جـَبـرا إبـراهـيم جـَبـرا : الـرَّمز الـنـوعي في الـثـقـافـة العـربـيـة/ الدكتور عـبـد القـادر حسين ياسين

في مثل هـذا الـيـوم ، قبل 24 عاما، غـيـَّب الـمـوت الكاتب الفلسـطيني الكبير جبرا إبراهيم جبرا. كان جبرا ، طوال أكثر من نصف قرن ، رجل الاختلاف العميق المؤمن بحق الآخر في أن يكون مختلفا وبعمق. أحبه وشغف بنتاجه الأدبي والفني الكثيرون وحاربه وقاطعه، بل وحذَّر منه ، الكثيرون، لكن الكل أجمع على أهميته الاستثنائية، بل وضرورته في التاريخ الثقافي الـفـلـسـطيني. لم يكن رجل مشروع  ـ كما تـوهم البعض ـ  بل كان مشروعاً عظيماً في رجل.

وُلـد جبرا إبراهيم جبرا في بيت لحم بفـلسطين عام 1920، ودرس في مدرسة طائفة السريان في بيت لحم خلال المرحلة الابتدائية، ثم في مدرسة بيت لحم الوطنية، فالمدرسة الرشيدية في القدس التي أتاحت له التعرف على الأســاتـذة الكبار من أمثال إبراهيم طوقان واسحق موسى الحسيني وأبى سلمى (عبد الكريم الكرمي) ومحمد خورشيد (العدناني)، ثم التحق بالكلية العربية في القدس. وخلال هذه الفترة كان قد تمكن من اللغتين العربية والإنجليزية بشكل ممتاز. حصل جبرا على شهادة الماجستير في الأدب الإنجليزي من جامعة كيمبريدج .

بعد نـكبـة فـلـسـطين في أيـَّـار عـام 1948 انتقل جبرا إلى العراق واستقـر في بغداد وحصل علي الجـنسية العراقـية. نشر عدة كتب في النقد الأدبي تعـد من بين أهم ما كتب في النقد العربي المعاصر. منها :
“الحرية والطوفان” ،
“النار والجوهر” ،
و”الفن في العراق اليوم ـ بالانجليزية” .

كـمـا نشر جبرا ثلاث مجموعات شعرية ” تموز في المدينة”، “المدار المغلق”، ” لوعة الشمس” ، وله في مجال الرواية العديد من الروايات نذكر منها : “السفينة” و”البحث عن وليد مسعود” و”يوميات سراب عفان” و”صيادون في شارع ضيق” . نشر جبرا أيضا كتابين مميزين ونادرين في السيرة الذاتية: “البئر الأولي” و”شارع الأميرات”. أما “عالم بلا خرائط” فهي تجربته الروائية المشتركة مع الروائي العربي الراحل عبد الرحمن منيف.

وقد ترجم الى العربية التراجيديات الشكسبيرية ، والعديد من الروايات والكتب الأساسية، التي كان لها أكبر الأثر في تحديث الفكر الإبداعي العربي. أكثر من 57 كتاباً، بإمكانها أن تشكل مكتبة غـنـية بـتـنـويعاتها، هي الإرث الذي تركه جبرا وراءه وهي وصيته إلى الأجيال العربية القادمة، التي لم يتوقـف عن النظر إليها حالماً.

كان جبرا على قدر هائل من التواضع، لكـنه تواضع ممزوج بالرفـعـة، انه تواضع العـلماء الذين يجدون في المعرفة جسراً يؤدي بهم إلى الناس العاديين، حيث يكون بإمكان رسالاتهم أن تصل من غير أن يلوثها هواء العادي والمألوف.

في بغداد، لم تكن الحيوية الثقافية التي أشاعها جبرا مقصورة على العمل الكتابي. بل ان إسهامه في تأسيس “جماعة بغداد للفن الحديث” كان ذا أثر ملموس في تطوير هذا الفن على مستوى العراق. والواقع أن جبرا في السنوات الثلاثين الأخيرة من حياته قد أولى الرسم والتصوير اهتماماً كبيراً على المستوى النظري بصورة خاصة. وإذا كانت رسومه الشخصية تدور في الفلك الواقعي التعبيري، فإن دعوته النظرية كانت تشمل مختلف المدارس وكان انحيازه إلى الجديد لا حدود له. وان كان ـ وهذا شأنه في النقد الأدبي أيضاً ـ يعطي الأولوية للإبداع بما هو إبداع.

أما فلسطين التي لا يمكن أن تغيب عن روح جبرا، فإنها تطل من خلال قصيدة “مارجيروم في بيت لحم” وكذلك في “ما بعـد الجلجلة” وفي مجمل الإحالات والرموز المسيحية . وهذا ما ينسحب على مجموعة لوعة الشمس الذي جعل جبرا قصيدتها الأولى تحية إلى القدس “مدينة المعراج والجلجلة”. أما قصائده بعد ذلك فهي في معظمها قصائد حب. ولكننا ندرك أن الشعر الحضاري يفيض عن موضوعه المحدد ليمسّ الهموم الإنسانية على مختلف المستويات.

