40 عاماً خلف القضبان.. نائل البرغوثي يُضيء شمعته الـ 62 في سجن بئر السبع

رام الله- البيادر السياسي:ـ “كل يوم وكل لحظة وأنت بخير.. وستكون بخير بإذن الله أنت وباقي الأسرى.. وإن شاء الله نحتفل قريباً بحريتك وعودتك إلينا سالماً ومنتصراً”، بهذه الكلمات خاطبت الأسيرة المحررة أمان نافع زوجها نائل البرغوثي، أقدم أسير في العالم، بمناسبة عيد ميلاده الـ62 وعشية دخوله عامه الـ40 خلف القضبان في 15-11-2019، بعدما أعاد اعتقاله إثر تحرره في صفقة “وفاء الأحرار”.

وأضافت: “مهما مارس الاحتلال، فسنظل صابرين، وتعلمنا دروساً وحكماً في الصبر من مدرسة نائل، الذي لم يهزمه سجن وسجان”.

وأكملت: “ليس من المعقول أن يبقى الاحتلال موجوداً على هذه الأرض دون أن يُحاسَب على جرائمه التي يرتكبها ضد أصحاب الحق والقضية والأرض، والحرية قادمة إن شاء الله، وتحرير الأسرى وفلسطين قادم، سنشهده إن شاء الله بأعيينا، وإن لم يحدث فيشهده أبناؤنا”.

صور وذكريات

في سجن بئر السبع، أضاء نائل الشمعة الجديدة في عمره المديد والمليء بالقصص والحكايا والذكريات والصور، وتلك الصور تتكرر بشكل يومي أمام رفيقة دربه الصابرة أمان لتستمد منها العزيمة والأمل.

وتقول أمان: “وحدها ذكريات وحكاية كل صورة تخفف عنا ألم الفراق وظلم السجان، فهذه صورة لنائل وهو في الحقل يرتدي ملابس العمل ويزرع أرضه، فقد كان يُحب الأرض التي ورثها عن أجداده كثيراً، يهتم بها بيديه ويزرع الأشجار التي أثمرت بعد اعتقاله ولم يذق طعمها حتى الآن”.

وتضيف: “من الصور المميزة لنائل مع العم التسعيني أبو الوليد، جد الأسير مراد البرغوثي المحكوم مدى الحياة، وهما يعملان معاً في الأرض، فبرغم كبر سنه ما زال الجد يحمي الأرض ويحرثها ويرعاها”.

وتُكمل: “من الذكريات الجميلة صورة أُخرى لنائل يقف أمام قريته كوبر التي كان دائماً ينظر إليها بحب وشغف، فلم يكن يشبع من هذه القرية التي سارت على دربه ودرب عائلته في النضال والتضحيات”.

وتتابع: “فبعد اعتقال نائل الثاني، اعتُقل العديد من ابناء العائلة والقرية الذين قاوموا الاحتلال واستشهد بعضهم، كانوا أطفالاً وُلدوا ونائل في السجن خلال اعتقاله الأول، وكان للقائهم بعد تحرره أثر كبير على نفوسهم، فاعتقال نائل بالنسبة لأهالي قرية كوبر كان مؤذياً لمشاعرهم ومؤثراً جداً، فطوال حياتهم سمعوا وعرفوا حكاية الشاب الفلسطيني الذي اعتقل وعمره 19 عاماً وخرج وعمره 57 عاماً، وتخيلوا أنه سيعيش حياته بشكل طبيعي، إلا أن الاحتلال أبى إلا أن يُنغص عليهم فرحتهم، ويُعيد اعتقال نائل ظلماً وقهراً”.

السيرة الذاتية..

