غزة.. وبكاء الرجال !!!!.. وفيق زنداح

عندما أكتب عن غزة … اكتب عن أهلها … عائلاتها … بكل من عاش على أرضها على مدار عقود طويلة… بقدم تاريخها وإحياءها وجذور عائلاتها … لا اكتب عن غزة الجديدة الحديثة ببناياتها الشاهقة وشوارعها المضيئة… وبسياراتها الفاخرة … والذين بمجموعهم… وحتى بأغلبيتهم لا يمثلون تاريخ غزة … ولا يعبرون عنها … ولا يتحسسون مشاعرها … ولا يتحدثون عنها من خلال الإعلام والتصريحات … إلا لأغراض خاصة… ومنطلقات محددة… ورؤية أحادية مصلحية … ليس لأنها غزة الحاضنة الدافئة المستقبلة لكل إنسان قدم إليها … واراد أن يعيش على أرضها … وبين أهلها .

يبدو أن هناك أناس كثر لا يعرفون عن غزة… حتى وأن عاشوا فيها وسكنوا وشيدوا الأبراج والفيلات… واستقلوا أفخم السيارات… وأكلوا أحسن وأفضل الطعام … وعاشوا حياة الرفاهية إلا أنهم بحقيقتهم لا يعيشون في غزة … ولا مع أهلها وسكانها الحقيقيين.

غزة التي عشت فيها طوال عمري … ومن قبلي الأجداد والآباء كما غيري … ومدى تعارفنا على بعضنا البعض … بعائلاتنا التي تعرف بعضها … وبأحيائنا الملاصقة لبعضها البعض بحي الزيتون وعائلاته الطيبة…. كما حي الشجاعية بكل عائلاته المحترمة… كما الصبرة والرمال ومحافظتهم وحسن خلقهم … كما التفاح والدرج وحي النصر وما يربطهم من أواصر المحبة والمودة … غزة من بيت لاهيا وبيت حانون وحتى رفح بالجنوب ومن بحرها وحتى حدودها الشرقية والتي كانت تتزين بأشجار البرتقال والزيتون وأشجار النخيل وبرمالها الصفراء … ومياهها العذبة .. وما يربط بين عائلاتها من مودة ومحبة وتسامح .

كافة الناس الطيبين المحترمين العاشقين لتراب غزة والمحبين لعائلاتها … والذين عاشوا ولا زالوا يعيشون بأجيالهم الجديدة والذين توارثوا ما كان قائما ومتبعا وما تجذر بعمق وجذور تلك العائلات .

غزة التي نعيش فيها اليوم … ليست غزة الزمن الماضي … بكافة ظروفها وأحوالها ومعيشة أهلها .

لا يقول أحد أن غزة كانت باريس أو لندن أو بيروت… غزة كانت طوال عمرها ببساطتها… وتواضعها… وقلة دخلها…. ومنازلها الصغيرة والتي فيها من الطين أكثر من الطوب… والتي كانت تأكل من زرعها بصمت وحمد… وتشرب من مياهها بحلاوة زمانها وعشق مكانها … والتي تعيش بصمتها ولكن بكبرياءها وكرامتها وعزتها … والتي تنام على هدوء أمنها وسلامة جيرانها وأحياءها … غزة التي كانت على إيمانها وتدينها ووطنيتها وإخلاصها لفلسطينيتها .

غزة التي كنت تمر بشوارعها دون ازدحام … ودون أدنى تجاوزات …. دون عطل أو تعطيل بشوارعها النظيفة .

سكانها بطيبتهم الغالبة… وأخلاقياتهم العالية … وحسن تعاملهم الأمثل .

حقا لقد تأكد لنا الآن إننا نحن لسنا بغزة التي نعرفها…. والتي عشنا فيها عقود طويلة … لسنا بغزة التي تحدث عنها أجدادنا وآباءنا وأمهاتنا … وهي بالتأكيد ليست غزة التي عشنا فيها بمقدار عمرنا حتى الآن… بسنوات طفولتنا وشبابنا… وحتى مرحلة الرجولة والشيخوخة… فما هذا التغير ؟ وماذا حدث لنا ؟ .

