6206  ليلة دون عطر/ قصة قصيرة / أحمد بشير العيلة

زجاجةُ عطرها الأثير ينتابها الشوق فتكاد ترقص، تحاول أن تهتز طرباً وتتمايل وتغني، لكنها نسيت أنها جماد، أو أنها نسيت كيف تهتز وتتمايل وتغني بعد سبعة عشر عاماً من الهجر، أحست الزجاجة أنها مملوءة دموعاً وليس عطراً خاصة عندما تسمع نحيب صاحبتها وبكاءها كل ليلةٍ، ستة آلاف ومائتا ليلة وست ليالٍ بتمامها وكمالها كانت دموعاً تسيل من عين عائشة على خدها، فتتلقفها زجاجة العطر وتخبؤها دون أن تدري عائشة…
الليلة السابعة بعد المائتين وستة آلاف هي الوحيدة التي فتحت فيها عائشة زجاجة عطرها، الدموع المخبوءة تحولت إلى فراشات خرجت من قمقمها الملون وملأت الغرفة، فاهتزت الزجاجة واهتزت عائشة، وتمايلت الزجاجة وتمايلت عائشة، وغنت الزجاجة وغنت عائشة…
– يا ليل لا تطوِّل يا ليل بكرة حبيبي جاي … عجِّل تيطلع الصبح وافرحو بملقاي … يا ليل يا يا ليل …
عائشة إبراهيم أم محمود، تقف عروساً غير معلنة – أو هكذا خُيِّل إليها – وسط مئات الناس المحتشدين أمام معبر بيت حانون (إيرز) فاليوم سيطلق الاحتلال سراح رشيد المغربي زوجها وفق اتفاقية لتبادل الأسرى، صوره تنتشر بين مؤيدي عدة تنظيمات، فالمحرَّر رمز وطني للجميع، كيف لا وهو المقاوم الشرس عسكرياً وسياسياً قبل أن يُعتقل في عملية صهيونية نوعية، عائشة تعيش لحظات فريدة، روحها تفيض بالدمع حيناً وبالبسمات للآخرين أحايين أخرى، وبشلالاتٍ تسقط من أعلى ذروة شوقها على موسيقى كمانٍ تتصاعد من الأنين إلى الرقص جرحاً جرحاً، ولا يقطع كل تلك اللوحات إلا صوت إحداهن من الاتحادات النسائية التي تشارك الآخرين فرحة الحرية.
عائشة لم تكن مجرد امرأة تنتظر، كانت عمراً بأكمله ينتظر، تاريخاً من الألم والقسوة ينتظر، وجعٌ كاملٌ ينتظر، كيف لا وهي التي تحملت معاناة تربية أربعة أبناء أصغرهم تركه أبوه وهو في الثالثة، تراه الآن رجلاً يستقبل أباه يضع الحطّة على رقبته وحوله أصدقاؤه هناك حيث تراه بعيداً في مقدمة المنتظرين..
– سالم أكثر مَن أتعبني، عنيد متذمر، لا يرضى بأنصاف الحلول مثل أبيه…
تبتسم، فتبتسم لها زجاجة عطرها التي شهدت كل تفاصيل حياتها التي لم يحس بها أحد، فعائشة امرأة جسورة، لا تظهر دموعها وشكواها إلا لنفسها، ولنفسها فقط، ولو علمت أن زجاجة العطر تشهد عليها لما بكت لحظة…، يسرق بسمتها ابنها محمود الذي لوح لها من بعيد لما رآها تبتسم..
– محمود … الله يرضى عنه، كم كان صابراً ومطيعاً وتحمل معي الكثير، واقتسم معي الهموم، بالفعل كان رجلاً مذ تركه أبوه في العاشرة، زوجته منذ أربعة سنوات، يا إلهي كيف حدث ، أنا الآن جدة لابنة جميلة سماها أبوه من وراه القضبان (عهد)..
كانت عهد على حضن أمها الواقفة بجوار عمتها عائشة أم محمود، طلبت الجدة حملها، حملتها وقبلتها ثم أرجعتها، ونظرة زوجة محمود إلى عائشة لم تكن تخلو لحظتها من الشفقة، فعائشة ستقابل زوجها بعد سبعة عشر عاماً بتمامها وكمالها هي عُمر أم عهد حين خُطبت لمحمود..