في قرية كوبر بمحافظة رام الله والبيرة، أبصر عميد الأسرى الفلسطينيين والعرب نائل صالح عبد الله برغوثي (أبو النور) النور في 23/ 10/ 1957، نشأ وتربى وسط عائلة فلاحة بسيطة ومناضلة، مكونة من الوالدين والابن البكر عمر الذي يكبر نائل بست سنوات، وهو والد الشهيد صالح البرغوثي والأسير عاصم، وشقيقه تصغره بسبع سنوات “أُم عناد”، وهي والدة لثلاثة أسرى، وتقول المحررة أمان: “عمي صالح البرغوثي عاش حياته مزارعًا يرعى أرضه المزروعة بالكثير من أشجار الزيتون التي رعاها حتى توفي، أما والدته فوقفت دوماً بجانب زوجها، وكانت حافظة على أراضي أهلها التي هجروا إلى الأردن بعد نكسة عام 1967″، وتضيف ” ارتبطت العائلة بالأرض وطنياً ومعيشياً، وواظبوا على زراعتها”.

قصص لا تنسى ..

ينحدر نائل من عائلة مناضلة ومكافحة لها تاريخ في النضال الفلسطيني منذ بداياته، فابن عمه ربحي انضم لصفوف الثورة فور انطلاقتها واستشهد في حرب الكرامة، وفي ريعان الشباب انضم نائل وعمر مع ابن عمهم فخري البرغوثي إلى خلية فدائية قاومت الاحتلال وما زالت تقدم الشهداء والجرحى، وتقول المحررة أمان: “هذا الواقع أثّر على عمر ونائل، فكان من عُشاق الأرض وحماتها والمدافعين عنها منذ صغرهما”.

ومن الروايات التي يتناقلها أهالي كوبر ما حدث في نكسة عام 1967، عندما احتلت إسرائيل الضفة بما فيها القدس، وتقول أمان: “في تلك الفترة، اقتحمت دوريات الاحتلال وآلياته القرية، وطلبت من الأهالي رفع الأعلام البيضاء كإشارة على الاستسلام والقبول بالواقع، لكن عائلة أبو عمر رفضت ذلك، وتمردت على الاحتلال. وتضيف: “خلال مرور الدوريات في الشوارع، فوجئ الجميع، بصعود نائل الذي كان بعمر 10 سنوات وشقيقه مرّةً إلى سطح منزلهما، ورشقا بالحجارة أول دورية للمحتل دنست كوبر”.

الاعتقال الأول

تلقى نائل وعمر تعليمهما الابتدائي في مدارس قريتهم كوبر، وأكملا المرحلتين الإعدادية والثانوية في مدرسة الأمير حسن في مدينة بير زيت، وعلى مقاعد الدراسة، برزت روحهما النضالية والوطنية العائلية، وتفيد أمان أنّ نائل كان يتزعم المظاهرات الطلابية للمطالبة بالحرية، وفي إحدى المرات اشتباك بالأيدي بشكل مباشر مع أحد جنود الاحتلال، وتمكّن من انتزاع الهراوة التي اعتدى بها الجندي على المتظاهرين، وإثرها اعتقل نائل وصديقه عبد الكريم للتحقيق بخصوص هذه العصا، وأُفرج عنهما، وبقي يحتفظ بهذه العصا حتى صادرها الاحتلال بعد اعتقال نائل وعمر وفخري.

خلال دراسته في المرحلة الثانوية، اعتقل الاحتلال نائل للتحقيق لمدة اسبوعين لمشاركته في الفعاليات الوطنية، ولم يؤثر ذلك على عزيمته ومعنوياته، فانضم لمجموعة فدائية مع شقيقه عمر وابن عمه فخري، نفذت عدة عمليات ضد الاحتلال الذي اكتشفها واعتقل الثلاثة في 4/ 4/ 1978، فيما تمكّن قريبهم غازي البرغوثي من الهرب للأُردن، وأقام هناك وتزوج ورزق بالأبناء، وتوفي في عمان وعادت عائلته لتعيش في كوبر.

القيد والحرية..

مرت السنوات بصمود نائل وصبر عائلته بعدما رفض الاحتلال الإفراج عنه وشطب اسمه من كافة صفقات التبادل، ليرحل الوالدان قبل تحقق حلمهما بعناقه حراً، وتقول المحررة أمان: “كانت سنوات مؤلمة وقاسية، خاصة للوالدين اللذين انتظرا طويلا ً، لكن الاحتلال حرمهما الفرحة، ولم تنل السنوات العجاف من عزيمة وصبر نائل الذي أصبح أقدم أسير في العالم حتى تحرر بعد 33 عاماً في صفقة وفاء الأحرار عام 2011”.