أين ذهبت غزة بكل صفاتها وسماتها .. عاداتها وتقاليدها … إيمانها وجذور تاريخها ؟!

لقد وصلت غزة … لبكاء الرجال الأشداء العظماء … وصلت غزة لتستمع إلى آهات الأمهات … وأنين الأطفال … وصراخ الجياع … وغضب الشباب .. وصلت غزة إلى حالة من التفكك … وقرب السقوط … وصلت غزة ببعض أجزاءها وأفرادها إلى الإدمان … ومحاولة الانتحار … وحرق النفس … وصل بالبعض إلى أمراض نفسيه وحالات اكتئاب … وحالات قصور وعجز … وصلت غزة إلي حالة الإفلاس لتجار محترمين … هذه ليست غزة … وبالتأكيد وبالمطلق لم ولن تكون غزة التي نعرفها … وما أنقلب فيها … وما حدث عليها … من متغيرات سلبيه وسوء معاملات كما سوء العلاقات… والحديث يطول حول ما وصلت إليه غزة وبعضها والذي لا استطيع الكتابة عنه … أو الإفصاح عن تفاصيله لحساسيته الشديدة …. وحتى نبقي حتى ولو على الجزء اليسير من جمال الصورة .

غزة لمن لا يعرفها … وأقولها وأكررها … لم ينام فيها أحد جائع …. ولم ينام فيها أحد محتاج … ولم ينام فيها أحد يبكي وحده … ولم تنام أسرة واحدة دون احتضان جيرانها وعائلتها الكبيرة .

غزة التي كانت تعيش بكل القيم والمبادئ والمثل … وبكل التدين الحقيقي … غزة التي كان فيها بضعة مساجد … وبضعة مشايخ وبالاسم يعرفهم أهل غزة … لكن الإيمان كان كبيراً وعميقاً والأخلاق كانت تسود … والمحبة كانت تغطي الجميع والتسامح سيد الموقف … والحياة للجميع دون استثناء .

لم يكن هناك أحد فقير الى حد الجوع … كما لم يكن هناك أحد غني إلى حد الفساد … غزة التي عشنا فيها وغيري من أبناء جيلي لم يكن فيها إلي فرقة شرطة واحده .. لا يتعدى عددها بضعة عشرات لكن أمنها كان مستتبا .. ولم يحدث على مدار عمري وعلى مدار عقود طويلة … الا جريمة قتل واحدة … وجريمة سرقة واحدة … والكل يذكرها من أبناء عمري … بينما الجميع كانوا ينامون وابواب منازلهم مفتوحة … والجار يخاف على جاره … والجار يؤمن جاره … والجار يساعد جاره .

غزة التي عشنا فيها لم تعد موجودة … وقد غابت عنا … أو غيبت عنا … أو خطفت منا … لا أعرف بالضبط … لكن كل ما اعرفه إنني لم اعد أرى غزة … لا بجمال طبيعتها … ولا بحسن سلوك سكانها … ولا بنظافة شوارعها … ولا بمجموعة القيم والمثل والسلوكيات التي كانت قائمة بها بأغلبيتها.

نحن بغزة الجديدة … غزة الحديثة .. غزة والتي فيها بكل شارع عدد كبير من المساجد … وفيها بكل مسجد المئات من المصلين وكل من يسير بالشارع يسبح بحمد الله … لكن معاملاتنا لم تصل إلى حد معاملات الأقدمين منا … لماذا برأيكم ؟!!!

غزة لم تعود … ولن تعود … بعد أن أصابها الخراب … ودخلها التسوس … وبدأ ينخر بعظمها ولحمها وجسدها …. إلا هذا البعض القليل الذي لا زال على غزة القديمة … غزة الطيبة … غزة المحبة للجميع … غزة التي لا تعرف الكراهية ولا الحقد ولا البغضاء … غزة بكل أخلاقياتها وحسن معاملاتها لا زلنا نبحث عنها …. ونشتاق إليها … ونتعذب لأجلها .

بغزة عشنا بكبرياء العظماء … ممن كانوا يضعون على رؤوسهم طرابيش حمراء … والذين كانوا يرتدون القمباز … ويضعون على رؤوسهم الحطة والعقال .. كنا نعيش بجوار بعضنا … وبمحبة بعضنا … وبحسن معاملة بعضنا .

