عـنـدمـا نـفـقــد شـهـيـَّة الـحَـيـاة..! الـدكتـور عـبـد القـادر حسـين ياسين

استيقظت ذات صباح، فإذا بي أحس بأن بي صداعاً.
أهذا ممكن؟ أن يستيقظ المرء من نومه وبه صداع؟
حملت نفسي وذهبت الى الطبيب …

فـفحصني ووجه إليّ أسئلة، ثم قال لي:
“سأتركك أسبوعــاً، فإن لم يتحسن وضعـك، عـد إليّ”.
وإذ لم يتحسن وضعي عـدت الى الطبيب ، فقال:
“سأرسلك الى المستشفى الجامعي لينظر في حالتك الطبيب المختص بالأمراض العـصابية”.

وبعد موعدين مع الطبيب المختص، تخللهما اجراء تخطيط شعاعي لدماغي،
توصل البروفسور الاختصاصي الى أن صداعي المستمر،
الذي سماه صداعاً مزمناً ناجم عن مزاجي القلق والمتوتر.
ووصف لي دواء يُعطى لمن يعانون من الكآبة.

رُحتُ أسائل نفسي :
هل أنا أشكو من كآبة من دون علمي؟
قلت ربما، بحكم تقدمي في السن،
الذي يجعلني أفكر في أيامي المعـدودات.

لكن أغـرب ما في الأمر أن ورقة الدواء الذي وصفه لي،
لفتت انتباهي الى الحقيقة المرعبة الآتية:
“إذا كنت تشكو من كآبة ، و/أو تشكو من قلق،
فإنك قد تفكر أحياناً في ايذاء نفسك.
هذا الإحساس يزداد في بداية استعمالك العلاجات المضادة للكآبة.
ولأن هذه الأدوية تتطلب وقتاً لكي تؤدي مفعولها،
فأنت في أغـلب الاحتمالات ستفكر في انهاء حياتك.
وهذا يحصل مع الشباب ممن هم دون الخامسة والعشرين بصفة خاصة،
من ذوي الهموم النفسية، ممن عولجوا بالأدوية المضادة للكآبة”.

تـنـفـستُ الصعـداء لأنني لست دون الخامسة والعشرين…
لكن ماذا يتعين عليّ أن أفعل؟
هل أتناول هذا الدواء المخيف، أم أهمله؟
قررت أن أتناوله …
والآن، مضى شهر وأنا أتناول هذا العقار المضاد للكآبة،
ولم أشعربأي تحسن ، كما لم تراودني فكرة الانتحار!
ودخل في روعي انني سأتعايش مع صداع رأسي.
لكنني أشـعر بأن طاقتي على الكتابة ضعـفـت،
في الوقت الذي بدأت أفكر في انجاز عدد من مشاريعي الأكاديمية المؤجلة.

لحسن الحظ أنني استطعت انجاز 70% من “الموسوعـة السـياسية للصـراع الفلسـطيني ـ الاسـرائيلي” التي أعـمـل عـلى إنـجـازهـا بالإنـجـليزية مـنـذ أكثر من عـشـر سـنوات.
أما المواضيع التي بقيت مؤجلة، فمن بينها الكتابة عن” تاريخ الأديان” ،
و”فـلسـطين في عشـرة آلاف عـام” ، و “تـاريخ مـا أغـفـلـه التـاريخ” ،
و “نـحـن وهـُمّ : تأمـلات في الـعـنـصـرية”….
فهل سيكون في وسعي أن أكتب عن أي من هذه المواضيع، وبأيها أبدأ؟

ليس في طاقتي أن أكتب الآن عن الـعـنصـرية وأنا أعاني من صداع على مدار الساعة.
ومع أن التاريخ كان موضوع اختصاصي، ومع أنني درسته على مدى ثلاثين عاماً،
إلاّ أن وضعي الصحي الحالي ليس ملائماً للكتابة عن “تـاريخ مـا أغـفـلـه التـاريخ”.
وهذا يحزّ في نفسي، لأن علاقتي بالتاريخ حميمة جداً…
وكنت أفكر دائماً في الـتـفـرغ للإنـتـهـاء من كتاب”تـاريخ الأديان” ،
بيد أن ذلك كان سيكون على حساب كتاباتي الأخرى،
التي كانت تلح عليّ بلا انقطاع.

