زيتون فلسطين: جذور عميقة وديمومة أزلية/ د. كاظم ناصر

تعتبر شجرة الزيتون الفلسطينية الأصل المباركة ثروة في فلسطين ومناطق مختلفة من العالم لما لثمرتها من فوائد متعدّدة، فهي غذاء كامل، ويستخرج منها الزيت ذو الفوائد الغذائيّة والشفائيّة والتجميليّة، وذكرت في القرآن الكريم وفي أحاديث الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، كما ان السيد المسيح عليه السلام باركها وكرّمها، وحمل غصن الزيتون شعارا للمحبّة والسلام والاخاء بين شعوب العالم.

فقد ذكرت الموسوعة الحرّة ويكيبيديا أن العلماء يعتقدون بأن تاريخ شجرة الزيتون يعود إلى ما بين 5000 – 6000 سنة، ومنشأها كان فلسطين وسوريا وجزيرة كريت اليونانية؛ فمن فلسطين وشواطئ شرق البحر الأبيض المتوسط بدأت رحلتها نحو جنوب أوروبا عبر قبرص وتركيا واليونان، وبعد ذلك انتشرت في مناطق مختلفة من آسيا واوروبا وبعض دول افريقيا؛ وفي عام 1560 جلبها الاسبان إلى العالم الجديد، وزرعت أوّل شجرة في ليما عاصمة البيرو في امريكا اللاتينية، وزرعوها أيضا في مدينة سان دييغو بولاية كاليفورنيا في عام 1769 وانتشرت في كافة أرجاء الولاية، وحسب تقديرات عام 2005 فإن هناك حوالي 865 مليون شجرة زيتون في العالم، الغالبيّة العظمى منها موجودة في بلدان حوض البحر الأبيض المتوسط.

تحتلّ شجرة الزيتون موقعا هامّا في العديد من الثقافات؛ لقد اعتبرها الإغريق رمزا للحكمة، والحمامة التي تحمل غصن الزيتون بمنقارها تمثّل رمز السلام العالمي المعروف دوليا، كما ان علم الأمم المتحدة وأعلام عدد من دول العالم تحتوي على غصني زيتون، وتعتبر شجرة الزيتون كرمز للصمود والتمّسك بالأرض في الثقافة الفلسطينية الحديثة، وتستخدم ايضا في تشكيل المناظر الخلابة والميداليّات الجميلة، أو لنقش الآيات القرآنية والحكم على قطع من خشبها.

 ولها مكانتها الخاصة في الديانات السماوية حيث إنها تعتبر رمزا للأمل في الديانة اليهودية؛ تذكر التوراة ” إن حمامة تركت سفينة نوح ثم عادت تحمل في فمها غصون زيتون” وساعدت بذلك في إيصال نوح وسفينته إلى بر الأمان؛ وتقول أيضا” إن الأشجار عندما أرادت أن تنتخب ملكا عليها اختارت شجرة الزيتون لكنّها رفضت قائلة ” لن أترك زيتي الذي باركه الرب من أجل أن أحكم الأشجار.” وفي المسيحية ذكرها الإنجيل عدة مرات منها” امر بني اسرائيل ان يقدموا اليك زيت الزيتون لإشعال السراج على الدوام.” وقال ايضا ” لا تقطفوا شجرة الزيتون حتى آخر حبّة بل اتركوا عليها ثمارها ليأكل منها الناس والطيور والحيوانات البريّة.” وفي القرآن الكريم والحديث ورد اسم شجرة الزيتون مرات عدة ” والتن والزيتون ” ” وزيتونا ونخلا ” و” الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم يمسّسه نار نور على نور..”

 ينظر أبناء الشعب الفلسطيني إلى شجرة الزيتون المباركة العميقة الجذور، القادرة على مواصلة الحياة والصمود في وجه الأعاصير وتقلبات الزمن كرمز لارتباطهم العميق بتراب وطنهم وصمودهم؛ ولهذا مجّدوها في أغانيهم الشعبية بقولهم ” على دلعونه على دلعونه /  زيتون بلادي أجمل ما يكونا / زيتون بلادي واللوز الأخضر والميرميّة ولا تنسى الزعتر / وقراص العجه لما تتحمّر ما أطيب طعمها بزيت الزيتونا. ” وذكروها في أمثالهم الشعبية بقولهم ” خبزي وزيتي عمارة بيتي” إذا عندي طحين وزيت صفقت وغنيت ” الزيت عمود البيت ” و ” كل زيت وانطح الحيط.” وربطها الشاعر محمود درويش رحمة الله عليه بالوجود والنضال الفلسطيني ضد الاحتلال بقوله ” لو يذكر الزيتون غارسه / لصار الزيت دمعا ! / إنا سنقلع بالرموش / الشوك والأحزان .. قلعا! / وإلام نحمل عارنا وصليبنا / والكون يسعى .. / ستظل في الزيتون خضرته / وحول الأرض درعا !! ”

 وبما ان الفلسطينيين كانوا روادا في زراعتها، فإنهم عرفوا أهمّيتها وفوائدها الاقتصادية واستعملوها في المقايضة ليشتروا ما يلزمهم ويدفعوا مقابل ذلك زيتونا وزيتا، واستمروا في غرسها، وتفنّنوا في تحضير أنواع مختلفة من الزيتون المخلّل، واستخدموا الزيت والزيتون في معظم وجبات طعامهم؛ وكانوا يقولون ” الزيتون شيخ السفرة ” ولهذا سمّيو ” بشعب الزيت والزيتون.”

