قصة قصيرة-  مدرسة شحاده ابن عناد / بقلم د. كاظم ناصر

دخل  شحادة ابن عناد المدرسة الابتدائيّة في قريته عندما كان في السادسة من عمره في عام 1952. كانت المدرسة مبنيّة من الحجارة والطين، إسمنتيّة الأرض، عارية الجدران، ومكتظّة بالطلاب حيث كان يتواجد في كلّ فصل ما بين 60-70 طالبا، ولوح ( سبورة سوداء ) قديم متآكل عليه بعض الطباشير، ومقاعد خشبية متهالكة جرّدها الزمن من لونها الحقيقي يجلس على كلّ منها ثلاثة طلاب.

لا أحد يعرف بالتحديد متى بدأ التعليم في القرية، لكن من المؤكد أن أهلها حوّلوا كنيستها الوحيدة المهجورة المحاذية للمسجد الواقع في منتصفها إلى مدرسة للذكور لتعليم القراءة والكتابة والقرآن والدين، وبقيت المدرسة الوحيدة حتى شيّد أهل القرية مدرسة ابتدائية خلال الثلاثينيّات من القرن العشرين، ولهذا يمكن القول إن تعليم الكتاتيب كان موجودا فيها على نطاق ضيّق منذ منتصف القرن التاسع عشر. والدليل على ذلك  هو أن  بعض كبار السن من أهل القرية الذين ولدوا ما بين 1875 – 1900 وكانوا في الستينيات والسبعينيات من العمر في بداية الخمسينيات من القرن العشرين، ومنهم على سبيل المثال لا الحصر حسين ابو شهاب، ومحمد عبد الهادي الملقب ( بالخطيب) الذي كان يكتب حجج ( صكوك ) بيع وشراء الأراضي لأبناء القرية، ويوسف اللافي إمام مسجد القرية، ومحمد  أبو ناصر( كاتب الحجابات التي كانت تستخدم لعلاج جميع أمراض الأطفال بما في ذلك الإصابة بالعين الشريرة )، وغيرهم كانوا يقرؤون ويكتبون.

كان عناد اميّا، وكان يقول لابنه شحادة ( انشالله السنه الجايه بنحطك في المدرسه مشان تتعلم تقرا وتكتب وتصير زلمه متعلم على كد حالك.)  شعر شحادة بفرح غامر لأن الذهاب إلى المدرسة سيكون تجربة جديدة، ولأن أهل القرية كانوا يحترمون المتعلّمين الذين يقرؤون القرآن ويكتبون. وقبل بداية العام الدراسي في صيف عام 1952 مدّن ( ذهب ) عناد وابنه شحادة إلى المدينة ليشتري له التجهيزات المدرسيّة الضروريّة : أخذه عند الخيّاط وفصّل له بنطلون وقميص ( كاكي )، واشترى له كندرة حمره جديدة، وشنطة، وكذلك اشترى له دفتر وقلم رصاص ومساحة من بقّالة القرية، أما برّاية  قلم الرصاص فكانت شفرة حلاقة قديمة استعملها والده حتى بدحت ( لم تعد صالحة للحلاقة )؛ ثم أخذه والده عند حلاّق البلد طاهر المعطي رحمه الله ليحلق له دبسة (على الصفر) ويكون بذلك جاهزا للذهاب إلى المدرسة. كان أهل القرية يباصرون عند الحلاق أي ( يتفقون معه ليحلق لهم ولأولادهم طيلة العام ) مقابل ثمنيّة  قمح ( وعاء خشبي كان يستخدم لكيل كمية المحصول قد يزن ما يحتويه من قمح  إلى 15 كيلو ) تعطى للحلاق بعد جمع المحصول في الصيف.

كان شحادة توّاقا لتلك التجربة، وفي يوم الدراسة الأوّل استيقظ من النوم باكرا، وارتدى ملابسه الجديدة وحذاءه الأحمر اللامع، وحمل حقيبته، وتوجّه إلى مدرسته وهو في غاية السعادة. لكن طلاب الصف الأول المستجدين ومن ضمنهم شحادة، ولسبب تنظيمي، أمضوا يومهم الدراسي الأول في مبنى الكنيسة القديم الملاصق للمسجد الواقع في مركز القرية التجاري المكوّن من عدد محدود من محلات البقالة وملحمة ومقهى.

