تعابير الأدب والموسيقى والموروث الشعبي في عدسات صنّاع الأفلام الأردنيين

عمان- بترا:ـمضى وقت طويل على بدايات السينما الأردنية – أول فيلم روائي أردني طويل حمل عنوان (صراع في جرش) العام 1959-  قبل أن يعود المخرج والموسيقار والروائي العالمي محيي الدين قندور إلى مسقط رأسه في العاصمة عمان العام 2008، لينجز فيها فيلمه الروائي الطويل (الشراكسة) عن حقبة تاريخية تعود إلى بدايات القرن الفائت.

جاء (الشراكسة) كعمل سينمائي يؤشر على قدرة صناع الأفلام في إثراء المشهد السينمائي الأردني باشتغالات تبرز أسئلة السينما الصعبة مع سائر حقول الإبداع من سرد ادبي وفنون تشكيلية وموسيقى ومسرح، حيث يحفل (الشراكسة) بالعديد من مفردات اللغة السينمائية والفكرية المصحوبة بذلك الأداء اللافت لمجموعة من الممثلين الأردنيين والاشتغالات التقنية الجذابة، وكأنه يدفع باتجاه تفعيل المسيرة السينمائية الأردنية التي طالما ظلت – إلا ما ندر في بعض المحطات – متعثرة عن اللحاق بمثيلاتها من الإنجازات التي كانت تقدمها السينما العربية.

اعتبر الفيلم الذي عرض بنجاح في صالات العرض المحلية، تجربة سينمائية مكتملة العناصر، تليق بوضع الأردن على خريطة المشهد السينمائي، بعد تلك الأصداء الايجابية التي خلفتها عروضه في مهرجانات سينمائية عربية وعالمية متنوعة.

واشتهر قندور صاحب الفيلم التشويقي (شبح إدجار ألان بو) 1974، بأعماله الكلاسيكية الهوليودية التي تصور أجواء التشويق البوليسي والمطاردات أو التي تدور أحداثها في الغرب الأميركي مثل: (مانيكس)، و(بونانزا)، و(أجنحة النسور)، و(الريح الباردة)، و(مفقود في بلاد الشيشان).

 رغب صناع الفيلم الروائي الاردني الطويل (حكاية شرقية) لنجدة انزور، بتقديم عمل سينمائي يجمع بين رؤية درامية جريئة تصل الى حدود التجريب في علاقة المثقف واغترابه عن واقعه، ورؤية جمالية تفيض بمساحات الظل والنور واللونية والادائية المزنرة بمشهدية بصرية مغايرة، وذلك من خلال افلمة قصة للأديب الروائي السوري الراحل هاني الراهب، بمعالجة سينمائية وضعها الناقد والمخرج السينمائي عدنان مدانات.

سرد الفيلم الذي قام صوره هشام العبداللات ومحمود لافي، واضطلع بأدواره الرئيسية: جميل عواد، محمد القباني، وجولييت عواد، قصة صحفي تنتابه هواجس وكوابيس بفعل الإحباط نتيجة لسوداوية واقعه الاجتماعي والاقتصادي والسياسي.

وكان المخرج محمد علوه، قد حقق فيلماً روائياً قصيراً بعنوان (الحذاء) العام 1986 عن قصة للكاتب محمد طميله، تناول فيه الحياة الصعبة والقاسية لعائلة داخل مخيم للاجئين الفلسطينيين في الأردن، وقد عرض العمل في أكثر من مهرجان عربي ودولي .

 ومن الاتحاد السوفييتي السابق، عاد المخرج فيصل الزعبي العام 1991 حيث درس السينما في معهد عموم الاتحاد السوفيتي للسينما، حاملاً شريطه الروائي القصير قياس 35 ملم المعنون (الحرباء) 24 دقيقة، المأخوذ عن قصة قصيرة للكاتب الروسي الشهير أنطون تشيخوف.

رأى الزعبي من خلال تجربته السينمائية، أنه لا بد من التركيز على مسألة مهمة في الدراما، وهي صعوبة إظهار عنصر البشاعة والسلبية دون مقدمات جمالية. وانتهج أسلوبية فنية بحتة مقتدياً بمخرجين كبار مثل سيرجيه بارادجانوف واندريه تاركوفسكي واندريه كونشالوفسكي، ولا تخلو صنعته في الإخراج من التأثر بما اكتسبه خلال فترة تعلمه على أيدي أساتذته في معهد السينما في الاتحاد السوفييتي سابقاً.

