ما بعد اجتماع المجلس المركزي.. د. عبد المجيد سويلم

يمكن القول باطمئنان أن المجلس المركزي قد اجتاز اختبار المواقف السياسية المطلوبة بنجاح، كما اجتاز قبل ذلك مكان الانعقاد.

وعلى الرغم من كل محاولات تصوير الخلافات والاختلافات والاعتراضات والتعارضات بأكبر من حجمها، أو بأصغر منها، إلاّ أن هذه الأمور ليست سوى أشياء معتادة ومعهودة، وهي من طبيعة العلاقات الوطنية الفلسطينية وليس فيها أي خارق للعادة أو خروج عن المألوف الفلسطيني.

أما نقطة الضعف الكبرى في كل ما جرى في أروقة الاجتماع فكانت مسألة ترتيب البيت الفلسطيني. وعندما نتحدث عن ترتيب البيت الفلسطيني فنحن لا نقصد بيت «المنظمة» فقط، على الرغم من الأهمية القصوى والبالغة لترتيب هذا البيت أولاً، ولكن المقصود أساساً هو انخراط الكل الفلسطيني من نظام سياسي ديمقراطي واحد وموحد، يكرس الدستورية والديمقراطية ومبادئ الشراكة الوطنية، وأسس التوافق الوطني، بما يضمن إرساء هذا النظام حتى التحول إلى حالة ثابتة ومستقرة وملزمة، وبما يتجاوز نظام الكوتا، ودكتاتورية الفصائل، وحقوق «النقض» وغيرها من عوامل هشاشة وضعف هذا النظام.

الوحدة الوطنية مهمة دائماً، وهي بمثابة قانون أساسي للتحرر الوطني والاستقلال الوطني، وهي عماد حشد الطاقات الوطنية وتعبئة الموارد اللازمة للكفاح التحرري، كما أن الوحدة الوطنية هي ضمانة المسؤولية المشتركة للدفاع عن الوطن والحقوق.

لكن، وإضافة إلى كل ذلك، فإن الوحدة الوطنية في ضوء المستجدات الخطيرة الأخيرة، وخصوصاً انتقال الولايات المتحدة من دور الوسيط المزعوم إلى دور المساهم المباشر في تصفية (محاولة التصفية) الحقوق الوطنية الفلسطينية، وفي «إعلان» انخراط الإدارة الأميركية في المشاركة المباشرة بإنهاء العملية السياسية والسعي لتمويل «سياسات الأمر الواقع» التي تقوم بها إسرائيل إلى «حقائق سياسية» غير قابلة للتفاوض سواء تعلّق الأمر بالأرض أو حق العودة أو القدس.

هذه المستجدات هي في الواقع ليست مجرد عقبات جديدة، أو صعوبات مستجدة، أو حتى مختنق تفاوضي أو غيره من أوصاف الحالة السياسية، وإنما هي عنوان تحديات جديدة، تمثل حالة انقلاب سياسي استراتيجي كبير، ومتغير هائل في طبيعة المرحلة، وفي موازين القوى، وفي متطلبات المواجهة.

وللمقارنة فإن حالة «التيه» الفلسطيني ـ وهو تيه فرضته النكبة ـ بين نهايات أربعينات القرن الماضي وبداية الستينات منه كانت حالة تعكس هشاشة الحالة الوطنية في البحث عن الكيانية الوطنية، أما هشاشة وضعف الحالة الوطنية اليوم فهي حالة تعكس البحث عن استعادة هذه الكيانية التي بنيناها بالتضحيات الجسيمة على مدى أكثر من نصف قرن من الكفاح الوطني.

أقصد ان مشروع الانقسام كان منذ البداية مشروعاً إسرائيلياً موجهاً لهذه الكيانية، واستمراره يعني بكل بساطة التساوق مع المشروع الإسرائيلي بغض النظر عن المبررات التي يمكن أن تساق للاستمرار بهذا الانقسام.

وإذا أردنا أن يكون الأمر واضحاً وملموساً فإن المخطط الإسرائيلي والذي تحول في عهد إدارة الرئيس ترامب إلى مخطط أميركي إسرائيلي بالمعنى البرنامجي وليس المؤامراتي للكلمة يستحيل نجاحه إلاّ إذا عبر على جثة الكيانية الوطنية.

وبهذا المعنى فقد بات الأمر يتعلق بالهوية والكيانية القادرة على مجابهة هذا المخطط.

في هذا الإطار تحديداً، وفي هذه الدائرة بالذات ستكون معركة المعارك وعليها وليس خارجها سيتمحور الصراع في السنوات القادمة، وعليها وليس على غيرها سيعتمد مستقبل المشروع الوطني كله.

وبين قطاع محاصر وتحت التحكم والفقر، وبين معازل فلسطينية في الضفة تحت السيطرة، وقدس يتم عزلها بالكامل عن محيطها الوطني والجغرافي والديمغرافي تدور دواليب هذا المخطط. أي يتم على قدم وساق «اختلاق» تهشيم الكيان الوطني وتجزئته إلى عدة كيانات.

كيان تحت السيطرة على أقل من 40% في الضفة، وكيان محاصر بالجوع والفقر والعوز الدائم والمستديم، وكيان وطني تحت التهويد في المدينة المقدسة.

هذا إضافةً إلى «كيان» تحت سطوة العنصرية في الداخل.

الآليات الفعالة لتهشيم الكيان الوطني من وجهة نظر إسرائيل هي اختلاق «كيانات» عدة لا يربط بينها من ناحية التواصل الجغرافي شيئ ليجري العمل على خلق شروط سياسية مواتية لتبلور هذه الكيانات كوحدات كيانية منفصلة عن بعضها، وليس لها تواصل واتصال مباشر وفعال لكيان وطني واحد، لأن المخطط يقوم أساساً على تحول هذا الكيان الوطني الواحد إلى تلك الكيانات المختلقة.

وتراهن إسرائيل على أن الظروف والصعوبات الخاصة بكل «كيان» ستولّد قوة الدفع الكافية للتحول الهويّاتي لهذه الكيانات باتجاه هوية ما هو خارج إطار الهوية الجامعة ـ هويات فوق أو تحت وطنية.

لهذا كله، فإن أم المعارك هي معركة استعادة الوحدة الوطنية وترتيب البيت الوطني، وكل مهمة أو عمل وطني إذا لم يكن مكرّساً في هذه المرحلة لهذا الهدف. ولهذا الهدف قبل غيره فسيكون كمن أراد الوصول إلى شقته في الطوابق العليا وأجهد نفسه وصعد الأدراج ليكتشف أنه أخطأ مدخل العمارة.

عنوان المعركة هو عنوان الكيان الوطني والهوية الوطنية، وهو العنوان الذي يكثف القضية الوطنية في هذه المرحلة الخطيرة، والنجاح من عدمه في خوض هذه المعركة هو الذي سيقرر نجاح أو فشل المشروع الوطني.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Social Media Auto Publish Powered By : XYZScripts.com