مُـحَـمـَّـد شـُكري وتحـويل الـتـشـَرُّد إلى نـَـصّ/ الـدكـتـور عـبـد الـقـادر حـسـين ياسـين

عـدتُ الى قـراءة “الخبز الحافي”،
فالعودة إلى قراءة كتاب تشبه زيارة صديق قـديم…
زيارة واحدة لا تكفي، كما ان قـراءة واحدة لا تكفي.
فالكتاب حقـل من التداعـيات والاحتمالات.
وإعادة القـراءة تسمح لـنا بأن نكـتـشـف مستويات جديدة للنص،
الذي يحمل احتمالات تأويل متعـددة.

دخلت هذه السيرة الذاتية التي كتبها محمد شكري الأدب العربي في شكل موارب.
صدرت بالانجليزية في البداية بترجمة بول بولز،
قبل ان تصدر بالفـرنسية بترجمة الطاهر بن جلون وبالعربية.
وعلى الرغم من أن الكتاب كتب بلغة الضاد،
فان حكاية نشره توازي في أهميتها حكاية كتابته.
إذ اضطر المؤلف إلى نشر الكتاب العربي على نفقته الخاصة،
قبل أن تلتفت إليه دور النشر العربية.

صار محمد شكري كاتباً باللغات الأجنبية قبل أن يصير كاتباً بلغته الأم!
ولم يكن معروفاً إلا في الأوساط المغـربية،
التي جهـدت كثيراً كي تـُعـرف الأدباء العـرب إلى زميلهم المغربي.

كان شكري ابن الريـف المغـربي المهاجر ،
ريـف الـفـقـر والجوع والعـنف، لكنه كان أيضاً ابن طنجة وكاتبها.
أخيرا عـثرت المدينة المغـربية على كاتبها الأمّي.
كان شكري أمـِّـياً لا يعـرف القـراءة والكتابة،
لكنه اكـتـشـف الحـرف في السجـن،
واحترف الكتابة كجزء من تـشـرده الطويل.

يكمن إبداع شكري في قـدرته على تحويل التشرد إلى نـصّ،
وفي رؤيته المضمرة للعلاقة بين الكـتابة والحـياة.
فهـو لا يحيا ليكتب، مثلما قال غابرئيل غارسيا ماركيز،
ولا يكـتـب ليحيا، مثلما عـلـمـتـنا شهـرزاد،
بل يجعـل من الحياة والكتابة خطين متوازيين: يحـيا ليحـيا ويكتب ليكتب،
ولا تشبه العلاقة بين الكتابة والحياة، سوى العلاقة بين الباطن والظاهـر.
الباطن هو الحياة، والظاهـر هو الكتابة.
لكن الحياة أكثر غـنى وتـنـوعـا ووحـشية من قـدرة الكتابة على التعـبـيـر…
الحياة تخترع لغـتها، وما عـلى الكتابة سوى اللحاق بها،
ومحاولة القـبـض على أجزاء منها.

وهذا ما فعـله شكري في سيرته الناقـصة،
والتي بقـيـت كذلك حتى بعـد إصداره جزءا ثانيا من “الخبز الحافي”، بعـنوان “الشطّار”.

المدهـش في كتاب شكري هو قـدرته على اللعب،
على أكثر من مستوى في الوقـت نفـسه.
بطل الحكاية الطفـل القادم من الريف البربري، يحاول ان يعـيش.
تعـقـيـدات الحياة تأتي من غـريزة البقاء نفـسها.
غـريزة البقاء هي حـضيض المشاعـر،
الأب الذي يقـتل ابنه ويضرب زوجته،
ويمارس سلطته الوحشية على الابن الباقي.
والأم الخاضعة بلا حول، والعالم الحقـيـقي الشرس،
الذي لا يترك لبطل الحكاية أي هامش للطفولة أو البراءة أو العواطف.

