النبي المزعج والشهود الشهداء وسلام المسيح/ بقلم العالم الأب د. بيتر مدروس      

بهذا العنوان محاولة لتلخيص ما ورد في قراءات هذا الأحد: إرميا 38: 4-10، عبرانيين 12: 1-4، لوقا 12: 49 – 57.

النبي الصادق مزعج، وكذلك سيكون يوحنا المعمدان ويسوع الإنسان وسواهما. لا يحابي ولا يجاري على حساب الحقيقة والحق والدين والأخلاق. ومع الأسف نشهد في أيامنا خصوصًا في الغرب، رجال دين أعاجم من الكاثوليك الغربيين (لا من الأرثوذكس الذين هم في هذا المضمار حكماءلا يعلمون شيئًا تقريبًا عن الأديان الأخرى، يحاولون التقرّب من الآخرين، ولكن بمنأى عن الحقيقة العلمية التي يجهلونها، فيهرف الواحد بما لا يعرف (يمدح عن غير معرفة)، وذلك بسبب عواطف غير عقلانيّة، ورغبة في شعبيّة لا تكلفهم شيئا. وأحيانًا بدل الدفاع عن الضحية والمغدور والكاهن المقتول، يدافعون عن الجناة، ويبرّرون دافع إجرامهم بالخلل النفسي أو الفقر أو الكبت أو التهميش.

لا يتردّد إرميا النبي في قول الحق “ولو على قطع رأسه” (كما سيفعل يوحنا المعمدان في قلعة “إمكاور”). ويحقد عليه “الكبار”. ولكن يبدو أنّ رجُلاً حثّيًّا ، “عبد ملك”، يدافع عنه وينصفه ويقاوم المفترين وأهل الإفك. ويذكّرنا عبد الملك الحثّيّ، بحثّيّ آخر مسكين، أمر داود الملك بقتله، بعد أن عاشر بالحرام أي داود زوجته بتشابع. وعبد الملك اسم لأحد أكبر خلفاء بني أميّة. يعني كما تقول العامّة – ونقولها في شأن عبد ملك الحثّيّ- ” إنْ خليت بليت” أي تُدمّر الدنيا إن خلت من أهل الخير “الحقّانيين” الذين – حسب التعبير القرآنيّ- “لا يخشون لومة لائم”.

“تحوطنا سحابة من الشّهود” (عبر 12: 1-4)

في العربية واليونانية، ذات الكلمة التي هي “شاهد” تعني “شهيد”. والشهادة اليهودية الحقيقية هي ليهوه (أشعيا 43: 10-12)– “الإله غير المنظور”، بحيث أنّهم “شاهد ما شافش حاجة”– مع “شهود يهوه” – وهم شهود مزيّفون غافلون، تتبرّأ منهم المسيحية وتتظاهر بنبذهم الصهيونية. الشهادة المسيحية هي للمسيح ولقيامته من بين الأموات، استنادًا إلى شهادة الرسل والتلاميذ الأوّلين وبشهادتنا نحن أيضا، نعم نحن الذين يرون كلّ يوم منذ عشرين قرنًا تقريبًا قبر يسوع الفارغ، ولا يجد خصومنا العبرانيون ومشايعوهم من “علماء آثار” ومنتجي أفلام هوليوودية جثمان يسوع أو عظامه.

ومن الغريب المحزن أنّ الغرب المسيحي والملحد في حالة من العمى الفكري، بحيث لا يرى أو يتعامى عن الاضطهاد الشنيع للمسيحيين، خصوصًا في سورية والعراق ومواضع من فلسطين في قطاع غزة ونيجيريا وباكستان وسواها. وعلى حسن النيّة (التي نفرضها من باب المحبّة المسيحية) وسلامة الطوية – إلاّ إذا سعى رجال السياسة إلى مكاسب انتخابية، ورجال دين إلى مناصب أسقفيّة أو كرديناليّة- لا ينصف اولئك المسؤولون معشر المستضعفين والمظلومين والمضطهدين والمذبوحين من أجل المسيح. بعبارة مختصرة يتجاهلون الشهداء الذين هم أفضل شهود للمسيح ولإنجيل السلام. ولا يشهدون للمسيح النزيه المستقيم الذي كلامه “نعم نعم” و “لا لا” ، الذي قال الحق ولو كلّفه ذلك حياته الدنيوية وهو “الطريق والحق والحياة”. لا يشهدون للمسيح الذي أعلن غير مرّة أنّ “هذه هي الحياة الأبدية: أن يعرفوا الإله الحي الحقيقي وحده، ومُرسله يسوع المسيح” تجسُّد كلمة الله.

كيف تقولون أنّ المسيح أتى بالسلام وأنّ بشارته دين سلام مع قوله أنه أحضر على الأرض سيفًا ونارًا؟ (لوقا 12: 49- 57)

لنفهمنّ أقوال يسوع من سياقها: “أتيتُ لألقي على الأرض سيفًا” وحربًا ونارًا (متى 10 : 30 وتابع). لا يقصد يسوع السيف المادي ، سيف الاحتلال والغزو والسلب والنهب وأخذ السبايا بقتل الرجال. يرفض يسوع بشكل مطلق وسيلة العنف وحسام التعدّي (عن متى 26: 52). ويُعلن بالاتفاق مع الوصايا العشر حق الدفاع المشروع عن النفس (عن لوقا 22: 36).

