صفقة القرن.. والاستراتيجيات الفلسطينية البديلة.. د.باسم عثمان

مع صدور قرار وقف العمل باتفاقيات أوسلو وبروتوكولات باريس، كثر الحديث في الآونة الأخيرة عن ضرورة أن تكون الآليات المتبعة “متدرجة” و “تراكمية”, أي التغيير و التحول التراكمي الهادئ وليس التصادمي” العنفي” مع إدارة الاحتلال الإسرائيلي.

لذلك بدأ المطبخ السياسي الرسمي الفلسطيني ومراكز أبحاثه في البحث عن مصطلحات “سلمية” تواكب و تجَمًل عملية تنفيذ قرار وقف العمل بالاتفاقات الموقعة مع” دولة الاحتلال” بحيث لا تحدث زلزالًا هدامًا للعلاقات الرسمية الفلسطينية – الإسرائيلية, رغم كل إجراءات الاحتلال و سياساته الاستيطانية والتهويدية للأراضي الفلسطينية, و كأنهم يريدون سلامًا طوباويًا ” سلام من أجل السلام” دون كنس الاحتلال و قطعان مستوطنيه.

أن “وقف العمل بالاتفاقيات” الموقعة مع الاحتلال لا بد أن يمر عبر البوابة السياسية أولًا وأخيرًا ؟!!, وهو سحب الاعتراف “بدولة إسرائيل” و اعتبارها القوة القائمة بالاحتلال لأراضي الغير بالقوة و المطالبة الدولية بتطبيق القرارات ذات الصلة, و عدم التلويح باتخاذ إجراءات اقتصادية على شاكلة ” وقفها” – رغم أهميتها – وهي ملاحق هامة للمدخل السياسي وهو الرئيس.

القضية الفلسطينية قضية سياسية بامتياز، وبوابتها سياسية أولا، وهو المدخل العملي والاشتباكي الميداني مع تصنيف “دولة الاحتلال” وتطبيقات صفقة القرن المزمع بلورتها ومن ثم طرحها لحين أن تجد البيئة السياسية والاقتصادية – فلسطينيا وعربيًا ودوليًا – المحفزة لها.

هي الخطوة الأساس الذي يفترض أن تبنى عليها باقي الخطوات، وغير ذلك فإن التحرك السياسي الفلسطيني سيبقى تكتيكيا ومراقبا دون فاعلية عملية وبعيدًا عن الإستراتيجية الوطنية البديلة لأوسلو واستحقاقاته الفلسطينية.

إن قرارات الاشتباك الميداني مع الاحتلال والترجمة العملية لصفقة ترامب ودعم أدواتها الوطنية والجماهيرية – من مقاومات شعبية ومسيرات العودة ووقف التنسيق الأمني المشترك ووقف استحقاقات اتفاقية باريس الاقتصادية…الخ – لها من الأهمية القصوى للتحضير لمرحلة ما بعد أوسلو والانتقال لمرحلة كفاحية جديدة تعزز الإستراتيجية الوطنية البديلة وتمكين الشعب الفلسطيني من السيادة ولاستقلال.

 وعموما,فان الخيارات الوطنية الفلسطينية ليست مجرد قرار سياسي انفعالي, بل هي انعكاس لبيئة سياسية عامة لها محدداتها وأدواتها:

فلسطينيا: انقسام سياسي رسمي و تداعياته المأساوية على الحالة الفلسطينية برمتها ومحاولات للفصل السياسي بين غزة والضفة ،و تراجع دور منظمة التحرير ومشاكل اقتصادية ومالية للسلطة, فهذه البيئة السياسية الفلسطينية عموما ورغم تداعياتها السلبية ومعيقاتها, فإن “صفقة القرن” قد تعيد للمنظمة فعاليتها، خصوصا ان قرار السلطة الفلسطينية  السياسي غير محكوم لا بالمصالحة و لا بالانتخابات و لا مرهون بصياغة رؤية وطنية جديدة, فهذه المرحلة هي مرحلة اتخاذ القرارات على أساس ماهو قائم بمعطياته السياسية و الميدانية.

إسرائيليا: المحددات الإسرائيلية ثابتة وتتجه نحو مزيد من اليمينية والتطرف السياسي وعدم الاعتراف بحل الدولتين ومزيدا من بناء الكتل الاستيطانية والضم والهدم للأراضي والمباني الفلسطينية وتفريغ القدس من سكانها الأصليين.

 عربيا: البيئة العربية ليست في أفضل حالاتها، والموقف السياسي العربي سيحكمه الاعتبارات الداخلية لكل دولة عربيه، وليس متوقعا ان يكون موقفا جماعيا من صفقة القرن، التي بدأ تنفيذ الشق الإقليمي منها، وستبقى المبادرة العربية هي المهرب للموقف العربي.

دوليا: لم تعد البيئة الدولية داعمة ومساندة للقضية الفلسطينية بشكل مطلق، فالاهتمام الدولي يأتي من باب أن هناك مسؤولية أخلاقية وإنسانية فقط تجاه الفلسطينيين، فأوروبا منشغلة بقضايا مستقبل الاتحاد، وقضايا الإرهاب واللاجئين، ولا تستطيع أن تذهب بعيدا عن الموقف الأمريكي، وبقية القوى الدولية روسيا والصين كلها منشغلة بقضايا ملحة تتعلق بعلاقات القوى على المستوى الدولي.

 أما المحدد الأمريكي فالذي يعنيه الآن هو التحضير للانتخابات الأمريكية القادمة , مما يعنى مزيدا من الدعم والانحياز لإسرائيل، وما يهمه من صفقة القرن ما هو مرتبط بالبعد الإقليمي والتركيز على البعد الاقتصادي, وملامح سياسته ستتبلور بعد الانتخابات الرئاسية الأمريكية.