تجمع الطلبة أمام باب الكنيسة في ساحة المسجد، تم جاء الأستاذ وطلب منهم أن يصفّوا، وبعد ذلك بدأ المدرس بأداء تمرين رياضي والطلاب يقلّدونه. في هذه الأثناء تجمّع بعض أهالي القرية من الرجال الذين كانوا في المنطقة ليراقبوا الصغار، ولأن أهل القرية كانوا يعرفون بعضهم بعضا، فقد كان المنظر جذابا للصغار والكبار على حد سواء؛ نظر شحادة إلى يمينه خلال ممارسته لهذا التمرين الرياضي مع الطلاب لأول مّرة في حياته، فشاهد اثنين من أقاربه يراقبانه ممّا أشعره بالفخر والسرور الغامر والرضى عن نفسه وقدراته.

دخل الطلاب الكنيسة وجلسوا على المقاعد الخشبية  الموجودة فيها. كان شحادة طفلا ممتلئا بالحيويّة ويتمتّع بخيال جيّد، وبعد أن أجلسه المدرس مع طفلين آخرين على أحد المقاعد الأماميّة لأنهم كانوا قصار القامة، نظر حوله إلى داخل الكنيسة البديع الذي لم يرى له مثيلا في حياته. المنظر سحر عقله الصغير، وأطلق العنان لخياله الطفولي المحدود ليتجوّل في داخل المبنى ويندهش ويستمتع بمكوناته. كانت قبة الكنيسة عالية جدا ومزركشة برسوم جذّابة وتصميم هندسي مميّز، وكانت نوافذها المتعدّدة بزجاجها الملوّن في غاية الروعة والجمال على الرغم من الإهمال الذي لحق بها خلال القرون الماضية.

طبعا لم يدرك شحادة أن أجداده كانوا يعيشون في القرية ويتكلّمون اللغة الآرامية قبل ظهور المسيح، وعندما ظهر عيسى ابن مريم عليه السلام وبشّر برسالته السماوية آمنوا بها واعتنقوا الدين الجديد، وإنّهم هم الذين شيّدوا هذه الكنيسة الضخمة الرائعة بأيديهم وبجهدهم وعرقهم، وقرعوا أجراسها ليذكّروا المؤمنين بمواعيد الصلاة، وكانت قاعتها المستطيلة تعجّ بالمؤمنين الذين حضروا قدّاس كل يوم أحد فيها، ورتّلوا الأناشيد الدينية واحتفلوا بعيد ميلاد المسيح والأعياد الدينية الأخرى فيها، وتزوجوا فيها، وعمّدوا اطفالهم فيها، وطلبوا من الله أن يحفظهم ويدخلهم الجنّة فيها، وإن الخورة وقفوا في جزئها الشرقي ليلقوا مواعظهم ويقودوا الصلوات فيها، وإنها كانت مركزا اجتماعيا مقدّسا يلتقي فيه أجداده الأوائل ليمارسوا حياتهم الدينيّة الأخلاقيّة المسالمة البسيطة.

 وكانت حولها ثلاث حجرات صغيرة ربّما استخدمها الرهبان والراهبات للنوم والمعيشة، لكن هذه الحجرات التي كان يقود اليها درج قديم تحوّلت إلى مكان لتصليح الأحذية، ومطعم للحمص والفول والعوامّة ( لقمة القاضي ) لكنه أغلق لقلّة الزبائن، وبقالة استمرت حتى تم هدم الكنيسة في الستينات من القرن الماضي، وإنه كان يوجد في القرية دير، وإن إحدى حمائل القرية ما زالت تسمى ” الديريّة” أي أهل الدير،  ربّما نسبة إلى الدير الذي كان في تلك المنطقة.

نادى الأستاذ الأسماء للتأكد من الحضور، وبعد ذلك قدّم لكل طالب نسخته من كتاب القراءة الذي كان الأطفال وأهلهم يسمّونه ” راس روس ” واخبرهم أنهم لن يداوموا في هذا المبنى بعد الآن، وطلب منهم أن يذهبوا إلى فصلهم في المدرسة الابتدائية ابتداء من الغد. في اليوم التالي ذهب شحادة إلى المدرسة، وبعد طابور الصباح دخلوا فصلهم الجديد وتم إغلاق مدرسة الكنيسة إلى الأبد.

