رفيع شأن البتول الوالدة/ الاب الدكتور بيتر مدروس

 ما أتى صدفة هذا العنوان ولا اعتباطًا بما أنّ اسم “مريم” في اللغة الكنعانية يعني “الرفعة، السمو، الارتقاء”. واسمها منها السلام، على جسمها. وليس مفروضًا عند المسيحيين ان تكون هنالك أية “مشكلة””أو” إشكالية” في موضوع السيدة مريم والدة السيد المسيح. ما اخترناها نحن بل اختارها الله وما باركناها ولا ميّزناها نحن بل باركها الله واصطفاها وطهّرها. وإنّ لم يكرمها ولم يطوّبها نَفَر من المنشقّين عن الكنيسة أو من أولادها العاقين او الجهال، فقد أكرمها الله، وطوّبتها وهنّأتها- وما تزال- جميع الأجيال، بعد المرسل السماوي جبرائيل واليصابات نسبيتها- والدة يوحنا المعمدان يحيى بن زكريا.

محاولات مقصودة او غير مقصودة للنيل من مكانة العذراء، حاشى!

استهلّ التلمود اليهودي شن الهجمات على السيدة العذراء بعد قدحه بالسيد المسيح، والعياذ بالله، لإدراك كتاب التلمود أنّ اكبر طعن للإنسان الشريف هو استهداف والدته. وما انتبه قوم من “المسيحيين” المستهينين انهم إنما يطعنون السيد المسيح ذاته بأقدس إنسانة عنده وأعزّ المخلوقات لدى قلبه، وبالتي كانت فعلا، بالحبل البتولي والأمومة للمسيح كلمة الله. همزة الوصل بين السماء والأرض. وهنالك عداوة نحو العذراء مصدرها الحيّة ونسلها (تكوين ٣ : ١٥). واستهتار بالأمومة مخالف للوصايا العشر والنفسيّة السليمة والقويمة. أمّا القول بأنّ دور العذراء انتهى بولادتها للمسيح، فهو باطل يكذبه الإنجيل الطاهر حيث وهب السيد المسيح في اخر لحظات من حياته والدته أمومة روحانية معنويّة ليوحنا التلميذ الحبيب (يوحنا ١٩: ٢٥ وتابع). والعقيدة المسيحية واضحة في شأن العذراء مريم البتول الوالدة الفريدة، ولا مقابلة مع أية سيدة اخرى، ولا مع أية “معبودة” وثنية مثل ارطاميس المجرمة أو “ملكة السماء” الكنعانية أو عشتار، ويكفي حتّى الملحدين ان الفرق بينها وبينهن هو الفرق الشاسع بين الحقيقة والأسطورة، بين الواقع والخيال، بين الحُلم بضمّ الحاء، والعلم، بين سموّ الأخلاق والفساد والانحطاط، بين الطهارة وعدمها، بين الحياء وغيابه، وقطعًا بين المسيح – ولا تشبيه- وأبناء تلك “المعبودات” الخيالية.

انطلاقا من تبشير مريم العذراء بالمسيح ( لوقا ١ : ٢٦ وتابع)

تحمّس احد الكهنة الإيطاليين في موضوع الكنيسة وقال مرّة:” لا يجوز ان نفكر في مريم العذراء وحدها بل دومًا في الكنيسة ومع الكنيسة”. وربّما قصد، بحسن نية وسوء تعبير، انه علينا اكرامها وتطويبها لا بشكل فردي فقط بل جماعي كنسي، مع الكنيسة وفيها. ولا يفوت لبيبًا ان للسيدة العذراء قيمة ومكانة ودورًا بحدّ ذاتها كطفلة وبنت وبتول ،قبل ان تصبح أمًّا للمسيح. ولوالداتنا قيمة وكيان ومكانة وعزّة قبل ان انجبننا، وإلاّ كانت المراة وسيلة إنجاب فقط. كما يراها التلمود. وفي شان العذراء، لفتت اليصابات الأنظار الى ان مريم ” مباركة في النساء” وهي عبارة عبرية آرامية تعني أوفرهنّ بركة، ولم تكتف بالقول:” مباركة ثمرة بطنك” (الأب رينيه لورنتان).
في البشارة، ما أرسل الله الملك جبرائيل الى “الكنيسة” التي لم تكن موجودة حينها، ولا الى البتول مريم بحضرة والديها. أرسل الله الملك الى “عذراء مخطوبة لرجل من بيت دَاوُدَ اسمه يوسف، واسم البتول مريم”. وما دار الحوار بين جبرائيل “والكنيسة” بل مع مريم وحدها. وأخذت البتول القرار وحدها، وكان ذلك القرار المصيري الوجودي في اصعب الأوقات واخطر المواقف. ويغفل أهل الجهل وعدم الرسوخ بطولة البتول، على صغر سنها، وهي تقبل أن تحبل من روح القدس، من غير خطيبها، مجازفة بحياتها معرّضة ذاتها للرجم، بما انها “مخطوبة” أي شرعًا “مكتوب كتابها”.