بين إبداعات جبرا، كان الشعر موضع إشكال. فحين يتحمس الراحل الكبير توفيق صايغ له إلى حد إعلانه أنه لو كان في جزيرة منقطعة وكان له أن يقتني كتاباً واحداً لاختار “تموز في المدينة”، نرى من جهة ثانية شعراء كباراً جادين يبدون حيرتهم من شعر جبرا الذي ظل محكوماً بالمعاني والموضوعات، مع أنه المبشر بالثورة والتجديد وإطلاق حرية اللغة إلى أبعد مدى… ولكن مهما كان الرأي في شعر جبرا فلا أحسب أن هناك من ينكر دوره في دفع الشعر العربي الحديث خطوات نوعية إلى منطقة الحداثة.

السيرة والسيناريو
وضع جبرا كتابين في السيرة الذاتية، هما “البئر الأولى” و”شارع الأميرات” ونستطيع أن نضيف إليهما الكتاب المكمل “حوار في دوافع الإبداع” ، وهو سلسلة حوارات أجراها معه الناقد العراقي المعروف ماجد السامرائي. فكشف عن مناطق في دخيلته من شأنها أن تضيء شخصية جبرا في طريق دراسية.

كان لكتاب “البئر الأولى” وقع السحر على القراء. وترجم إلى الانجليزية والفرنسية والإيطالية . لم يكتب جبرا في هذا الكتاب سيرة متصلة كالتي كتبها ميخائيل نعيمة عن جبران، أو الدكتور طه حسين عن نفسه في “الأيام”. ولكنه التقط لحظات نوعية في طفولته تكشف البيئة والثقافة والوعي الاجتماعي والتربوي وترصد براءة اكتشاف الموجودات المحيطة بابن العاشرة ، بين القدس وبيت لحم. ومع أن الكتاب فصول مستقلة، إلا أنه معطى بأسلوب يحرض القارئ على إكمال ما بين الفصل والفصل، بحيث يقع في النهاية على ما يشبه رواية النوستالجيا. بل إن بعض النقاد تعاملوا مع هذا الكتاب والذي تلاه “شارع الأميرات” بوصفهما روايتين، أو رواية من فصلين. وكان لـ “شارع الأميرات” نكهة مختلفة، حيث تدور فصوله وقد أصبح جبرا شاباً يدرس في بريطانيا، ثم كاتباً معروفاً. فكان الكتاب بمثابة شهادة، متممة لما بدأه في روايته “صيادون في شارع ضيق” عن بغداد ما بعد الحرب العالمية الثانية.

وجاء الحوار الذي أجراه معه ماجد السامرائي ليضع الكثير من النقاط فوق الحروف. وإذا كنا مع الكتابين السابقين في مقاربة مع نص روائي ساحر، فإن الحوار مع ماجد يضعنا أمام حالة شبيهة بالسيناريو السينمائي أو التلفزيوني على مبدأ الاسترجاع. فقد كان ماجد يسأل وجبرا يفتح ذاكرته فـنرى على الورق عالماً مركباً من العلاقات الثقافية والمعرفية والإنسانية.

وليس هذا غريباً على كاتب موسوعي تعامل مع أجناس فنية وأدبية مختلفة، بما فيها السيناريو السينمائي. فقد أصدر في هذا المجال كتابين، هما “الملك الشمس” و”أيام العـُقاب”. والسيناريو الروائي الأول يتناول شخصية الملك الآشوري العراقي نبوخذ نصر، أما الثاني فيتناول معركة اليرموك وعبقرية القائد الصحابي خالد بن الوليد.

ونعرف كذلك أن جبرا كتب الحوار لفيلم “عمر المختار” الذي أخرجه بنجاح كبير، السوري مصطفى العـقـاد. وطبيعي أن يكتب جبرا المعاصر عن شخصيات تاريخية بهدف قراءة الحاضر. فهو صاحب رؤيا عربية إنسانية تغذيها التراجيديا الفـلسطينية بأسباب الثورة والدعوة إلى الوحدة الوطنية، من غير أن يغـفـل عن الأسئلة الوجودية التي تؤرق قائداً مثل نبوخذ نصر يحلم بالقبض على المستحيل. إلا أن النزعة التنويرية عند جبرا تحثه على الشرح والتفسير. فقد كان ينصح بالتقاط هذا المشهد أو ذاك، وفق هذا النوع من الإنارة أو ذاك. أو ببطء التصوير، أو سرعة الإيقاع، علماً بأن السيناريوهين لم يتحولا إلى فيلمين سينمائيين. ولعله كان يتعامل معهما بوصفهما روايتين على نحو ما. فقد وصف كل سيناريو منهما بأنه روائي. وأدرج ـ على الصفحات الأخيرة لكتبه ـ سيناريو “الملك الشمس” بين أعماله الروائية.