في سنة 1914 قدّرت مساحة البساتين المزروعة بالزيتون في فلسطين التاريخية حوالي 475,000 ألف هكتار، أو 112,000 فدّان . وتشير التقارير الحديثة الصادرة عام 2011 إلى انه يوجد 7,8 مليون شجرة زيتون مثمرة في الضفة الغربية وغزّة، وانه تم عصر ما يقدر ب  108,000 طن من الزيتون انتجت 24770 طنا من الزيت العالي الجودة.

كانت وما زالت وستظل قرى وبلدات فلسطين محاطة بعدد ضخم من اشجار الزيتون التي زرعها الآباء والأجداد واستمر في زراعتها الأبناء والأحفاد؛ فأينما تتجه العين تراها باسقة بكبريائها وخضرتها الدائمة، وأحجامها المختلفة، وسيقانها وجذوعها وأغصانها وبراعمها الجميلة؛ قبل ما يزيد عن الستين عاما كان الزيتون وما يتعلق به يشغل حيزا مهما من تفكير ونشاط أهل قريتي “عقربا ” كما شغل تفكير ونشاط أجدادهم وآباؤهم، يحرثون الأرض في نهاية فصل الصيف لتكون جذور أشجار الزيتون جاهزة لامتصاص أكبر كميّة من مياه الأمطار بعد سقوطها فتتغذّى وتنموا بسرعة وتعطي محصولا اجود وأكثر؛ ويقلّمونه لتجديد شبابه وعنفوانه، وعندما يزهر يبدؤون في الحديث عنه ” ما شاء الله الزيتون مش قادر يزم النوار إلى عليه .. انشاء الله السنه سنة خير وبركه .”

هناك علاقة حب عميقة بين الفلاح الفلسطيني وأرضه؛ عندما تعود بي الذاكرة إلى ما كنت أراه في طفولتي، أكتشف عمق ذلك الحب. في الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين، كنت أشاهد اصحاب كروم الزيتون يذهبون إليها ويعملون فيها خلال العام؛ وأذكر أن أحد أقاربي غرس مئات أشجار الزيتون في منطقة ” واد الردم ” الواقعة إلى الشمال الشرقي من عقربا، ونمى كرمه وأثمر، وعندما رأيته في إحدى زياراتي للقرية قال لي ” رحت حجيت السنه الي مرقت. وقبل ما سافرت مريت “عواد الردم” أودع زيتوني إلي زرعته في إدي هذول الثنتين؛ مرقت عليهن وقلت لكل وحده منهن.. مع السلامة يا زيتونتي .. انشالله بنلتقي بعد ما أرجع من الحج.” كان الرجل صادقا ولا غرابة في إحساسه، لأن حياته كفلاح فلسطيني جزء لا يتجزأ من الأرض وأصحابها من أبناء قريته؛ إنه لا يملك من حطام الدنيا شيئا سوى بيته وأرضه؛ الأرض بالنسبة له تعني الوجود لأنه يعيش فيها وعليها ومنها ولها، ويفرح ويحزن ويموت ويدفن فيها، ويورّثها لأبنائه وأحفاده لتظل شاهدا على ولائه وانتمائه لوطنه !

وفي موسم ( الجداد ) قطف الزيتون تمتلئ الطرقات والشعاب بحركة الناس المتوجهين الى حقولهم مع بزوغ الشمس صباحا وبالعائدين منها عند غروبها، حيث يشارك جميع أفراد العائلة رجالا ونساء شيوخا وأطفالا في جد الزيتون يساعدهم في ذلك ( الفزعات ) أقاربهم واصدقائهم الذين ( يفزعون ) يهبون لمساعدتهم؛ الرجال والنساء يبدؤون بالتقاط ثمر الزيتون القريب من الارض، ثم يستخدمون الجدادات ( العصي الخشبية ) الطويلة للوصول إلى الأغصان المرتفعة، أو يتسلقون الأشجار ليلتقطوا حبات الزيتون ويسقطوها على الأرض، والنساء والأطفال يقومون بجمعها ووضعها في أكياس من الخيش، وينقلونها على ظهور بهائمهم إلى بيوتهم مساء، وينشرونها على أسطح منازلهم أو في أماكن آمنة لتتعرّض لأشعة الشمس حتى تذبل.

