية،

 ذات النبرة الخشنة غير المصقولة.

في مقالة نشرها نايبول في  The Times Literary Supplement ،

الملحق الأدبي لصـحـيـفـة “الـتـأيـمـز” البريـطانيـة عام 1958 ،

يكتب نايبول عن ترينيداد قائلاً:

“إذا نظرنا إلى الأمر بسطحية ، فسنرى أن ترينيداد متعددة الأعراق،

ذات أسلوب معقـد في العيش،

لكنها بالنسبة الى من يعرفها مجتمع بسيط متخلف يعيش بذاكرة استعمارية”.

ويكتب عام 1980: “هؤلاء الترينيداديون يعيشون حياتهم مثل الحيوانات،

وهو ما أجده أمراً وضيعاً وتافهاً…

يؤهلهم فقط ليكونوا موضوعاً للباحثين الأكاديميين المتعاطفين،

الذين يجرون دراسات عن الشـعـوب الـبـدائيـة المتخلفة”.

وفي كتابيه Among the Believers: An Islamic Journey

“بين المؤمنين: رحلة إسلامية” (981) و  Beyond Belief:”أبـعـد مـن الإيمان”،

ينظر نايـبـول إلى تاريخ الدول الإسلامية،

إندونيسيا وإيران وباكستان وماليزيا،

بوصفها فـقـدت ارتباطها بتاريخها القديم.

“لقد جرّدها الغـزاة العـرب [كــذا…!!] من صلتها بتاريخها،

وربطوها بتاريخهم وديانتهم وأماكنهم المقـدسة”.

وشخصيات نايـبـول التي نقابلها في أعماله ذات بعـد آحادي،

وطابع كوميدي أشبه بالكارتون ،

وليس من بينها ما يمكن إعـتباره المواطن المثالي ،

بالنسبة لمجتمعه أو حتى طبقـته الاجتماعية أو تخصصه.

وهي دائما شخصيات مشوقة لكن ليست لديها بصيرة ،

ولا يمكنك أن تجد لها نماذج في الواقع ،

حتى في المجتمع البريطاني الذي يعشقه نايـبـول.

وهو يسخر من شخصياته لأنها نسيت جذورها ،

وتبنت الأسماء العربية والاسلامية أو ما أطلق عليه “الإذلال العميق”:

لكن نفس الشيء لا ينطبق على المسيحيين الامريكيين والاوروبيين ،

الذين يتحدث عنهم نايـبـول بإعجاب…

وهو ينسى أن تلك الدول التي اختارها للبحث لم تتحول للاسلام ،

بسبب الفتح الاسلامي لكن بعد قرون طويلة من الدعوة،

والعرب لم يـُجبروا أحداً في إيران على دخول الاسلام ،

لأن غير المسلمين مطلوب منهم دفع جزية ،

وهو ما كان يضمن دخلاً ثابتاً للدولة الاسلامية.

وأكدت الابحاث التاريخية أن الايرانيين إعـتـنـقـوا الاسلام ،

بعد إعتناق الاسرة المالكة له عقب خروج العرب،

وتجربة شبه القارة الهندية شبيهة بالتجربة الايرانية،

وكذلك الأتراك والمغول لم يتعرضوا أبدا للغزو الاسلامي بطريقة منتظمة،

بل أن التحول الحقيقي للاسلام من جانب الهنود كان خلال حكم الراج البريطاني.

والشيء نفسه يصح على ماليزيا واندونيسيا ،

فلم تتعرضا أبداً لغزو إسلامي لكنهما إعـتـنـقـتا الإسلام،

عن طريق التجار المسلمين والمبشرين والصوفيين.

وبكلمة اخرى، لم يفرض الاسلام عقيدته بالطريقة المسلحة قط ،

بينما نجد أن القارة الامـريكية، مثلا، اعـتـنـقـت المسيحية بقوة السلاح.

لكن نايـبـول يتأسف على الباكستانيين الذين “منعـوا عاداتهم الهندية رغم انهم هـنود بالعرق”.

وما لا يعلمه نايـبـول أن الهندوسية دخلت شبه القارة الهندية ،

بالغزو عبر الغزاة الآريين الذين أجبروا السكان المحليين على إعتناقها.

ولكن الفرق هو أن ذلك حدث قبل 1500 سنة من ظهور الاسلام.

وحتى البوذية التي يفترض أنها ديانة غير تبشيرية،

لكن انتشارها يعود لجيوش الإمبراطور آشوقا الغازية.

ولو كان مطلوبا من العالم كله أن يحافظ على جذوره ،

لأصبحت أوروبا الآن تعـبد آلـهـة الإغـريق وتقـدس جبل الأوليمب.

مغالطات تاريخية

يتجاهل نايـبـول ،الذي يرى الإسلام على انه مجرد “تدخل عـربي”،

يتجاهل الحقائق التاريخية، فالإسلام ليس فقط ديانة لكنه ثقافة أيضاً ،

وحضارة وطريقة حياة تعـتـنـقـهـا دولُ عديدة عبر قرون طويلة.

فـيديادار سوراجبراساد نايـبول روائي كبير،

يعـتصر في أعماله الروائية الأساسية تاريخ البـحـرالكاريبي،

لكنه يـُصر ،خلال الـعـقـدين الأخيرين من كتاباته،

عـلى أن يردد الكليشيهات الكارهة نفسها، عن الهند والكاريبي والعالم الإسلامي.

لقد رضي السير نايبول لـنـفـسـه أن يكون الخبير المحلي ،

الذي يقدم للغرب الرؤية التي يرتاح لها هذا الغـرب ،

فـي الكتـابــة عــن العالم الثالث،

تلك الكتابة “الاستشراقـية” التي تصف داء يتمثل في تخلف أبناء العالم الثالث،

وعدم قـدرتهم على اللحاق بالحضارة الأوروبية، مهما حاولوا!

كأن العـلّة في العـرق لا في الـتـاريـخ…!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Social Media Auto Publish Powered By : XYZScripts.com