إدوارد سَــعـيـد: الـمـُـفـكـِّـر الذي فــَقـدنـاه.. الدكتور عـبـد القـادر حسين ياسين

“هــَيـهـات لا يـأتي الـزَّمان بـمـثـلـه

إنَّ الـزَّمانَ بـِمِـــثــلـه … لـبـخـــيـل!!”

أبـو تـمـَّـام

في مـثـل هـذا اليـوم ، قـبـل 16 عـامـاً، غـَـيـَّـبَ الموت المبدع العالمي والرمز الثقافي الفلسطيني البروفيسور ادوارد سعيد .. كان الرجل يعرف انه مقبل على الموت بسبب مرض عـضال، فأنتظر موته بصبر، لكنه قبل أن يسافر إلى العالم الآخر ترك آخر أعماله على شكل مذكرات، فأغنى الحياة الثقافية والمكتبة العالمية بمؤلف جديد وفريد.

رحل ادوارد سعيد لكن أعماله الكبيرة بقيت معروضة لمن يبحث عن المعرفة، وللذين بمقدورهم الغوص فيها للبحث والدراسات والتنقيب عما هو جديد.

الكتابة عن هذا الصرح الحضاري والثقافي العالمي ليست بالسهلة، لأن الذي يريد الدخول في عالمه عليه الكتابة عن الرجل كشخص وعـنه كقضية وطنية وثقافية ، ونسخة عن شعـب مشتت في كافة أرجـاء الـعـالم،وعن وطن سلب ، سرق، أغتصب واستعمر على مرأى من عالم ساهم في الزيّف والخداع وتكريم ضحيته بنحر ضحية أخرى قربانا لها.

ليس الصراع بين الشرق والغرب سوى تسمية خاطئة لبرامج حرب خاطئة،إذ لا يوجد حوار حقيقي بين الشرق والغرب. إن الصراع الحقيقي يجب أن يكون لا بين الشرق والغرب أو بين الديانات بل بين الحق والباطل. فسيطرة وهيمنة القوي على الضعيف هي من أهم أسباب بروز معوقات الحوار بين الشعوب والأمم والحضارات والثقافات. الصراع هذه الأيام يدور بين رؤوس تفكر وأخرى تعادي الفكر، وبين أموال وشركات ضخمة مستعمرة تمتص دماء الفقراء لصالح الأغنياء.

كان ادوارد سعيد من المثقفين الموسوعـيين ،حيث لم يكن مفكراً وناقداً أدبياً فقط لا غير، بل كان أيضاً من المهتمين بأمور أخرى كثيرة مثل السياسة والرياضة والموسيقى. وقد وظـَّف سعيد علاقاته القوية والمتينة مع عازف الكمان اليهودي الراحل مينوهين، ومع الموسيقي الأرجنتيني اليهودي دانيال بيرنباوم قائد الأوركسترا المعروف. وقد أثمرت تلك الصداقة مع الموسيقيين اليهود فأنتجت مدارس موسيقية استقطبت واستقبلت طلبة من فلسطين، وكذلك نتج عنها مواقف تدين إرهاب إسرائيل الممارس ضد الشعب الفلسطيني، وهي مواقف هامة لأنها تصدر عن يهود مشهورين ومعروفين.

لـم يـكـن ادوارد سعيد معروفاً في العالم العربي مثلما عرف وذاع صيته في الغرب. كما أنه لم يـُقرأ بالشكل الصحيح في العالم العـربي في هذا الزمن الصعب، الزمان الرخو. لذا لا يمكن إعطاء الرجل حقه إلا عبر دراسة أعماله التي تخطت فلسطين والعرب لتكون عالمية واسعة الانتشار والسمعة، إذ لا تخلو مكتبة عالمية من مؤلفات ادوارد سعيد وأهمها “الاستشراق”. وحين يـُسأل الفلسطيني عما يفخر به أمام الناس في العالم يكون أحد أهم أجوبته : ادوارد سعـيد…

عـُرف عن ادوارد سعـيد دعمه الشديد للمظلومين في العالم ، لذا فإن دعمه لقضية فلسطين لم يكن عبر العاطفة والقلب وبحكم الأصول والجذور والانتماء العائلي، بل نتيجة لما رآه وشاهـده وعرفه من وعـن الظلم الكبير الذي لحق بشعب فلسطين. وقد امتاز ادوارد سعيد بمعرفته الواسعة للغرب حيث عرف الفكر الغربي والعقلية والثقافة الغربية ودرسهم بعمق حتى فهمهم فهما موسعا، دقيقا وعميقا ساعـده في ترسيخ مكانته الثقافية والفكرية.

لقد حرص ادوارد سعيد على ان يكون الهمّ الفلسطيني هـمـَّه لأنه بالأساس ضد الظلم ومع الحق والعدالة للإنسان بغض النظر عن دينه ولونه وعقيدته وجنسه، وقد مثل ادوارد سعيد قضية شعبه خير تمثيل على طريقته ووفق رؤيته التي رفضت التعـصب والتزمت وكانت منفتحة على الدراسة والتحليل والتدقيق والتمحيص في كافة المجالات وحتى في إخضاع المسلمات للفحص والنقد.

اعتبر سعيد اتفاقية أوسلو كارثة على الشعب الفلسطيني أولاً لان الذين فاوضوا ووقـَّعـوا واتفقوا يجهلون حتى اللغة الإنجليزية، وليسوا متمكنين منها بشكل يؤهلهم للقيام بذلك، وثانيا لأنهم تنازلوا عن الحقوق مقابل لا شيء مضمون، وقد عـقـَّب على ذلك بقوله: “لأول مرة في القرن العشرين تقوم حركة تحرر وطني على التفريط بإنجازاتها الضخمة، وتقبل التعاون مع سلطة الاحتلال، قبل أن تجبر هذه السلطة على الاعتراف بعدم شرعـية احتلالها للأراضي بالقوة العسكرية”.

لقد أدرك ادوارد سعيد مكانة الحوار بين الأمم لذا كان رافضاً للحوار الشكلي مع الآخر فهو أراده حواراً منتجاً مثمراً لا فارغاً ومموهاً يعطي البعض مكاسب شخصية آنية ثم تنتهي القضية الأساسية بكارثة تاريخية، ومن هنا كان رفـضـه لاتفاقية أوسلو.

توفي ادوارد سعيد في الخامس والعشرين من أيلول عام 2003 في احد مستشفيات نيويورك، وقد قال يومها كوفي عـنان ، الأمين العام السابق للأمم المتحدة :”بغيابه سيصبح العالم العربي وأمريكا أكثر فقراً”..

سيـبـقى إدوارد سـعـيـد في الثقافة الـفـلسـطينية “زيتونة حيفاوية” تمتد جذورها عميقًا

لتنتج الزيت نوراً ودواء وغـذاء…

أو “دالية خليلية” تعـيش على ندرة الماء لتخـصب العـنب بألوانه كلها..

أو “نخلة ريحاوية” تجعـل الصحراء حياة آمنة…

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Social Media Auto Publish Powered By : XYZScripts.com