المدهش في تجربة فيصل الزعبي مجيئه من روسيا بتَصَوّر مختلف عن السينما التي كان يطمح إليها أغلبية مخرجي الجيل السابق له، ولا مراء في أن مخرج (الحرباء)، حقق خطوة أولى في اتجاه سينمائي يعبر عن نفسه من خلال السعي إلى محاكاة الشعر، لكن إشكالية هذه الخطوة بدت غير متناسقة سواء على صعيد الموضوع او في امتلاك لغة بصرية بسيطة غير متكلفة.

ويحسب للزعبي تقديمه لقصة كلاسيكية روسية تجري احداثها قبل الثورة البلشفية وبأجواء المرحلة الروسية لرغبة جمالية من ناحية ولإشباع طموح شخصي في استخدام لغة السينما السائدة في حقبة الثلاثينات من القرن الفائت، مثل استعمال اللونين الأبيض والأسود، والتركيز على اداء الممثل وإدارته المحكمة فضلا عن توظيفه الدرامي لعنصر الموسيقى.

وعبر نصّ قوي ومبتكر، اثار المخرج فيصل الزعبي بفيلمه التسجيلي (غصة أو حي في البحر الميت) 55 دقيقة، قضايا المبدع مع محيطه الاجتماعي والسياسي والثقافي، إلى جانب قضية الإرادة والاختيار الشخصي والعائلي من خلال مشوار الروائي الأردني الراحل مؤنس الرزاز، الثري بالتفاصيل والآمال والهموم الوطنية والقومية، منذ ولادته في العام 1951، ومعايشته وهو طفل صغير لحقبة زمنية مليئة بالتحوُّلات الاجتماعية والسياسية والثقافية.

واتسم الفيلم بأسلوبيته الهادئة والمباشرة والبطيئة، على نحو تحاشى فيه الإنزلاق إلى المبالغات العاطفية والميلودرامية، لأنه يَبْسِطُ للكاميرا فرصة أن تتكلم بلغة الصورة الحية، من دون فذلكات، مما يؤكد على ماهية الفيلم التسجيل يالأساسية كثقافة وأداة تفكير وشهادة على العصر .

 بعد أن انهي المخرج السينمائي الأردني هيثم التميمي المولود في عمّان عام 1978 دراسته في المعهد العالي للسينما في القاهرة، أنجز جملة من الأفلام التسجيلية والروائية القصيرة التي عبرت عن موهبة سينمائية واعدة.

كان التميمي قد شارك بفيلمه القصير (أحاديث الصمت) 7 دقائق المأخوذ عن قصة قصيرة للكاتبة التونسية نافلة ذهب في أكثر من مهرجان سينمائي عربي ودولي، ولفت أنظار النّقاد والجمهور بلغته السينمائية العالية المستوى، وبطرحه الفكري الجريء.

 رصد التميمي جذور التسلّط والقمع داخل عائلة بفعل تأثيرات الأب الذي يَخْلِفه الأخ الأكبر، وكأنه يقدم إدانة قوية للسلطة الاجتماعية دون جملة حوار واحدة.

لجأ المخرج إلى التعبير عن الصمت بمشاهد لعقارب الساعة، والعزف الموسيقى على آلة البيانو، كاشفاً عن العلاقات الباردة والحياة العقيمة داخل البيت، في إيجاز مثير للقلق والتوتر.

اختار التميمي موضوعه نتيجة لشغفه الدائم بفن القصة القصيرة ومواظبته على قراءة ومتابعات الكثير منها إلى أن أتيحت له الفرصة بأن يطلع على أحد إصدارات “كتاب في جريدة” الذي تضمن نصوصاً لأشهر الكتاب والكاتبات العرب ونماذج من قصصهم، ولفت انتباهه قصة الكاتبة التونسية نافلة ذهب.