كانت المدرسة مكوّنة من عشر حجرات : خمس منها في الشمال وخمس في الجنوب؛ منها ثمانية فصول دراسية، وحجرة مخصّصة للمدير وأخرى لأعضاء الهيئة التدريسية، وتقدم خدمات تعليمية لقرية شحادة والقرى الصغيرة المجاورة التي كان الطلاب يأتون منها في الصباح ويعودون إليها بعد الظهر. وكان فيها ملعب كرة قدم، وآخر لكرة السلّة، وفي ساحتها بئر ماء يشرب منه الطلاب، ولم يكن هناك حمّامات فكان الطلاب يقضون حاجاتهم الطبيعيّة في المناطق المحيطة بالمدرسة ولهذا كانت مياه البئر تتلوّث ويضعون فيها كمية من الكلور الذي يجعل مذاقها رديئا ولكنه كان بدون شك يقتل الكثير من البكتيريا الضارة الموجودة في الماء.

كان المدرسون في مدرسة القرية من حملة الشهادة الثانوية، لكنهم كانوا في منتهى الطيبة والإخلاص في عملهم. كان الناس في ذلك الوقت ينظرون إلى المدرس  كشخص متعلّم له مكانة اجتماعية مرموقة، وكان شحادة والطلاب يعتقدون أن من واجبهم احترامه وإطاعة أوامره، وكانوا يهابونه ويخشون غضبه لأنّه كان مطلق الصلاحيّات في فصله، ويعاقبهم  بالضرب بالمسطرة أو العصا على أياديهم أو بالفلقة ( الضرب بالعصا على اقدامهم بعد نزع أحذيتهم ) دون اعتراض من الإدارة، وكان آباء الطلاب يقولون للأساتذة عندما يلتقون بهم في دروب القرية أو مركزها التجاري ” يا استاد (ابني عبدالله ) ابنك، إنت إلك اللحم وأنا إلي العظم “، وكانوا يعنون بذلك علّموا ووجهوا وعاقبوا أبناءنا كما تشاؤون لأن ذلك لمنفعتهم، وكان هذا التعامل دليلا على الثقة والاحترام المتبادل بين الجميع، ومن أجل منفعة الجميع، ولا يتعارض مع القيم الأخلاقيّة والمعايير التربويّة لتلك المرحلة التاريخيّة.

كان شحادة ذكيّا ومتفوّقا في فصله، وودودا مع الطلاب الآخرين، ومحبّا للرياضة والحياة؛ وكأبناء جيله في ذلك الوقت كان لا يعرف العاب الأطفال؛ كل ما كان يحصل عليه هو نصف قرش أو قرش أردني يشتري به قوال ( بنانير) ليلعب بها معهم في حارة الحامولة الترابية أو على بيادرها المنبسطة الضيقة. أما الألعاب الأخرى الشائعة بين اطفال القرية فكانت مسدسات الكبسون ( مسدسات حديديّة أو بلاستيكيّة صغيرة تعبأ بلفافات ورقية تصدر صوتا ورائحة بارود عند الضغط على الزناد)، وطابات الشرايط ( الكرات المصنوعة من بقايا الملابس البالية)، والدحيجيّة ( عجلة خفيفة من الحديد ) يحصل عليها الأطفال ثم يقومون باستعمال تيل ( سلك من الحديد المقوى تكون مقدمته على شكل حرف u باللغة الإنجليزية ) يستخدمونه لدفع العجلة لتجري ويجرون وراءها. لقد كان الحصول على هذه الألعاب البسيطة البدائية مفرحا لهم، ويستمتعون جدا بممارستها بعد نهاية اليوم الدراسي وفي عطلة الصيف وغيرها من الأيام التي لا يذهبون فيها الى المدرسة.

انهى شحادة عامه الدراسي الأول بتفوّق . لقد حصل على الترتيب الثاني وكان المنافس القوي لمحفوظ  الطالب الذي كان ترتيبه الأول في الفصل. عندما استلم شحادة شهادته شعر بالفخر والاعتزاز بنفسة، وانطلق راكضا إلى البيت ليخبر والديه الأميّين بنتيجته المدرسية المشرّفة. سرّ والداه بالخبر، وأعطاه والده قرشين حلوان التفوّق، وفقست ( قلت ) والدته له بيضتين مع الزبدة البلديّة. وبعد أن تناول غداءه ذهب إلى الدكان واشترى بتعريفة ( نصف قرش أردني ) ملبّس ( حلوى صلبة بنكهات مختلفة .) لكن الذي زاده سرورا واعجابا بنفسه هو أن الرجال الذين كانوا متواجدين في البقالة سمعوا بخبر تفوّقه، وعندما رأوه أظهروا إعجابهم به وبذكائه واثنوا عليه، وبعد حصوله على الحلوى انطلق راكضا نحو البيادر ليلعب مع أقرانه وهو في منتهى السعادة ” الدنيا مش واسعته .”