أصوات أغاني المقاومة تصدح في المكان عبر مكبرات الصوت، وهي لا تكاد تسمع منها إلا القرع والضجيج، فالأحاديث داخلها تفور وتدور وتمور، شريط السبعة عشر عاماً يدور الآن أمامها ليلةً ليلة، تتذكر أولادها وهي تجري بهم بين البيت والمدرسة والمستشفى والإجراءات الثبوتية وووووو، تحل مشاكلها بنفسها، فالكل ملّ وانفض عنها، حتى أبوها الذي وقف معها سنتين، هدّه المرض سبعاً عجافاً مات بعدها، وأمها شقيت بمرض أبيها، وأخوتها ، كثر الله خيرهم لو زاروها في الأسبوع مرة، ويزداد سكين التذكار عمقاً في لحمها حين جاءت ذلك اليوم أم رشيد (عمتها) بعد ثلاث سنين من سجنه لتقول لها:
– يا ابنتي، إن كنتِ تريدين أن تذهبي لحالك فاذهبي، رشيد محكوم عليه بالمؤبد، يمكنكِ أن تتطلقي وتتزوجي ولا يضيع عمرك هكذا..
– أم رشيد… ماذا تقولين؟!!، والله لا تُكتب عليّ أنا عائشة إبراهيم أتطلق من رشيد؟ وأترك أولاده لمن؟ لا حياة إلا لرشيد، فهمتِ يا أم رشيد..
– صبركِ الله يا ابنتي، بنت أصول، لكن أنا قلت لا نريد أن نكون عقبة في طريقك وتكونين أنتِ حبلاً في رقبتنا..
– سامحك الله يا أم رشيد..
زجاجة العطر وحدها شهدت كم كان النحيب قاسياً تلك الليلة، حتى أنها دعت ربها أن تصير امرأة أو ملاكاً وتجلس بجانبها تحتضنها وتمسح دموعها وتواسيها..
– تأخر المحررون..
– إجراءات، أنتِ تعرفين اليهود وإجراءاتهم..
– ألم يقولو جهات دولية مشرفة على عملية التحرر..
– بلى، وربما هذا ما يزيد تعقيد الإجراءات..
تعليقات المحتشدات تتراكم حولها، وهي لا تنفك تنظر إلى نقطة ثابتة بعيداً في المنظور تعتقد أنها بوابة المعبر الزرقاء، وكلما تصاعد غبار تصاعدت اللهفة في داخلها ربما خرج، ولكن الغبار يواسيها..
– لست أنا عنوان الخروج..
فترد الزجاجة في غرفتها:
– بل أنت عنوان الهجران والترك، أنت الذي تراكم على روحها فنفضتكَ بالأمل، وأنت الذي تراكم على جسدي الزجاجيّ فمسحتكَ هي بيديها لأبقى ذكرى لها..
ثار الغبار في البعيد، وهذه المرة ناداها …
– أنا الآن عنوان الحرية، أرتقي من تحت أقدام المستقبلين لأرقص فوق أرواحهم المتلهفة للحرية..
الزغاريد تملأ المكان، وتتداخل أصوات الخطباء عبر مكبرات الصوت بالكلمات الحماسية النارية في استقبال الأبطال، ركضت باتجاه البوابة الزرقاء، كأن السماء فتحت طاقةً للفرج، وأي فرج، لا تدري كيف جاء أمامها باب بيت رشيد عندما زُفّت إليه، كان أزرقاً هو الآخر، دخلته منتصرة بلباسٍ أبيض بعد قصة حبٍ انتصر فيها الحبيبان على نظرة المجتمع الطبقية بعد سنتين من حبٍ عاصف، البوابة الزرقاء فُتحت على مصراعيها، وبصرها يجول بين المحتشدين بحثاً مرهِقاً عنه..
– ألم يقولوا سيكون الحفل منظماً وفيه طابورٌ للشرف على الجنبين وبساطاً يمشي عليه المحررون وموسيقى نحاسية، وأن أسر المحررين ستكون أول من يسلم عليهم، تماماً مثل استقبال الرؤساء، ما هذه الفوضى؟! لا طوابير شرف ولا فرقة نحاسية ولا بساط، هههه أنا أقف الآن على البساط، لكنه ضائع تحت الفوضى، لا يهم، المهم أن أراه..
وتصرخ بأعلى صوتها..
– أبو محمووووووووود
– عائشة
يعانقها بحرارة، ودموع المحيطين وأبنائهم تنفر من عيونهم دون أن يدروا.
– حمداً لله على السلامة يا رشيد
– الله يسلمك يا أم محمووووو، يااااااااااااااا الله عطـــ……
ويختطفه المجتمعون عناقاً دون أن تسمع بقية جملته، لكن زجاجة العطر سمعته، ياله من وفي، تذكرني الرجل بعد كل تلك السنين، يالفرحتي ..
