عن قوة الديمقراطية الأميركية وبؤسها!.. محمد ياغي

لو كان الصراع الذي يجري بين مؤسسات الدولة الأميركية ورئيسها يحدث في دولة غير ديمقراطية، لتم الإطاحة بالرئيس منذ وقت طويل ولربما تم إيداعه في السجن والحكم عليه بالإعدام لعمله ضد «المصالح العليا» للدولة وبتهمة الخيانة العظمى.

لكنها قوة الديمقراطية الأميركية وقمة بؤسها في نفس الوقت التي تتيح لرجل غارق حتى أذنية في التآمر على مصالح بلاده، كما تراها مؤسسات الدولة، من الاستمرار في الحكم.

منذ انتخابه رئيساً للولايات المتحدة، دخل ترامب في صراع علني مع غالبية مؤسسات الدولة التي يفترض قيامه بالاسترشاد برأيها في سياساته.

في الوقت الذي أعلنت فيه، مثلاً، ١٧ مؤسسة أمنية أميركية أن روسيا قد تدخلت في الانتخابات الأميركية وحاولت التأثير في نتائجها، قام هو بتبرئتها مدعياً أن لا أدلة تثبت تورط الروس في التدخل بهذه الانتخابات.

وبينما كان مكتب التحقيقات الفيدرالي يعمل على جمع الأدلة التي تثبت تورط عدد من أفراد حملته الانتخابية بالتآمر مع الروس لإنجاح ترامب في انتخابات الرئاسة، قام هو بإقالة رئيس المكتب، جيمس كومي، بعد رفضه إغلاق التحقيقات.

ترامب، تقريباً، اشتبك مع جميع أفراد طاقم إدارته الذين عينهم هو وأقالهم جميعاً أو تسبب في دفعهم للاستقالة لخلافهم معه على طريقة عمله ولقناعاتهم بأن سياساته لا تتفق مع حماية المصالح الأميركية ومنهم وزير الخارجية، ريكس تيليرسون ـ هيربيرت ماكماستر، رئيس مجلس الأمن القومي ـ جون كيلي، رئيس طاقم البيت الأبيض ـ جيمس ماتيس، وزير الدفاع ـ جيف سيشن، المدعي العام ـ وغيرهم كثيرون.

الصراع في البيت الأبيض بين المؤسسة التي ترعى المصالح العليا لأميركا وبين الرئيس المنتخب وصل الى درجة قيام «عضو» من داخل الإدارة نفسها بنشر مقال في صحيفة نيويورك تايمز، دون أن يفصح عن اسمه يقول فيه إن هنالك «مقاومة سرية» داخل البيت الأبيض لمنع ترامب من الإضرار بالمصالح الأميركية العليا.

هذا المستوى المرتفع من الاشتباك بين «المؤسسة» ورئيسها، كان بإمكانه أن يفضي في دولة لم تتجذر فيها الديمقراطية الى قيام «العسكر» بالاستيلاء على السلطة وسجن الرئيس المنتخب أو إعدامه.

 لكنها الديمقراطية في أفضل صورها التي تسمح للرئيس المنتخب بأن يمارس مهامه وفق القواعد الدستورية المتفق عليها.

لم يقل أحد إن «الجماهير» لم تعط ترامب الشرعية رغم أنه لم يحصل على الغالبية الشعبية في الانتخابات التي جرت العام 2016 ولكن على غالبية الهيئة الانتخابية.

ورغم التهم العديدة التي تلاحق ترامب منذ توليه منصب الرئاسة من نوع «التواطؤ» مع دولة أجنبية للوصول إلى الحكم إلا أن أحداً لم يتحرك للآن لإقالته من منصبه مفضلين انتظار تقرير المحقق الخاص، روبرت مولر، حول هذه المسألة.

الديمقراطية في أميركا متجذرة بلا شك، ولو لم تكن كذلك، لتمت الإطاحة بالرئيس ترامب منذ وقت طويل.

مصادر قوة الديمقراطية الأميركية ثلاثة: دستور، حرية إعلام، ونخب تحترم اللعبة الديمقراطية.

الدستور كُتِبَ بعناية فائقة وفيه توازن دقيق بين السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية. الرئيس يمكنه إصدار المراسيم التنفيذية لكن المحاكم الأميركية يمكنها الإطاحة بها.

والرئيس يمكنه أن يعتمد ما يشاء من الأموال للبرامج التي يعتقد بأهميتها، لكن هذه الأموال لا يمكن صرفها ما لم توافق عليها المؤسسة التشريعية.

والرئيس يمكنه أن يعين من يشاء في المناصب الحكومية الرفيعة، لكن الشخص المعين لا يمكنه ممارسة عمله قبل حصوله على موافقة مجلس الشيوخ.

والرئيس يمكنه إعلان الحرب، لكنه لا يستطيع الاستمرار فيها أكثر من ستين يوماً ما لم يحصل على موافقة المؤسسة التشريعية خلالها.

والرئيس يعين قضاة المحكمة العليا بعد موافقة مجلس الشيوخ عليهم، لكنه لا يستطيع عزلهم بعد ذلك.

الإعلام الحر الذي يضمن الدستور استقلاليته وحريته والذي يراقب عمل المؤسسات التنفيذية والتشريعية والقضائية ويبين أوجه قصورها ومواطن الضعف بها والذي يفضح «رئيسها» عندما يرتكب حماقات بحق الشعب الأميركي.

الإعلام لا تطارده المحاكم كما في البلاد غير الديمقراطية لكنها تحميه. لا توجد نصوص في القوانين تقيد حريته، وتوجد نصوص تحمي حق الصحافي في حماية مصادره.

أما النخب فهي تؤمن بأن احترام قواعد العمل الديمقراطي هو أساس الحكم وأنه الضامن الوحيد لتبادل سلمي للسلطة.

لو فقدت هذه النخب قناعاتها بذلك، كما شاهدنا في بعض الدول وأشباهها، لشاهدنا اليوم في أميركا «حرب» شوارع بين مؤيدي الرئيس المنتخب ومعارضيه.

لكن النخب الأميركية ورغم قناعات العديد منهم بأن الرئيس الحالي لا يصلح حتى لقيادة «سيارة» وليس دولة بوزن أميركا السياسي والاقتصادي والثقافي، متمسكون بقواعد العمل الديمقراطي.

لكن الديمقراطية الأميركية أيضاً يشوبها البؤس.

هي ديمقراطية من يمتلك الأموال للصرف على الحملات الانتخابية التي تصل قيمتها لمئات الملايين من الدولارات.

لذلك، من الطبيعي أن لا تشاهد من بين المرشحين لانتخابات الرئاسة إلا أصحاب الملايين أو من تمكن منهم من نسج شبكة علاقات قوية مع أصحاب الملايين لتمويل حملاتهم الانتخابية.

وهذا هو السبب الذي يمكن شخصاً مخادعاً وفاسداً من شاكلة ترامب من الترشح للانتخابات الرئاسية ومن تضليل ملايين الأميركيين لانتخابه.

لو كانت هنالك قيود على حجم الإنفاق المالي خلال الدعاية الانتخابية ولو كانت مصادر تمويل هذه الحملات من قبل الدولة وليس من أصحاب الأموال لما تمكن ترامب من الفوز بالانتخابات الرئاسية، لأن العشرات من المثقفين الذين لا يمتلكون الأموال كان بإمكانهم التنافس على موقع الرئيس وبوجودهم كان الرئيس الحالي سيصبح مجرد «نكتة» ثقيلة الدم لا فرصة له مطلقاً بالنجاح.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Social Media Auto Publish Powered By : XYZScripts.com