في فيلمه التالي الذي حمل عنوان (طير بينا يا قلبي) 5 دقائق التقط التميمي واحدة من أغنيات المطرب المصري محمد فوزي المعنونة بالاسم نفسه ليعقد مقارنة بين الخيول التي تعيش في الإسطبلات وتتمتع بترفيه وعناية مبالغ فيها، وبين الخيول التي تسير في شوارع المدن والقرى وتحمل متاع الآخرين في ظروف صعبة وقاسية، والتي ترفد مالكها عبر عملها الشاق والمتواصل بما يقتات به من متطلبات الحياة البسيطة.

وتناول بفيلمه الروائي القصير الثالث (الفخ) المأخوذ عن قصة قصيرة للكاتب المصري محمد البساطي رغبة طفل في إشراك زملائه برؤية شيء لم يعتادوا مشاهدته حيث يأخذهم معه إلى بيته الذي يعش فيه مع والدته الأرملة.

وعن واحدة من قصص إحسان عبد القدوس حقق التميمي فيلما قصيرا بعنوان (كل النساء) 5 دقائق وفيه كشف متين بلغة الدراما والسينما عن علاقة الرجل بالمرأة منذ بداية الخلق، وحتى هذه اللحظة، وبيان مراحل الصراع بينهما، وبرع في تكثيف زمن القصة لتناسب الوقت المخصّص للفيلم .

 وقدم المخرج سيف الصمادي الذي أنهى دراسته في المعهد العالي للسينما بالقاهرة العام 1995، أكثر من عمل روائي وتسجيلي قصير منها فيلم (القميص المسروق) 7 دقائق المستمدَّة أحداثه عن إحدى قصص الأديب الفلسطيني الراحل غسان كنفاني، دارت إحداث الفيلم حول عائلة فلسطينية تجد نفسها داخل أحد المخيمات وتعاني صعوبة الحياة وقسوتها.

وشهدت ساحة الإنتاج السينمائي في الأردن في العام 1994، ولادة جملة من الأفلام الروائية القصيرة من بينها فيلمان للمخرج الشاب نبيل الشوملي حققها بالتعاون مع مخرج أردني شاب يدرس السينما في إيطاليا، هو عبد الحكيم أبو جليلة، وتم إنتاجهما بجهد ذاتي وبالتعاون مع رابطة الفنانين.

حمل الفيلم الأول عنوان (الثوب) وهو مأخوذ عن قصة قصيرة للأديبة الأردنية جواهر الرفايعة، تناول فيه محاولة طفلة الانفلات من قيود اجتماعية صارمة، كانت تجبرها على ارتداء زي الحجاب.

جاء الفيلم الثاني (الاكتشاف) عن قصة قصيرة للكاتب الأردني الراحل محمد طميلة، حيث يتوغل فيه المخرج لإضفاء الشكل التجريبي على إحداث يختلط فيها الواقع بالوهم  على نحو شديد الالتباس تتمازج فيها الفنون التشكيلية والموسيقى، وقطع الاكسسوارات والديكور، والمقولات والنظريات الفلسفية.

وعاينت المخرجة راما كيالي في فيلمها التسجيلي المعنون (لص اللحظة) في 35 دقيقة من رؤية وإنتاج خلدون الداوود مدير رواق البلقاء بالفحيص، مسيرة رسام الكاريكاتير والفنان التشكيلي المصري جورج بهجوري الذي راى ان بداياته في هذا الحقل التعبيري لم تكن سوى مجرد فوضى ودعابة أو أي نوع من المزاح في لحظات طريفة جميلة اعتاد قضاءها مع أصدقائه الحميمين.

ربما يعيب الفيلم بذخه في نظرته السياحية في بعض المواقف، وهي تلك النظرة التي يشارك المكان في صنعها، إلاّ أن كاميرا راما كيالي تلتقط صوراً حميمة، وتترك الفرصة للمشاهد ليتأمل المكان جمالياً، وليتعرّف على سماته بغية التعاطف معه.

كما نجحت تجارب سينمائية حققها مخرجون اردنيون أنهوا دراستهم في أكاديمية الفنون الجميلة في بغداد، في تجاوز النظرة التقليدية للفيلم التسجيلي، باعتباره فقير الإمكانات، الأمر الذي ينعكس على فقر الأساليب الفنية ومقومات الصورة، وهو ما تبدى أكثر من الفيلم الذي يحمل عنوان (المدينة) لمخرجه رياض طملية، والمستمدة أحداثه عن إحدى قصص الكاتب الراحل محمد طملية، والذي يتناول مدينة تبدو كمقبرة، يقوم على حراستها حارس بائس.