بعد هدوء عاصفة الاستقبال، اختلى الرجل المحرر بزوجته، كان هناك حاجزاً حاولتْ أن تكسره، وهو متردد بين أن يَثبتَ سداً، أو ينفلتَ طوفاناً، حاولت عائشة صنع مقاربةٍ بين السد والطوفان، واستخدمت حنكتها كامرأة في أن تشعره أنها صديقة ، بل صديقه، فهو لم يرَ النساء منذ سبعة عشر عاماً، عاش خلالها فترات متقطعة في السجون الانفرادية والزنزانات، كانت تجيد لعبة السد والطوفان، يحكيا كثيراً ويبكيا كثيراً ويضحكا كثيراً، يتعانقان ويبتعدان، يمتزجان وينفصلان، يتشابكان كأغصان شجرتي برتقال، قريبتين إلى حد الارتواء من بعضهما، فيثمران ولهاً وحباً ودموعاً، جسدان متعَبان يرقدان على كتوف بعضهما في استغرابٍ كامل أن هذا كتف شريك، وليس مخدة دموع… والعطر الراقص، يفرش في نهاية المشهد ستانه الأبيض ويناموا إلى الصبح…
أسبوع كاملٌ مرّ لا تراه إلا ليلاً من كثرة الاحتفالات والزوار والعزائم، وفي كل ليلة ينظر إلى جسدها المهدود ولا تسمع إلا …
– ياااااااه يا عائشة
و(الياه) هذه تظل لغزاً؛ أهو الشوق أم الحسرة أم الاستغراب أم أم أم.. تستقبل (ياهاته) حسب ما تريد هي؛ الشوق مع اللهفة..
وعندما اعتاد عليها واعتادت عليه واستوى على الجودي في الليلة السابعة، قالها مرة أخرى..
– ياااااااه يا عائشة..
– ماذا؟؟
– كبرتِ كثيراً
شيءٌ تحطم داخلها، بررت له ما أصابه وأصابها من الغياب، انحت نحو روحها وجمّعت الشظايا التي تناظرت، ورممت أنوثتها وقالت…
– حُكم السنين يا رشيد..
وحاولت أن تضحك…
– حتى أنتَ كبرت..
– كبر الرجل يزيده رجولة، أما المرأة ….
سكت رشيد، وسكتت عائشة وسكتت زجاجة العطر عن العزف، ونام ثلاثتهم دون أن يلتفت أحدٌ للآخر…
وهبت بعدها عواصف باردة استمرت لأشهر، ناداها رشيد بعد شاي الإفطار في يومٍ بارد..
– يا عائشة ، تعالي، أريدك
شيءٌ من أملٍ تدفق داخلها..
– يريدني؟! هل ذاب الثلج؟ خاصة أن البيتَ خالٍ والأولاد خرجوا كلهم لأعمالهم ودراستهم، يريدني …
دخلت عائشة إلى الغرفة وكان رشيد جالساً، مرت بجانب زجاجة العطر، نظرت إليها نظرة جانبية، دون أن تفتحها، فالوقت لا يسمح..
– نعم يا رشيد تفضل..
– أنا بصراحة أريد
– أنا بين يديك يا رشيد
– أنا أريد
– تشجع أنا زوجتك
– بصراحة أريد أن أتزوج، فأنتِ كبرتِ
– ماذا؟ تتزوج!!
لم تُعلق، جلست على حافة السرير تبكي، وقف رشيد كحصانٍ جائع، نظر إليها قليلاً، ثم خرج من الغرفة بصمت، استمرت عائشة في البكاء، هدأت قليلاً، رفعت رأسها، نظرت نحو المرآه، وقفت كزنبقة منتفة البتلات، اتجهت نحو مرآتها كشفت عن جسدها، تفرست فيه وكشرت بقوة، عاصفة غبار تصعد، وطوفان تنفجر عيونه، وسدٌ من الطين ينهار الآن، يدها المتوترة الأصابع تمتد نحو زجاجة عطرها، الزجاجة ترتعش وتحملق بدهشة فيها، أمسكت الزجاجة بقوة، أرجعت يدها إلى الوراء، قذفت بالزجاجة على المرآة، سُمعت صرخة لا ندري أهي صوت المرأة أم صوت الزجاجة، سال العطر على الدم والدم على العطر واتحد المجريان عطرٌ مُدمّى أو دمٌ معطر، لا أدري، وركض الحصان الجائع دون أن يدري هو أيضاً…
/ شاعر وروائي فلسطيني

 17/2/2017

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Social Media Auto Publish Powered By : XYZScripts.com