الترجـمة والـنـقـد

كان لابد من الربط بين الترجمة والنقد في مسار مشروع جبرا الثقافي، لتلازمهما في المهمة التنويرية التي نذر نفسه لها. وإنه لأمر لافت أن هذين النشاطين قد شغلا أكثر من نصف مجمل مشروعه الثقافي. وإذا اسـتـثـنـيـنا كتبه النقـدية التي أشرنا إليها في مجال الفن، فإننا نذكر، على أمل ألا يفوتنا شيء، عناوين كتبه النقـدية الأدبية الفكرية. وتحفل هذه الكتب بمراجعات نقدية لروايات ومجموعات شعرية عربية وعالمية لتدخل عالم المعرفة في مسارين: الأول هو مسار الحداثة ومعاركها في الساحة العربية من خلال قراءات نوعية لأعمال أدونيس ويوسف الخال وتوفيق صايغ وغيرهم.

أما المسار الثاني فهو تنويري بحت، يضع في حسابه أنه متوجه إلى جمهور قد لا يكون مطلعاً بالضرورة على أحدث المدارس الأدبية في العالم. بل كثيراً ما يكون مشكوكاً في فهم هذا الجمهور للمصطلحات الأدبية المستعملة. فـكـتب مقالات قد تبدو في وقت لاحق أنها مدرسية أو ما أشبه. لكن القارئ المتابع يدرك فائدتها الميدانية. فهو لم يتحرج من التعـريف بالمونولوج والديالوج والبرولوج والمدرسة القـوطية والأسلوب الباروكي والأليغـوريا. كما أنه “يشرح” بعض الأعمال الصعبة كما فعل مع رواية وليم فوكنر الخالدة “الصخب والعنف”.

وضمن هذين المسارين كان مشروع جبرا واضحاً: “في صلب التراث.. في صلب الحداثة” . وليس معنى ذلك أن جبرا كان توفيقياً أو وسيطاً. ولكنه باختيار الحداثة التي قطعت مع الماضي كان معنياً باستنقاذ كل ما هو مضيء في هذا الماضي.

كان الهاجس التنويري هو الدافع الأساس لمشروع جبرا في الترجمة كما هو في النقد. ويستوي في ذلك ما ترجمه من فكر أو إبداع. وسنلاحظ أن ما نـقـله إلى العربية من نصوص إبداعية ـ باستثناء الشكسبيريات ـ كان قـليل العدد نسبياً. فـقد ترجم رائعة صموئيل بيكيت “في انتظار غـودو”. هذه المسرحية التي كان لها أثر كبير في مسرح العـبث وفي المسرح عموماً، بل وفي أسئلة المثقفين بشأن الحاضر والميتافيزيقا. وكان طبيعياً أن يكون جبرا المنحاز إلى الحداثة في طليعة المثقفين العرب الذين يهتمون بهذا العلم النوعي. تماماً كما كان طبيعياً أن يكون هـو، ولا أحد غيره، من ترجم رواية وليم فوكنر “الصـخـب والـعــنف” وزوّدها بمقـدمة وضع فيها خلاصة رؤيته لهذا الكاتب الأمريكي الصعب. وفكك الرواية بحيث أصبح فهمها ممكناً عند الكثيرين الذين كانت ستعسر عليهم بالتأكيد. وقد تأثر غسان كنفاني بترجمة جبرا لهذه الرواية، وظهر ذلك واضحاً في روايته “ما تبقى لكم”.

إلا أن إسهامه المدوي كان في الشكسبيريات. حيث ترجم المآسي الكبرى: مأساة هملت، مأساة الملك لير، مأساة مكبث. ثم أضاف إليها مأساة كريولانس ومسرحية العاصفة ومسرحية الليلة الثانية عشرة. وكعادته، لم يكتف جبرا بالترجمة الباهرة بل استقصى كل مسرحية ترجمها، وكذلك السونيتات، واستقرأ المصادر والمراجع.

ذلكم هو جبرا إبراهيم جبرا الفلسطيني ، الرمز النوعي في الثقافة العربية خلال القرن العشرين. إنه بحر في العمق وصخب الروح ووداعة المشهد.

كان داعـية حـرية وتمرد ، وظل كذلك الى آخر يوم في حياته. كانت لغـته تـشـبـهـه من حيث أناقـتها، بلاغـته هي خلاصة توقه إلى الحرية.

كان جبرا آخر الرجال الأنـيـقـيـن ، الذين كانت أناقـتـهم تـفـصح عن شعـور عـميق بنبل جمالي، هو بمثابة دعوة لولادة أخلاق جديدة.

  <ahy15may1948@gmail.com>

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Social Media Auto Publish Powered By : XYZScripts.com