وعن قصة لمحمد طميلة أيضاً، قدم المخرج صلاح أبو عون، فيلمه القصير (الكابوس) وفيه يتناول قصة شاب لا يتمكّن من النوم بفعل صوت المياه القادم من حنفية المنْزل، ويعمل جاهداً على إيقاف تسرّب المياه، ويذهب إلى السوق لشراء (جلدة) للحنفية، لكنه يُفاجأ بوجود أهالي المدينة وقد اصطفوا لنيل ما تبقى من (جلدات) الحنفيات .

وعن واحدة من نصوص المجموعة القصصية (المتحمسون الاوغاد) لمحمد طمليه جاءت محاولة المخرج نائل أبو عياش بفيلمه القصير المعنون (خوف) وهو يخلو من الحوار تماما واعتماده على مفردات اللغة السينمائية اللون والصورة والموسيقى والتوتر والحركة.

 ودارت أحداث فيلم (القتيل) لأشرف حمادة المأخوذ عن قصة قصيرة للأديب الأردني خليل قنديل المسماة (وشم الحذاء الضيق)، في إحدى القرى التي ما زالت أسيرة تقاليد الماضي، والتي يؤمن سكانها بالخزعبلات والتخاريف التي عفا عليها الزمن.

 وعاين الفيلم التسجيلي الطويل (الشاطر حسن) للمخرج محمود المساد مسألة توظيف الحكاية الشعبية القديمة الموروثة في التراث الشعبي في فيلم احتشد بأجواء الغربة وعوالم الهجرة برؤية مضادة.

وضع الفيلم المتلقي منذ اللقطات الأولى في أجواء البيت العربي البسيط، حيث هناك أم تحتضن طفلها وتقص عليه قصة الشاطر حسن قبل النوم، وهي حكاية ذات نهاية سعيدة تجد ضالتها في القدرات الخارقة التي يتمتع بها الشاطر حسن.

واعتبر الفيلم أحد أهم الأفلام التسجيلية العربية التي خرجت إلى النور خلال العام 2006، والذي قطف عنه مخرجه جائزة أفضل فيلم عربي في مهرجان روتردام للأفلام العربية، وجائزة النقاد في مهرجان الإسماعيلية الدولي للأفلام القصيرة، والذي عد من أكثر الأفلام السينمائية التسجيلية فطنة وذكاء في دراسة سيكيولوجية الهجرة وتأثرياتها على المواطن العربي، ليخطف الأضواء من أعمال سينمائية مكرسة، استطاع الوقوف نداً لها.

حديثا ومع تزايد المعاهد والكليات التي تدرس سائر فنون وتقنيات السمعي البصري بالمملكة، بدأ خريجوها في العمل على تحقيق أولى أفلامهم الطويلة من خلال نصوص إبداعية أردنية، أو هي تحكي عن سيرة قامات ابداعية في تاريخ الثقافة الأردنية، مثل السيرة الذاتية للشاعر الأردني الراحل مصطفى وهبي التل (عرار)، وعازف آلة الربابة والمغني (عبده موسى)، كما تجري محاولات لأفلمة العديد من الروايات لأبرز الكتاب الاردنيين مثل: روايتي (نحن) و(دفاتر الطوفان) لسميحة خريس، رواية (سلطانة) للراحل غالب هلسا، ورواية (أنت منذ اليوم) للراحل تيسير السبول، إضافة إلى عدد من القصص القصيرة والكتابات المسرحية والنصوص العائدة لأسماء: هاشم غرايبة، ومحمود الريماوي، ويوسف ضمرة، وخليل قنديل بسمة النسور، وهزاع البراري، ومحمد طملية، ومفلح العدون، واحمد حسن الزعبي، وجميلة العمايرة، وجعفر العقيلي، والراحل مؤنس الرزاز، وسواهم كثير.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Social Media Auto Publish Powered By : XYZScripts.com