في اليوم التالي حمل شحادة دفاتره وبعض كتبه التي استخدمها في العام الدراسي المنصرم وذهب إلى بقالة أبو (علي ) ليشتري بها عجوه ( من أرخص أنواع التمور) ، أو ملبّس، او قظامه ( حمص مقلي ) . كان أبو على يقبل كتب ودفاتر الطلاب القديمة ليستعملها في لف الشاي أو التمر أو الحلاوة لكي يقلّل من استهلاكه للأكياس الورقية التي كان يشتريها من المدينة. كانت مقايضة رخيصة ومجدية للطرفين على الرغم من بساطتها للبائع ورخصها للشاري. وبعد ان تفحّص أو على الدفاتر والكتب، أعطى شحادة حبيبات من التمر فتحلّو( تحلّى ) وشكر الله سبحانه وتعالى على نعمه بنية صافيّة بعيدة عن النفاق والتزلّف.

استمتع شحادة بإجازته الصيفيّة التي استمرت ما يزيد عن شهرين لعب خلالهما معظم الوقت، وساعد أهله في حصاد، ودرس، ونقل محصول القمح إلى البيت وتخزينه في الخوابي ( أماكن تخزين الحبوب التي كانت تبنى داخل البيت من التراب الأصفر( الحوّر) المجبول بالتبن والمقوى بجذوع الأشجار والتي كانت جزءا مهما من بيوت الفلاحين )، ونقل التبن ( قش نبتة القمح المقطّع بعد درسه الذي كان يستخدم كطعام للحيوانات )، والقصل ( بقايا قش نبتة القمح الأكثر خشونة وكان يستخدم كوقود للطابون) إلى الراوية ( مكان لتتخزين  التبن والقصل يقع خلف الخوابي مباشرة)

وقبل دخوله الصف الثاني جهّزه والده للمدرسة كما فعل في العام السابق، ومرت السنين وبقي شحادة خلالها محافظا على تفوّقه في دراسته. كان في الصف الثاني الإعدادي يحلم بإكمال تعليمه ويكون طبيبا مشهورا يعالج الفقراء مجّانا، لكن والده كان فقيرا لا يستطيع إرساله إلى المدينة لإكمال دراسته، ولهذا اضطر شحادة إلى ترك الدراسة في عام 1960 ليساعد والده في فلاحة الأرض ورعاية الحيوانات التي كانت تملكها العائلة .

وبعد ان انتهى العام الدراسي واستلم شحادة  شهادة الصف الثامن وكان تقديره الثاني على 15  طالبا ( لقد ترك معظم أقرانه مقاعد الدراسة قبل أن وصلوا الصف السادس .) لم يشعر شحادة بالسعادة التي شعر بها عند استلام شهاداته في الأعوام السابقة لأنه أدرك أن أحلامه الكبيرة لن تتحقّق، وان مستقبله قد تقرّر! عاد الى البيت مهزوما محبطا غاضبا يحمل شهادة تفوقه وهزيمته وأخبر والديه بنتيجته لكن والده لم يفعل شيئا، وقال له ” العين بصيرة واليد قصيره. هذا نصيبك يا ابني والمكتوب على الجبين لازم تشوفه العين .”

وبعد ان تناول طعام الغداء، ذهب إلى البقالة وجلس مع الرجال على المقاعد الحجرية الموجودة أمامها واستمع الى أخر اخبار أهل القرية وقصصهم المكرّرة،  وشارك في أحاديثهم، وعاد الى بيته قبل غروب الشمس بقليل. وبينما كان يقف في فناء البيت، سمع شخصا ينادي ” يا سامعين الصوت صلّوا عليه النبي، أوّلكم محمد وثانيكم علي، وثالثتكم فاطمه بنت النبي، يا من شاف، يا من أره (رأى ) جاجه حمره راسها اخظر،  والي ينكرها يعدم ماله وعياله على ما ظبت ( ملكت ) يمينه وشماله، صاحب القط، لعمى ينط، صاحب الطاحونه، من قلت المونه !) كان الفلاحون في قريته يطلقون هذا النداء الذي يعرفونه جميعا بحثا عن شيء مفقود ( دجاجة، أو حبلا، أو محفظة إلخ .)

 حاول شحادة أن يفهم تناقضات مفردات ومعاني هذا النداء الذي كان يسمعه كثيرا، لكنه أخفق ولم يدرك حينئذ بأن الوقت كان ما زال مبكرا لعقله الصغير أن يفهم عمق وأبعاد مأساته، وحل الظلام ، وتعشى ونام وهو يحلم  بغد مشرق !

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Social Media Auto Publish Powered By : XYZScripts.com