كتبت كثيراً في الـفـلسـطينـيـَّـات، ربما أكثر من أي موضوع آخر،
لكنني لا أشعر أنني استوفيت الموضوع حقه.
كما انني لم أقرأ شيئاً – في حدود اطلاعاتي المـتـواضـعـة ـ  أشبع فضولي عن فلسفة الأديـان. ل
ذلك أشعر أن هناك نقصاً أو خللاً في ثقافتي الـدينيـة،
وهو أنني لم أقف بما فيه الكفـاية على الأبعاد الفلسفية للـدين.
فلا زلت أشعر أنني بحاجة الى فهم أعـمق لـتلـك الخـلجـات ،
التي تـعـصـف بالنفس البشـرية في صـراعـهـا الأزلي لإقـتـحـام الغـيب..

ولا أزال أفكر في تلك المقولة الخالدة للفيلسوف الألماني فريدريش نيتشه،
في كتـابه القـيـِّم Also sprach Zarathustra  “هـكـذا تـكـلـم زرادشت…”:
“المـؤرخ المفضل لديّ هو من يعرف آلام السعادة الحقة فقط،
وليس غيرها من آلام. ولم يوجد مؤرخ كهذا حتى الآن”.
هذه المقولة تنطوي على أعمق المعاني .
هنا يجمع نيتشه بين الألم والسعادة في تـدوين التاريخ.

ولا أغـالي إذا قـلت ُ بأنني لم أجد تعبيراً في مثل عمق هذه المقولة
(ويبدو أنها لا تصدر إلا عن شاعر وفيلسوف ومجنون مثل نيتشه!)،
وهذا يدعـوني الى الاعتقاد بأن أروع المؤلـفـات ،
هي تلك التي تـسـتـنهـض فـينـا احساساً بالكآبة،
كآبة من طراز متعالٍ، إذا جاز القول.
وأنا أحب أن أبحث عن فلسفة التاريخ والأديان من هذا المنطلق.
لكن الصداع الذي يلازمني الآن يُقعـدني عن تحقيق هذا المشروع.
ولا أدري إذا كانت ستتاح لي الفرصة للكتابة عنه.

بالأمس ذهبت للمرة الثالثة الى المسـتشـفى الجامعي في غـوثنبيرغ ،
وتـحـدثت مطولا مع أستاذ أخصائي في جراحة الدماغ.

“أنت على حافة الهاوية”، قال لي الجراح بعدما عاين وفحص.
نظرت إليه متسائلاً.. فأعاد كلامه بنبرة حازمة خالطها بعض الأسى.
لم يسبق له أن حـدثي بهذه الطريقة من قبل.
كان حينما أراجعه يكتفي بأن يطلب إليّ تناول حبة دواء معـينة.. أو يقول لي ببساطة:
“ابتعـد عمَّا يوتِّر وخـذ قـسطاً من الراحة…!”

لكن كلامه هذه المرة كان مختلفاً وهو يـُشدّد على ما تستدعـيه حالتي من انتباه.
وحينما أصر على توصيلي إلى البوابة الخارجية للمستشفى بدا لي وكأنه يـُودعـني…

لم أخف يوماً من الموت..
بل لم أحسب له حساباً حينما كنت قاب قوسين أو أدنى منه.
وأقصى ما فكرت فيه حينها أن يسمح لي بمهلة،
ريثما أنتهي من إنـجـاز “الموسوعـة السياسية للصراع الفلسطيني ـ الاسرائيلي” ،
وريثما تملأ عينيي ممن ومما أحب، ثم أرحل بهدوء كغيمة عابرة.
لكنني أنزعج حينما يتعلق الأمر باحتمال ضعف يصيبني ،
وما يعنيه من افتقاد قدرة وعجز.
وهي حالة لا أرغب أبداً في تجربتها.

وفي الحقيقة لم يكن كلام الطبيب هو ما أوحى إليّ بهذا الشعور المزعج،
بل معاينتي لنفسي خلال الفترة الماضية ،
وملاحظتي ما حل بي من وهن فقدت معه القدرة على التفاعل..
وفـقـدت ما هو أكثر:
شـهـيـة الحـيـاة.

<ahy15may1948@gmail.com>

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Social Media Auto Publish Powered By : XYZScripts.com