وبناء عليه, تتبلور الخيارات والاستراتيجيات الفلسطينية:

–        الخيار الأول: هو خيار الرفض لصفقة القرن و كل ملحقاتها( سياسيًا واقتصاديًا), وتداعيات هذا الخيار على السلطة ومركز القرار الفلسطيني و شريحته الاجتماعية, والتي استقرت فيها أوضاعهم الوظيفية والإدارية والمعيشية، واحتلوا فيها نفوذاً سياسياً واجتماعيا واقتصاديا مميزاً، ووفروا آليات للتعايش مع الاحتلال ومع إجراءاته، مستفيدين من الامتيازات المعيشية التي توفرها لهم مداخيل مرتفعة، صنعت أساساً بهدف بناء فئات اجتماعية تنحو إلى الاستقرار في ظل الاحتلال، و تدعوا الى “التغيير الهادئ” بعيدا عن أي صدام مكلف مع الاحتلال, ولا تستغني عن امتيازاتها لمواجهة الضغوطات الأمريكية والإسرائيلية.

–        الخيار الثاني: و هو خيار القبول ” لصفقة القرن” و ملحقاتها, من قبل مركز القرار الفلسطيني, و ما يحمله هذا الخيار من مخاطر جسيمة على ثوابت القضية والمصالح والحقوق الوطنية الفلسطينية, لما يتضمنه من تنازلات كبيرة عن الثوابت الفلسطينية, وإلغاء الدور السياسي للشريحة المتنفدة بصنع القرار.

–        الخيار الثالث: هو خيار” التسلح” بإستراتيجية عربية و إقليمية ودولية تتبنى الخيار الوطني الفلسطيني في السيادة و الاستقلال الوطني, تلعب فيه الورقة الفلسطينية المستندة لبرنامج الإجماع الوطني التوافقي دورا مركزيا ورئيسيا في صياغة الاستراتيجيات الإقليمية و الدولية, من خلال الدعوة لعقد قمة عربية و إسلامية و إقليمية تتبنى الموقف الفلسطيني, الى جانب الحراك الدولي و مطالبة الاتحاد الأوروبي و روسيا و الصين بالدعوة لعقد مؤتمر دولي برعاية الأمم المتحدة و الخروج بموقف أممي يستند على مجموع القرارات الدولية ذات الصلة بالقضية الفلسطينية, لمواجهة ما يسمى بصفقة القرن الأمريكية أحادية الجانب و التي تغرد خارج السرب القانوني الدولي والمنحازة كليا لصالح كيان الاحتلال الإسرائيلي.

  إلى جانب التحرك الفلسطيني بمطالبة أمريكا صراحة بالاعتراف والموافقة على إقامة الدولة الفلسطينية والاعتراف بالقدس الشرقية عاصمة لها, وهذا يعني تقديم رؤية سياسية بديلة عن صفقة القرن.

هذه الإستراتيجية البديلة تعفي مركز القرار الفلسطيني في السلطة من المواجهة المباشرة و الصريحة مع أمريكا، و يتبعون سياسة التعامل غير المباشر في المواجهة , لأنه اتضح و بالملموس ان حرصهم على امتيازاتهم الخاصة يفوق حرصهم على ثوابت القضية الفلسطينية.

 نحن بحاجة إلى انفكاك أم ارتباط أم تحرير؟! نحن بحاجة الى تحرير أولاً, وسيادة واستقلال , و هذه السمة المميزة لمرحلة التحرر الوطني الفلسطيني, أو نحن في هذه المرحلة بحاجة إلى قلب الطاولة بتحميل الاحتلال المسؤولية الكاملة عن معاناة الشعب الفلسطيني الرازخ تحت الاحتلال منذ عام 48؛ لهذا عليه أن يتحمل تكاليف احتلاله وليس الهروب من التزاماته تجاه شعبنا.

نستطيع الانفكاك اقتصادياً وبشكل كلي بعد التحرر وتقرير المصير والسيادة الكاملة، لكن الآن, وضمن فعاليات المقاومة الكفاحية و الشعبية, نستطيع تقوية وتوسيع القاعدة الإنتاجية للاقتصاد الفلسطيني، ودعم ذلك بالعديد من الخطط الإستراتيجية والسياسات الهادفة لتحريك عجلة التنمية الاقتصادية الوطنية, تبدأ بمقاطعة منتجات الاحتلال, وتنفيذ حملات دولية لمقاطعة منتجات المستوطنات، وخلق بدائل للعُمال العاملين في المستوطنات الإسرائيلية، وتجريم ومحاكمة رجال الأعمال الفلسطينيين الذين يستثمرون أموالهم في المستوطنات.

لهذا القضية ليست تشكيل لجنة هنا وفريق عمل اقتصادي هناك، بقدر ما نحن بحاجة   الى ارادة شعبية وقرار سياسي رسمي للانعتاق من الاحتلال وتجريم سياساته,ولهذا,علينا الانفكاك من الاحتلال سياسيا أولا قبل الانفكاك من تبعيته الاقتصادية,من خلال سحب الاعتراف به, واعتباره القوة القائمة بالاحتلال لأراضي الغير بالقوة,ومطالبة المجتمع الدولي بتحمل مسؤولياته القانونية والسياسية وتنفيذ قراراته ذات الصلة بالقضية الفلسطينية, والاشتباك الميداني مع إجراءات الاحتلال و تطبيقات صفقة القرن الأمريكية.

كاتب وباحث سياسي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Social Media Auto Publish Powered By : XYZScripts.com