كلّ خطاب يسوع هنا معنوي ومجازي : يعني أنّه بعد أن أتى انقسم الناس فورًا إلى قسمين كأنّ سيفًا قاطعًا نزل بينهم : الذين قبلوا يسوع مسيحًا وسيّدًا والذين رفضوه، والانقسام حاصل أوّلاً داخل الأسرة حيث يقف محبّو يسوع أمام مُبغضيه، لأنّه “هدف للنزاع”. وبصراحة هذه هي حربنا المعنوية مع العالم اليهودي الذي يرفض يسوع الناصري مسيحًا، وأيضًا هذا خلافنا مع العالم الإسلامي الذي ينكر ألوهية المسيح والتجسد والثالوث الأقدس وفداء المسيح على خشبتي الصليب.

إنّه اختلاف عقائدي معنوي ديني ويجدر ألاّ يفسد للوحدة الوطنية قضيّة.

نعم، لا عنف في الإنجيل ولا ترِد وصية أو أمر “أقتلوا قاتلوا”. المرّة الوحيدة التي ترِد فيها فعل “إذبحوا” ما أتت على لسان يسوع، بل في مَثَل أي قصة خيالية عن ملك خيالي يُعلن: “أمّا أعدائي فأحضروهم واذبحوهم أمامي”. يعني بالعربية الفصيحة لا يترك يسوع أي مجال للعنف ولا لسوء الفهم” لا عنف بل لطف وهو “الوديع متواضع القلب”.

والحروب الصليبية “يا خوري”!

يا سلام على المنطق والدقة الدينية والتاريخية! أسّس يسوع الكنيسة يوم العنصرة سنة 30 للحساب الميلادي. والحروب الصليبية أو “حروب الفرنجة” قامت سنة 1099 أي بعد أحد عشر قرنًا من تأسيس المسيحية. ما قام بأية حرب ولا غزوة لا يسوع ولا الرسل ولا التلاميذ، ولا التابعون ولا تابعو التابعين، بل تعرّضت الكنيسة للاضطهاد من زمن نيرون “من تحت رأس” زوجته الثانية سابينا بوبيا الصغرى، المتعاطفة مع اليهودية، إلى مطلع القرن الرابع الميلادي. فالإنجيل الطاهر والمسيحية في مبدئها ونشأتها وأوّل عصرها وعهدها روحانية سلميّة سلاميّة لطيفة وديعة مستضعفة.. وقسطنطين الإمبراطور ما أسس المسيحية، بل منحها أخيرًا حرية العبادة سنة 313 م ، وجعلها دين الدولة (ولا يقدر أحد في الشرق انتقاد هذا الموقف لأن دين الدولة وارد في معظم دوله)..

هجوم المسيحيين على الآخرين مخالف للإنجيل الذي لا نجد فيه قَط الأمر “اقتلوا”. دفاع المسيحيين عن أنفسهم حق وواجب. وفي شأن حروب الفرنجة، هنالك مغالطات كثيرة وأغلاط كثيرة، يضيق بها هنا المقام، وما أتيح لنا في الشرق الأوسط – الذي يعشق الكذب لتوهّمه أنّ التاريخ دين- أن نوضحها ونصححها.

وبسهولة يقوم الشرق بعملية “الإسقاط” التي وقع ضحيّتها النبي إرميا. اتّهمه الخصوم زورًا وبهتانًا بأنّه “يدمّر الشعب”. وفي الواقع هذا ما يصنعه الإلحاد في الغرب: يُسقِط على الكنيسة عيوبه وجرائمه: هو يُفسد الأخلاق، هو يدمّر الأسرة ، هو يرمي الشعوب بظلمة الجهل، والكنيسة حتى في العصور الوسطى أنارت وعلّمت وثقّفت وأعطت الحضارة ، وحافظت في الأديرة على التراث الفلسفي والعلمي والأدبي حتى الوثني. وفي الشرق أيضًا تتمّ عملية إسقاط مستمرّة، إذ يغطّي الشرق على مظالمه ومذابحه الحالية والمستقبلة (مع الأسف) بلومه كنيسة العصور الوسطى على ذلك، وقد انتهت فيها إلى غير رجعة مظاهر الحروب ومحاكم التفتيش والإقطاع، وكلّها مستمر لدى غير الكاثوليك وغير المسيحيين إلى أيامنا.

خاتمة

“لنطرحنّ عنا كلّ ثقل وما يساورنا من خطيئة”، فهذه هي العوائق ليس فقط للحياة الروحانية بل للازدهار والسلام. ولننشدنّ مع الكنيسة البيزنطية الشقيقة: “فلنطرحنّ كلّ همّ العالمين، مستعدّين لاستقبال ملك المجد” ، “رئيس السلام” الذي “هو السلام” (ميخا 5: 5).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Social Media Auto Publish Powered By : XYZScripts.com