أهـلُ الـعــَقــْـل وأهـلُ الـنـَـقـْـل : بـيـن “الـهـَرطـَقــَة” و “الـزَنـدقــَة”..!!الدكتور عـبـدالقـادر حسين ياسين

كان العرب يقولون إن الناس يقعون في صنـفـين إثـنـيـن.‏

فهم إما أن يكونوا أهل عقـل، وأما أن يكونوا أهل نقـل.‏

 

أما أهل العقـل، فإن عـقـلهم هو الميزان الذي يزنون به الأمور،

فما جاء مخالفاً للعقـل تركوه، وما جاء موافقاً للعقل أخذوه.‏

 

وأما أهل النقـل، فإنهم استعاضوا عن الـعـقـل بالـنـقـل،

وكان ما فعله غيرهم من الأقـدمين، أو ما قالته الكتب على ألسنة هؤلاء الأقـدمين،

هو المرجع والمآل.‏

 

ومـن نـافـلـة الـقـول أنه في حياتنا المعاصرة ،

يوجد أهل عـقـل وأهـل نقـل.‏

 

فأما أهـل العـقـل، فإن مقياسهم في قبول فكرة أو رفضها ،

هو مدى مطابقة هذه الفكرة للـعـقـل والمنطق،

أو مدى القدرة التي تتمتع بها هذه الفكرة ،

في إثبات جدواها وصلاحيتها عند وضعها أمام التجربة،

فالتجربة هي محـك هذه الجدوى وتلك الصلاحية،

وهي مقياس سلامة الفكرة وصوابها.‏

أهل العـقـل لا يكتفـون بقـراءة الكتب وحدها،

فـلـيس بالكتب وحـدها يحيا الإنسان.‏

 

وأهل العـقـل عندما يقرؤون، فإن قراءتهم لا تعـميهم عن التدقيق والتمحيص ،

والموازنة والمقارنة قبل أن يقبلوا ، وقبل أن يرفضوا.‏

ولا ينظرون إلى الكتب على أنها كلام منزل،

لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ،

ولا على أنها نصوص مـقـدسة لا تقـبل المحاججة.‏

ولا يرون إلى ما قاله هـذا الـكـاتب في الشرق،

أو ما قاله ذلك الـبـاحـث في الغرب،

على أنه الكلام الذي لا كلام بعـده.‏

 

لكن أهل النقـل يفعلون شيئاً آخر تماماً.

ذلك أن مقياسهم في قـبول فكرة أو رفضها ،

هو مطابقة هـذه الفكرة لنص معين،

فما يقوله هذا النصّ هو الحق كله، وما لا يقوله هو الباطل كله.‏

الفكرة عند أهل النقـل ينبغي لها أن “تطابق النص مطابقة تامة”،

فإذا خالفـته في قـليل أو كثير وقعت في الخطأ الذي لا غـفـران بعده،

وخسرت فرصتها في أن تحيا وتـتـنـفـس.‏

 

أهـل الـنـقـل يكتفون بقـراءة الكتب، فبالكتب وحدها يحيا الإنسان،

وهم عـندما يقرؤون، فإنهم يفتحون عيونهم ويغمضون عقـولهم،

فما كان من هذا الكلام المقروء مطابقاً لكلام آخر ،

حـفـظوه عن ظهر قلب من كثرة ما ردَّدوه، وأخذوه.

وما كان منه مخالفاً لهذا الكلام الذي حفظوه، تركوه وأهملوه.‏

 

وهم يمضون إلى ما هو أبعد من ذلك.

إنهم يرون إلى أي كلام جديد على أنه “هـرطـقـة”،

يستحق صاحبها أن يـُساق إلى ساحة الإعـدام ،

ليرمى بالرصاص عند الفجر،

كما يرون إلى أي خروج على النصوص المحفوظة،على أنه “زندقـة”،

يستحق صاحبها أن تـنـصب له المشانق في الساحات العامة.‏

 

والعـين المدقـقة تستطيع أن تقع على أمر ناصع في وضوحه،

وهو أنه ما زال بيننا أهل عـقـل وأهـل نـقـل.‏

 

ما زال بيننا من يرى في الاحتكام إلى العـقـل،

سبيلاً للوصول إلى الحقيقة.‏

 

وما زال بيننا من يرفـض النظر إلى الكتب ،

على أنها كلام منزل لا يأتيه الباطل،

وعلى أنها نصوص مقـدسة لا تقـبل المحاججة.‏

 

وما زال بيننا من يفـتح عينيه جيداً عندما يقرأ،

وبالتالي فإن قراءته لا تعميه عن التدقيق والتمحيص،

والموازنة والمقارنة قبل أن يقبل هذه الفكرة أو قبل أن يرفضها.‏

 

وما زال بيننا من يرى إلى أن التجربة وحدها ،

هي محك الحقيقة وهي مقياس سلامة الفكرة وصوابها.‏

 

وما زال بيننا من يرى إلى أن العقـل ،

هو الميزان الذي توزن به الأمور،

فما كان من هذا الأمر مخالفاً للعقـل،

وجب تركه والتخلي عنه،

وما كان من هذا الأمر موافـقاً للعقـل، وجب الأخذ به.‏

 

