الـحـُسـَيـْن بن مـَـنـصـور الحَـلاج:صـَوت مَـن لا صَـوت لـهـم..!الدكتور عبد القادر حسين ياسين

لم يختلف الناس في آرائهم حول رجل كاختلافهم عـليه…
فعـشاقه يعتبرونه “قـطب المعرفة بلغ درجة عليا ،
لم يبلغها غـيره في مدارج العرفان…
أدرك الحقيقة فكان الحقيقة…”

وأعداؤه أقـروا بجنونه وألصقوا به صفة الساحر الآثم الـدَّجال،
الذي “يستهوي العامة بحديثه وأشعاره”.

عـنه قال فـريد الدين العـطـَّار:
“…بأية حماسة فـيضية وحمية وجدانية ،
قامر هذا العاشق برأسه ودفعه مهراً لمعـتـقـده ،
كيما يظفـر بجوهـرة الجمال الإلهي…”

وعـنه أيضا قال طه عـبد الباقي:
“منذ أكثر من ألف عام تركز سمع الدنيا وبصرها ،
على الخاتمة الفاجعة لأعجب صراع شهده تاريخ الفكر الإسلامي..”

أما هـو فيقـول عن نفـسه:
“أنا من أهـوى ومن أهـوى أنا
نحن روحان حللنا بدنا
فإذا أبصرتني أبصرته
وإذا أبصرته أبصرتنا..”

لكنه يبقى في كل الأحوال “أحد الواقفين على قمة الأيام.”.
كلما مرّ ذكره انحنى له الزمن مذكرا بمقـتله الشنيع..
ذلك هو الحسين بن مـنصور الحلاج.

كان الشهيد الشاهـد… الثائر على فساد الساسة ورياء المنافـقـيـن…
كان قائد جيش الـفـقـراء وصوت من لا صوت لهم…
حتى إذا ما عـظم أمره ، وتزاحم حوله الأنصار والمؤيدون، كان الاستشهاد العـظيم..
“عجـبـتُ منكَ ومني يا مـنية المـتـمـني
أدنـيـتـني مـنـك حتى ظنـنـت أنـَّـك أني
وغـبـت في الوجـد حتى أغـنـيـتـني بك عـني
يا نعـمـتي في حياتي وراحتي بعـد دفـني ..”

منذ أكثر من ألف عام تركز سمع الدنيا وبصرها ،
على الخاتمة الفاجعة لأعجب صراع شهده تاريخ الفكر،
وتاريخ الحياة الروحية في الإسلام…
ولقد غامرت الخلافة العباسية بسمعـتها ومكانتها ،
فألقـت من أعلى مآذن بغـداد برماد جثة هـذا الرجل،
فى مشهـد درامي سجلته عـدسة التاريخ ،
وحملت أجنحة الهواء ذرّات رماد الشهيد إلى الآفاق.

رأى خاتمته فوصفها قبل أن تحدث وحدثت ،
مثلما رآها في “اللوح الذي لا يـُرى…”
لم يكن الحلاج عاشقاً يهيم على وجهه..
ولم يكن بالواقف على ساق واحدة فى الخلاء…
بل كان زعـيـماً سياسياً وصوتاً قـوياً لا يخشى سطوة سلطان جائر،
يجاهـر بالحق بعد أن آمن بأنه هـو الحـق …
أليس هـو القائل:
“…إن الحق لن يقبل من الناس عباداتهم اذا اختلفـت سياساتهم،
وفـَـسدت أخلاقـهم ثم استكانوا للبـغـاء والـفـسـاد.. ”

كان الحلاج صوفياً…
لكنه لم يكن كغيره ممن تـلـبـسوا بالحـرقـة ،
وانصرفوا للخالق وابتعـدوا عن المخـلوق..
لقد عـاب الحلاج على السطامي زهـده ،
كما انـتـقـد الجـنـيـد فى سـلـبـيـتـه…
ثار هـذا الصوفي على الزهـد الذي لا يقر بحق المخلوق في الحياة الدنيا،
والانصراف كلياً إلى عـبادة الخالق منشغـلـيـن بذكره ،
عـن واجباتهم تجاه الضعـفاء من مخلوقـاته…

جمع الحسين بن منصور بين الدين في تجلياته والدنيا فى مباهجها ،
وارتفع الى المعراج المقـدس كما نزل إلى حيث البائسين المضطهدين،
فكان صوتهم وكلمتهم التي وحـَّدت حزب الـفـقـراء،
ودفعـته إلى هـزّ عـرش الخلافة العباسية ،
لولا أن تدارك الخليفة الأمر،
وأسرع بإلقاء القـبـض على الحلاج وتقديمه للمحاكمة..

