“في الوجودِ اثنان “

بقلم: محمد بكرية

أنا , من أمّي وأبي ,

سقطْتُ مثلَهما دونَ أنْ ندري بيَدِ القدَرُ,

كبرتُ وهما على أرضٍ حافيةٍ من الزّرعِ والجَذْرِ

وكانَ علينا أنْ نحَصِدَ الغِلالَ ونرقّشَ الصحراءَ بكرْمٍ أخضر.

أُطلُّ على امتدادٍ بعيدٍ , يضطجعُ بينَ أحضانِ الهضابِ العالية.

أتلفّتُ كعصفورٍ عالقٍ على أكمَةٍ أوْ أيكةٍ يابسة في بيداءَ واسعة.

عصفورٍ تاه عمّا اشتهى , عن غصنِ وردٍ غضٍّ في حديقة ,

وصار رهينًا لشوكِ الشجر.

شجرٍ محرومٍ من قُبُلاتِ السماء ,

من ندَى المساء , من ضوءِ القمر وماء المطر.

آهٍ , آهٍ , يا لشوكِ الشجر!

قالوا :

هو القدرُ, هو القدر.

وقالوا:

أفتحْ بوّابةَ الفجرِ بالصّلاةِ على الرُسُلِ والأنبياء ,

صلّ عليهم صباحًا وأقرأ الإنجيل ,

وفي المساء ,استعذْ من همَزاتِ الشيطانِ بتلاوةِ القران .

هكذا فعلتُ , لمْ أنسَ قيامَ اللّيلِ والتهجّدِ ,

وفي ليلة القدْر, دعوْتُ اللهَ , علّ السماءَ تنفتحُ ويصيرُ لي في الجنّةِ منزلٌ أوْ عنوان.

قالوا ثم انصرفوا …

وبقيتُ في عزلتي مع آخرَ,

اثنان يتحاربان إذا ما جنّ اللّيلُ وانبلجَ الفجرُ.

أنا الطيّعُ الصاغرُ , نورُ ملاكٍ , لا أعاكسُ فتياتِ الحيّ ,

ولا أجنحُ عن وصايا أمّي وأبي, فهما الوالدان.

وأنا العبثيّ , جنونُّي الحلمِ لا أصلّي ,

لكنّي أرقدُ تحتَ جناحَيّ الله في التجليّ ,

وأرى أناملَكِ أصابعَ ضوْء على شمعدان.

عبء أنا عليّ , على زماني على خيالي وليلي ,

أهو القدرُ أم شوكُ الشجر؟

أنا في الوجودِ اثنان ,

واحدٌ تجرفُه نشوةُ الاقتراب, وآخرُ يُؤثرُ البُعدَ والاغتراب,

قريبان كروحِ الله إلى قلوبِ الأنبياء ,

بعيدان كشهوةِ الغنيّ إلى خبزِ الفقراء.

افتِنِي يا ” جون بول سارتر”

كيفَ لمْ أغزِلْ بكفيَّ قطْنَ روحي وأوْكلتُه لكفِّ الزمان!.

يا ” سارتر”:

أردْتُ أنْ أمرّغَ قلبي بمزيدٍ من وردِ الحقول ,

فقطّعْتُ عمري بين الشوكِ عالقا , كعصفورٍ مكسورِ الجناحِ حبيسِ القدر.

قالوا:

هو القدر , هو القدر .

افتِنِي يا ” سارتر”

بما ملكَ فكرُكَ من أسرارِ العبَثِ والوجود ,

علّني أغفو تحت ضوءِ قمرٍ بعيدٍ, وأكتبُ نصّا عن بهاء الصبح

وتجاعيد النهار.

تعبْتُ من تحليقِ الخيالِ فوق الضباب ,

والسفرِ عبرَ التلال والهضاب,

أرهقَني البحثُ عن تضاريس بلدي ,

عن عاداتِ الروح , عن معاني الفناء الخلود .

افتِني لأصرخَ:

أيّها الوجودُ أنا واحدٌ , اثنان

متشابهان , صديقان , لا يغتربان , ولا يتنافران.

افتِنِي ,

كي أطيّعَ الغيمَ ولنَبري ينهمرَ المطر,

ثمّ أرفعَ هذا السياجَ بساعديّ , أفردَ في الفضاء جناحيّ

أحطَّ على تلّةٍ بعيدة,

وأصيحَ:

أنا منْ روّضَ القدَر ,

أنا منْ روّضَ القدر.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Social Media Auto Publish Powered By : XYZScripts.com