التحية او السلام الملائكي

سلم الملك على مريم قال:” السلام عليك يا مريم يا ممتلئة نعمة”. اللفظة اليونانية الأصلية ليست “خاريتومينه” التي تعني ” منعم عليها”، مع ان النعمة التي نالتها وسوف تنالها فريدة، بل ” كخاريتومينه” أي (متمّم مكمّل عليها الإنعام ) وهي صيغة يونانية تدل على الكمال والتمام في حصول الفعل بأجمل صورة وأكمل وجه. وأدركت “الترجمة” السريانية القديمة المعنى الدقيق للعبارة ونقلتها “ممتلئة نعمة”. ويبدو ان اللفظة الآرامية الأصلية كانت “حسيذتا” كما وردت في قراءات الإنجيل المقدسي الآرامي وتعني بالضبط “التي نالت نعمة فريدة” بل التي هي نعمة فريدة كاملة. ولحظ أحد الرهبان أنّ “الممتلئة نعمة” في عبارة جبرائيل اصبحت اسم علم ومرادفًا لاسم مريم، وكانت ملحوظته تلك نوعًا من التعويض عن هفوات وتعبيرات اخرى غير موفّقة، لا في المعنى ولا في المبنى، سببت عثرات وشكوكًا كان بالإمكان تجنّبها، بشيء من المعرفة والحسّ السليم والتواضع.

فكرة ناقصة مغلوطة خطيرة عن النعمة

يشدّد قوم، كما فعل أحد الرهبان الألمان في القرن السادس عشر، على النعمة فقط، وكأن لا دور للإنسان، ولا للعذراء مريم، على الإطلاق. صحيح ان الله أعطى البتول من الناصرة كل تلك النعم، ولكن هل أتت تلك العطايا اعتباطا، والعياذ بالله، بلا سبب ولا مبرّر؟ يدحض الإنجيل الطاهر هذا القول المهين بعبارات الملك الجلية: “لقد نلت يا مريم حظوة عند الله”. هو تعالى باركك واصطفاك وطهّرك وجمّلك وهيّأك، حتى لو كنت لا شيء فقد جعلك الله “كلّك جميلة وليس فيك عيب”، “مثل السوسن بين الشوك هكذا انت بين النساء”. ويسعفنا العقل السليم، مع القديس العبقري توما الأكويني، كي نؤكّد بملء أفواهنا: لا يليق أي عيب ولا نقص ولا خبث ولا اثم ولا غباوة ولا جهالة ولا رجاسة بالتي اختارتها العناية والحكمة والعلم الإلهية لتكون أمًّا للمسيح!
ويقف الساعون الى التقليل من شأن البتول السيدة عند بداية “رحلة الحج” عند العذراء. الله أغدق عليها النعم، وما كان لها فيها من فضل. ولكن لا ينتهي الامر هنا، كما توهّم راهب ألماني. النعمة مجانية، النعمة هدية عطية، مثل الوزنات والمواهب. بعد ان تكرّم الله على العذراء وعلينا، يترك لنا تعالى ان نتجاوب مع هذه النعمة وان نستثمرها. ومع الأسف تقدر نفوسنا المجروحة بالخطايا الأمّارة بالسوء ان تجحد النعمة وتهمل الوزنة وترفض العطية، أو تسيء استخدامها، كما تسيء بعض النسوة استخدام موهبة الجمال. لا نقدر ان نستاهل النعمة ولكن بوسعنا ان نفقدها. ومريم البتول حافظت على النعمة وقبلت المجازفة والمخاطرة حتى بحياتها، وشكرت الله وعظمته ولهذا نطوّبها ونكرمها ونغبطها بلا عبادة طبعا. أعلنت: “ها أنا أمة الرب، فليكن لي بحسب قولك!”

في غياب البصيرة والعقل السليم، التوهّم أنّ كلاًّ منّا، كل واحد وواحدة، “ممتلىء نعمة!”

هذا إعلان لا نحتاج الى تفنيده ويدحضه واقعنا اليومي “المملوء” إثمًا وخبثا ومكرا ومكيدة وحقدا وأنانية وكبرياء وغرورا وعدوانا وتجاوزا و… هذا القول يناقض الإنجيل الذي كتب في المسيح: “من ملء الكلمة أخذنا كلّنا، نعمة على نعمة” (يوحنا ١: ١٦). والمسيح نفسه “مملوء نعمة وحقًّا” (يوحنا ١ : 14). ولا يجدر بأحد ان ينسى بداية هذه الآية ولا ان يغفلها ولا ان يتناساها: “والكلمة صار جسدا ونصب خيمته بيننا وقد رأينا مجده…”، كل هذا بروح القدس “من مريم العذراء”. وإذا كان قوم ينكرون عند البتول مريم نيّة العذرية مع خطوبتها، فكيف يفسّرون استفسار البتول: “كيف يكون هذا وانا لا أعرف رجلا؟”.

خاتمة

“السلام عليكِ يا مريم يا ممتلئة نعمة، الرب معك، مباركة أنت في النساء، ومبارك ثمرة بطنك”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Social Media Auto Publish Powered By : XYZScripts.com