من قعـر هذا العالم الموحش والمتوحش تأتي الكتابة،
فالنـص الذي كتبه شكري لا يشبه السير الذاتية في شيء.
في العادة يكون كاتب السيرة الذاتية قد وصل إلى حيز من الشهرة،
لـذا تقوم سيرته بإعادة كتابة حياته، على ضوء موقعه الحالي.

فإذا كان كاتب السيرة كاتباً، فان مهمة السيرة القـيـام بتأويل حياة كاتبها،
في وصفها مسيرة متصلة نحو الكتابة.
أما هنا فكاتب السيرة لا شيء.
عـندما كتب شكري كتابه الأول لم يكن شيئا.
كان مجرد مـتـبـطـل في رفـقة مـتـبـطـلـيـن ،
وكتاب يعيشون في هامـش طنجة.

هذا سرّ علاقته بجان جينيه التي صارت كتاباً في ما بعـد.
في نهاية سيرته يشير شكري إلى اكتشاف الحـرف ،
وقراره أن يتعـلم القـراءة والكـتابة، بعد مغامرة مشاركته في التهـريب.
بالطبع ، لم يكن هذا الكتاب ممكناً لو لم يتعلم شكري الكتابة،
لكنه ،عـكس الكتاب الآخرين،  كتبَ سيرته كي يبدأ بها حياته الأدبية.

لذا تصير السيرة هـنا وكأنها رواية، أي أن دخول عالم القـاع،
يصير شكلا لتهـجـئة جديدة لمعنى الكتابة.
كتابة عارية، وحشية، غريزية،
كتابة تأخذ شكلها من تفاصيل الحياة، تلغي المحظورات،
وتقول الأشياء بوضوح حسيّ، ولغة مسنونة.

لم يسبق للمتشردين في مدن العالم العربي أن دخلوا إلى النـص الأدبي.
وشكري لا يكتب عنهم، انه واحد منهم،
يدخل العالم الأدبي بتجربـتـه الشخـصية،
ويأخذنا إلى الخبز المبلل بالأسى وغـريزة البقاء،
والى حياة مراهق متشرد في العالم السفـلي،
حيث تمتزج الرغـبات بالـعـنـف والدعـارة،
وحيث لا شيء سوى محاولة التحايل على الحياة بفـتات الحياة.
كتاب مفـتـوح على الدنيا، ومفتوح على الأسى والخيبة.
كيف كتب شكري كتابه؟

هل جاءت الكتابة بتحريض من آخرين؟
أم كانت طلقة في العـتمة؟
وماذا يهم؟ المهم أننا أمام نص قابل لأن يفتح أبواب نصوص جديدة.
غير أن حكاية هذا الكتاب تحمل دلالة على واقع الثقافة العربية.
هل صحيح أن الأسباب التي حالت دون نشر الكتاب زالت،
آو لم يعد احد يجرؤ على الإشارة إليها،
بسبب المكانة الأدبية الرفيعة التي احتلها “الخبز الحافي” في العالم؟
وهل يشير ذلك إلى عدم قدرة الثقافة العربية،
على ان تكون مرجعاً أساسيا لنفسها؟
والدليل على ذلك هو الأزمة التي أثارها تدريس هذا الكتاب،
في الجامعة الأمريكية في القاهرة، منذ أعوام قليلة.
اذ قام حـُرَّاس القيم البائدة بمحاولة منع تدريس الكتاب،
تحت حجة “الدفاع عن الأخلاق”…

الدفاع عن الأخلاق لا يكون بحجب الحقيقة، بل بحل المشكلة،
أطلق محمد شكري صرخة الحرية والحياة في كتابه،
وقدم إحدى روائع الأدب العربي المعاصر،
وفتح الباب أمام الهامش بأن يحتل المتن.
وهذا ما تحتاجه الثقافة كي تبقى حية وفاعلة ومبدعة.

<ahy15may1948@gmail.com>

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Social Media Auto Publish Powered By : XYZScripts.com