وكان يوم المحاكمة.
سأل القاضي بن سريع الحلاج:
”هل أنت الله؟!”
♦”حاشا أن يكون الحسين ذلك، فهو عـبد من عباده ،
يؤمن بكتبه ورسله واليوم الآخر ، ويشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.”
”لكنك جاهـرت بالكفـر وناديت بالعـصيان..”
♦”الكفـر أن تقـر لسلطان ظالم بظلمه ، أما العصبان فأن تخفي كلمة الحق أمام سلطان جائر..”
”ومن وضعـك ميزاناً بين الحاكم والرعـية..؟”
♦”الحق الذي أنا…”
”إلحاد بـيـِّـن وضلال مـُبـيـن..”
♦”الحسين يـَـنـشـد الخير ويدعـو إلى الحقّ ولا يـُـقـرّ الظـُلم..”
”اعـتـذر يا حـسين واطلب العـفـو..!”
♦”يا ظاهـراً باطناً تجلى بكل شيء بكل شيء
يا جملة الكل لست غـيري فما إعتذاري إذن إليّ..؟!”

كان الحكم جاهـزاً:
القطع والحرق ، وذرّ رماد الجثة من أعلى مئذنة في بغـداد…
حتى لا يحتوى قـبـر جسد الشهيد،
فـيـصـبـح مزاراً للمقهورين ، ورمز التحدي لـلـسـلـطة..

وتقـدم السيـَّاف…فـقـطع اليدين ثم الرجلين…
قال الراوي لمقتل الحلاج:
“…ولما أخذ وجه الحلاج فى الاصفرار ، لكثرة ما نزف من دمه ،
مرّر بـبـقـية ذراعه اليمنى على وجه ،
فخضبه بالدم حتى يخفى ذبوله واصـفـراره..
وقبل أن يقطع السيـَّف لسان الحسين ،
رفع الشهـيد بصره ، وجال فى اللامنتهي…
ومع انتهاء المؤذن من الدعـوة لصلاة العصر…
جمع الحسين بقايا صوت وصاح:
“ركعـتان فى العشق لا يصح وضؤوهما الا بالدم ..”
ومع الفراغ من الصلاة أغـمض الشهيد عينيه وأسلم الروح مبتسما…
لـُفـَّـت بقايا الجـثة ، وأحرقت ، ومن أعلى منارة فى بغـداد ذرّ الرماد.”

كان ذلك بعد غـروب يوم السادس والعشرين من آذار من عام 922 للميلاد..
لقد أسرف خصوم الحلاج في بُـغـضـه وتجريحه.
وأسرفـت الخلافة العباسية في اضطهاده وتعـذيبه ،
وأسرفـت إسـرافا جنونياً لحجـب سيرته عن حياة العامة ،
وتـشـويه ثرائه الفكري ورؤاه الـفـلـسـفـية ،

وفي مقابل هذا أسرف أنصاره في حـبـّه وتـقـديـسـه ،
وفي الحديث عن أسراره وتجلياته حديث وصل حـد الإعجاز والمعجزات.

قال الراوي:
“وفى فجر يوم الاربعين لاستشهاد الحسين بن منصور الحلاج ،
سمع أهالي بغـداد صوته من المئذنة التي ذرّ منها رماد جسده ،
وهو ينادى حيَّ على الصلاة.”

وانطلق الخيال ليكمل الأسطورة ،
ويوشى هذه الصورة العجيبة ،
ويريق عـليها مزيدا من الجمال والغموض،
ثم أخذ يشيع حولها مشاهـد متنافـرة تتعاقـب وتتواكب ،
حافلة بأروع ما في الدنيا من عظمة الروح والإيمان ،
وبأقـسى ما في كتاب الظلال من الحاد ومروق..

في كتاب “شخـصيات قـلـقـة في الإسـلام” يـقـول الـدكـتـور عـبـد الرحـمـن بـدوي:
“… ويبقى الحلاج أحد كبار الفلاسفة ،
الذين أثاروا جدلا متواصلا حتى اليوم…
وما تزال أقواله ذات طابع حضاري عميق الأثر ،
وأكثر صدقا من الناحية الاجتماعية…”

ذلك هو الحلاج ،
الشهيد الحيّ الذي قـدَّم للدنيا صورة الولاية الكبرى…
وقد بلغت أوجهها في تضحية مليئة بالرجولة…مليئة بالإلهام.
“وما شـرب العـشاق الا بـقـيـتي
وما وردوا فى الحب إلا على وردي”

ذلك هو الحق…
وذلك هـو الـنـبـأ الـعـظـيـم الذي فـيه يخـتــلـفـون.. .

<ahy15may1948@gmail.com>

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Social Media Auto Publish Powered By : XYZScripts.com