لكن هناك بيننا أيضاً، إلى جانب أهل العـقـل أهل نقـل.‏

ما زال بيننا من يرى إلى مطابقة الفكرة لنص معين،

مقياساً وحيداً في قبول هذه الفكرة أو في رفضها.‏

 

وما زال بيننا من يقع أسيراً لمرض اسمه “عـبادة الـنـصوص”،

فما يقوله هذا النصّ هو الحق كله،

وما لا يقوله هذا النصّ هو الباطل كله.‏

 

وما زال بيننا من يفتح عــيـنـه ويغمض عـقـله،

وما زال بيننا من يرى إلى الخروج على النصوص المحفوظة،

على أنه نوع من الـهـرطـقـة.‏

وأنا أعـرف الكثيرين ممن تستهـويهم هـذه العادات السيئة.‏

 

إنهم ما إن تدخل معهم في مناقشة ما،

حتى يعـيدوك إلى هذا الكتاب أو ذاك.‏

 

وحين تقول لهم أنه ليس بالكتب وحدها يحيا الإنسان،

فإنهم سرعان ما يرون إليك على أنك لست جديراً ،

بأن تخوض معهم في هذا النقاش.

 

كـذلك فإنهم كثيراً ما يعمدون إلى مسخ الحياة كلها ،

وتحويلها إلى مجرد كلمات محفوظة عن ظهر قلب،

أو مجرد نصوص مطبوعة في كتاب.‏

 

والغـريب في الأمر هو أن هذا النـفـر من الناس ،

لا يعرف أن هـناك شيئاً اسمه “الناسخ” و “المنسوخ”.‏

إنه لا يعرف أنه ليس هناك شيء اسمه الكلام الذي ليس بعده أي كلام.‏

بل إنه لا يعرف أن النصوص التي كتبت في عصر معين ،

إنما كتبت لتلبية حاجات معينة،

وهي بالتالي نصوص قابلة للتواري عن الأنظار ،

لصالح نصوص أخرى أكثر قدرة على التعبير عن حاجات العصر.‏

وأما أهل النقـل الغابرون، فلعل لهم عـذرهم، لكن التماس العذر لأهل الـنـقـل المعاصرين ،

هو أشبه ما يكون بالتماس العـذر لمن اختار طواعية أن يعطل عقله،

وأن يضع بينه وبين الحقيقة حجاباً، وأن يتحول بمرور الزمن ،

إلى جواد مفتون بالدوران حول نفسه.‏

 

الكسالى وحدهم هم الذين يؤثرون استعارة الأفكار الجاهزة،

لأن استعارة الأفكار الجاهزة تعفـيهم من مشقة البحث والتأمل وإمعان الفكر.‏

والكسالى وحدهم الذين يفـتحون الكتب ويحفظون ما فيها عن ظهر قلب،

ثم يرددون هذا الذي حفظوه.‏

والكسالى وحدهم هم الذين يخيل إليهم أن الكلمة الأخيرة قد قيلت،

وأنه ليس بعد هذه الكلمة أي كلام.‏

والكسالى وحدهم هم الذين يقع في ظنهم أن العالم محكوم بنموذج واحد للتطور.‏

 

هذه ليست دعـوة إلى أن نصدّ أنفسنا عن الآخرين بالتعصب،

ولا أن نعـصب عيوننا ونتحول إلى جياد مفتونة بالدوران حول نفسها.‏

إنها دعـوة إلى أن تكون لنا عـيوننا الخاصة بنا وعقولنا الخاصة بنا، وتجاربنا الخاصة بنا.‏

ذلك أن التجارب الأصيلة لا تصلح للإعارة أو الاستعارة،

إنها تجارب أملتها الشخصية القومية لأمة من الأمم.‏

وبهذا المعنى يمكن القول إن هذه التجارب الأصيلة ،

إنما هي من صنع حكمة الشعوب وفلسفـتها وحاجتها إلى التعبير عن نفسها بهذا الشكل أو بغيره.‏

 

وإذا كان حقاً لنا، بل واجباً علينا، أن نستفيد من تجارب الآخرين وخبراتهم،

فليس معنى ذلك أن ننقل هذه التجارب والخبرات نقلاً حرفياً،

لأن هذه التجارب وتلك الخبرات إنما هي ملك الشعوب التي صنعتها وابتكرتها،

ولأن هذه التجارب وتلك الخبرات لم توجد بمحض المصادفة،

وإنما هي حصيلة أوضاع وظروف وملابسات اجتماعية واقتصادية وسياسية وثقافية.‏

وبكلمة واحدة وباختزال شديد، فإنها حصيلة ملابسات حضارية.‏

 

وبــعـــد ؛

 

ليس في هذا الكلام كله أي انتقاص من قدر أية فكرة. ففي كل فكرة جانب من الحقيقة لا يمكن التقليل من شأنه.‏ لكن عيوننا ينبغي أن تظل دائماً مفتوحة على الحقيقة القائلة،

إن كتاب الحياة أشد ثراءً من أي كتاب، وأن مدرسة الحياة أغـنى من أية مدرسة فكرية مهما كان شأنها.‏

ومرة أخرى، فإني هنا لا أعلي من شأن الممارسة على حساب النظرية، وإنما أعلي من شأن العقل الذي يرى إلى الحياة في رحابتها،

ولا يكتفي برؤيتها من خلال ثـقـب الباب.‏

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Social Media Auto Publish Powered By : XYZScripts.com