 كان موسم القطف عرسا فلسطينيا له رونقا خاصا، ويتجلى فيه الحب والتعاون بين أفرد العائلة وأصدقائهم، وبالنسبة لنا نحن الأطفال كان الموسم مبهجا ومفيدا إلى حد كبير؛ كنا نذهب مع أهلنا ونتسلّق الأشجار لنشارك في خرط وتلقيط ( التقاط وجمع ) الثمار، ونستمتع بوجبات الغداء البسيطة تحت الأشجار في الهواء الطلق، ونملأ جيوبنا بالزيتون ونجري مسرعين إلى البقالة لنشري بها حلوى، أو نبيعها مقابل قرش أو نصف قرش!

لا يخلو بيت فلسطيني من الزيتون المخلل بطرق مختلفة ومن زيت الزيتون؛ حتّى نهاية السبعينيات من القرن الماضي كانت النساء في عقربا يحضّرن مخلّل الزيتون بطرق مختلفة منها : الرصيع ( حبات الزيتون المرصوعة ) حيث تقوم المرأة بدقها بمصحان ( حجر مستدير أملس صغير الحجم ) حتّى تنفلق، ثم تجمعها وتخلّلها في مرتبان أو تنكة، وتضيف اليها الليمون والفلفل والشومر إن أرادت؛ والمسطح ( المشطب ) بسكين حيث تقوم المرأة بتشطيب كل حبة زيتون وتضعها في مرتبان حتى يمتلأ ثم تضيف اليه الليمون، وتسكب عليه الزيت حتى يغطيه، وقد تضيف اليه الفلفل إن رغبت في ذلك.

قام الانسان منذ آلاف السنين بالحصول على زيت الزيتون من خلال عصره، واستخدم الأدوات البدائية التي تمكّنه من ذلك ولعل أقدمها الطريقة التي مارستها جدّتي رحمها الله في الخمسينيات من القرن الماضي؛ كانت تجمع حباّت الزيتون وتذبّلها ثم تدرسها ( تسحقها ) بالمصحان ( حجر مستدير أملس ) وبعد ذلك تسخّن كميّة من الماء، وتضع مسحوق الزيتون في السفل ( وعاء فخاري ) على شكل نصف جرّة، ثم تضيف إليه الماء الساخن فيطفوا الزيت في الأعلى وتحصل على أنقى والذ أنواع الزيت الذي كانوا يسمونه ” زيت طفاح”، الزيت الذي يطفح على وجه الماء.

أما أقدم معصرة بدائية في عقربا فقد ملكتها عائلة الحمزات وما زالت موجودة وتحمل اسم ” البدّ “؛ قديما كان يطلق على عمال معاصر الزيت اسم ” البدّادين ” المشتقّة من  ” بدّ، يبدّ ” لقد رايته أكثر من مرّة من الداخل، حيث كان يعمل فيه حداد يصنع الأدوات الحديدية البسيطة كالخوص ( السكاكين )، والشرخات التي تستخدم في قطع الأغصان، والمناتيش ..؛ إنّه مكون من حجرة مبنيّة كجزء من كهف كبير، يوجد في وسطه حوض يوضع فيه الزيتون، وفي الحوض حجر رحي دائري ضخم مجوّف يجرّه حصان ويدور به حتى يطحن أو يجرش الزيتون، وبعد ذلك يوضع في الماء الساخن ليطفو عليه الزيت ويتمّ جمعه.

كانت في عقربا معصرة زيت ( فرّازه كما كان يسميها أهل القرية ) ميكانيكية واحدة أسسها نصرالله ابو شهاب رحمه الله في بداية الخمسينيات من القرن الماضي، وبقيت الوحيدة في القرية حتى نهاية الثمانينيات. في تلك المعصرة كان يتم وضع الزيتون داخل حوض ضخم، ثم يعمل حجران دائريان ضخمان مصنوعان من الجرانيت على طحن حبات الزيتون، وبعد ذلك يوضع الزيتون المطحون في القفاف ( قطع من الخيش الدائري )،  ثم توضع فوق بعضها على المكبس للضغط عليها بقوة وإخراج الزيت منها، ويبقى فيها الجفت ( مخلفات الزيتون الجافة.) كان أهل القرية ينقلون محصولهم إليها على الحمير والبغال، ويدفعون مقابل العصر زيتا، ويعبئون انتاجهم في تنك ويأخذون الجفت ليستعملوه كوقود للطبخ أو للطوابين، وللتدفئة خلال فصل الشتاء، ويعملون من عجم الزيتون مسابح جميلة.

 تغيّرت وسائل قطف وجمع محصول الزيتون في قرى وبلدات فلسطين، فحلّت السيارة مكان الحمار والبغل في نقل المحصول، والآلات الأتوماتيكية الحديثة في عصره وتعبئته، وفقد الموسم جزأ كبيرا من سماته التقليدية، لكن شجرة الزيتون المباركة ستظل جزءا من حياة الشعب الفلسطيني ورمزا لديمومته وثباته وأصالته وعشقه !

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Social Media Auto Publish Powered By : XYZScripts.com