لقد فقدنا غزة الجميلة … بكل سماتها وصفاتها … ولم نعد نرى إلا القليل القليل … والجزء اليسير … وما تبقى من أجيال قديمه .. ومن عائلات أصيلة … ومن تعلموا على أيادي طاهرة … واكتسبوا المعرفة والفكر والوطنية والتدين من رجال عظماء فارقونا إلى ربهم … وتركونا على هذه الأرض نصارع الحياة … لأجل البقاء .. نصارع الحياة لأجل الإبقاء على ما تعلمنا وتربينا عليه … وما توارثناه من الأجداد والآباء .

غزة التي سقط فيها أشياء كثيرة … وحدث عليها متغيرات كبيرة وتبعثرت فيها أوراق عديدة .. ولم نعد نرى ملامح وسمات غزة وصفاتها … عزتها وشموخها وحسن تعاملها … لم نعد نرى غزة التي لا تنام لوجود فقير أو مريض أو محتاج أو حزين … أو رجل يبكي … أو أم تتألم أو طفل جائع … أو مريض يطلب الشفاء والعلاج .

لا أتحدث من فراغ … ولا أتكلم من الهواء … لكنني عشت وتعايشت داخل أسرة بسيطة … وداخل أحياء متواضعة وتذوقت حلاوة الحياة … ولم تنال مني مرارة اليأس والإحباط … عشت وحولي رمال صفراء .. وأشجار خضراء … وشوارع نظيفة … وهواء نقي … ومياه عذباء .

نحن أهل غزة عشنا على بحرها النظيف… ورماله الصفراء وعلى طول حدوده من بيت لاهيا حتى رفح …. بشواطئ جميلة خاليه من الشوائب ومن التلوث .

غزة التي عشنا فيها سنوات عمرنا وعلى مدار عقود طويلة بعائلاتنا وأحياءنا ورجالنا المخلصين الذين كانوا نعم الرجال .

اليوم أن ترى الرجال تبكي…. وان ترى النساء تتسول … ومعهم اطفالهم وبناتهم … أن ترى بعض العائلات لا تجد المأوى والمأكل أن تجد عشرات الآلاف لا يجدون فرص عمل … أن تجد الأرض وقد ضاعت …. والآمال وقد تبعثرت والشهادات وقد تم تمزيقها … والمعنويات وقد أحبطت … وتفاصيل الحياة المؤلمة والمآسي العديدة قد أخذت الناس بعقولهم ومشاعرهم وأحاسيسهم إلى حيث المجهول … والى حيث الخطر … والى حيث الضياع .

أين نحن نعيش في غزة هاشم ؟ ام نعيش في منطقة أخرى ؟!! …. ومع أناس آخرين … هل غزة دون حاكم … دون حكومة … دون أحد مسئول عنها ؟!!!! نريد أن نسمع من المسئول عن غزة حتى نحاسبه على بكاء الرجال … وصراخ الأطفال … وأنين الأمهات وضياع مستقبل أجيال … من يحكم غزة يعلن انه يحكم غزة … ومن لا يحكم …. يعلن أن لا يحكم غزة حتى نعرف إننا دون حاكم …. وحتى نحكم أنفسنا وننظم حياتنا … بما كنا عليه منذ عقود طويلة … وان نعود لنزرع حتى نأكل … ونحقر الأرض حتى نشرب … وان نعود إلى مصابيح الكاز حتى نضيئ … وان نعود إلى الأعشاب حتى نشفي مرضانا … لا نريد الحداثة .. ولا الأبراج الشاهقة … ولا السيارات الفاخرة …لأنها ليست لنا … إذا كانت ستفقدنا قيمنا وأخلاقياتنا وجذورنا وتاريخنا … إذا كانت ستفقدنا معنوياتنا ووطنيتنا …. وروحنا التي كنا نفاخر بها … ونعتز بها .

ابحثوا معنا عن غزة التي نعرفها… ويا ليتها تعود

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Social Media Auto Publish Powered By : XYZScripts.com