وتضيف: ” في عرس وطني كبير، تزوجنا في 18/ 11/ 2011، وبدأت حياتنا الجميلة والرائعة حتى قطع الاحتلال علينا الطريق بإعادة اعتقاله لتتكرر دوامة الألم والمعاناة بين السجون”.

الزوجة الوفية والصابرة أمان هي مناضلة وناشطة وطنية، كرست حياتها للقضية وشعبها، فعاشت تجربة الاعتقال خلف القضبان وحوكمت 15 عاماً، لكنها تحررت بعد 10 سنوات في عام 1997، إثر مفاوضات واتفاق “طابا” الذي أُبرم بين الرئيس الشهيد أبو عمار وحكومة الاحتلال.

وتقول: “رغم تجربة الأسر المريرة، فرحتُ بحريتي، وعشتُ حياتي، وأكملتُ دراستي، ورزقني رب العالمين بابني عبد الله الطالب في جامعة بيرزيت، الذي يبلغ اليوم من العمر 20 عاماً”.

وتضيف: “عادت الأفراح، والأمل لحياتنا بعد زواجي بنائل، كنت أتمنى وأظن أن زواجي من نائل بعد سنواتٍ من المعاناة له ولي بسبب الاحتلال وسجونه سيمسح كل المحطات الصعبة والقاسية من حياتنا، لنبدأ من جديد، ونحقق الأُمنيات التي رسمناها وخططناها معاً”.

وتتابع: “عشنا على مدار 32 شهراً لحظات رائعة وجميلة بكل تفاصيلها، لم نكن نفارق بعضنا بعضاً إلا في أوقات دراسته، فقد تابع دراسة التاريخ في جامعة القدس المفتوحة، أو في الأوقات التي كان يقضيها في المناسبات”.

وتكمل: “في الوقت نفسه حافظ على العهد والواجب تجاه إخوانه الأسرى، فكان دوماً يشارك في الفعاليات ويسلط الضوء على أوضاعهم، ويطالب بحريتهم، ولم يكن يرفض أي دعوة توجه له من أي فصيل للحديث عن موضوع الأسرى وحقوقهم العادلة والمشروعة”.

الاعتقال الجديد

استمرت أجواء الفرح في حياة نائل وعائلته، حتى أعاد الاحتلال اعتقاله مرةً أُخرى من منزله بتاريخ 18/ 6/ 2014 ، مع 70 أسيراً من المحررين في صفقة وفاء الأحرار الذين أُعيدت أحكامهم السابقة لهم.

وتقول الزوجة أمان: “بعد اعتقال نائل، ورغم عدم إدانته بأي تهمٍ حوكم بالسجن الفعلي لمدة 30 شهراً، وبعد إنهاء الحكم رفض الاحتلال الإفراج عنه، وبقينا نتأمل على مدار شهرين إطلاق سراحه”. وتضيف: “لم يكن لدينا أدنى شك بحريته، حتى إن نائل أحضر معه للمحكمة بعض الصور التي كنت أُدخلها له خلال زيارتي له على أمل أن يُفرَج عنه، لكن كانت مفاجأة كبرى لمحاميه ولنا، فقد تمت إعادة الحكم السابق له بدون أي تفسير”.

وتُتابع: “الحكم صدر على أساس ملف سري، وقدمنا مع نحو 30 أسيراً محرراً في الصفقة استئنافاً للمحكمة العليا التي ستعقد جلسة للبث بالقضية في 20-12-2019 “.

وتضيف: “المحامي ليبرمان استند في استئنافه إلى أن قيام الاحتلال باعتقال نائل والمحررين معه تمّ بناء على قرار من الوزير الإسرائيلي بينت الذي يقف خلف القرار، وهذا دليل على أنهم لم يخرقوا أي بند من شروط إطلاق سراح الأسرى”.

صور مؤلمة..

توضح المحررة أمان أن أحد شروط الصفقة إلزام نائل ومعظم المحررين معه بالتواجد في محيط سكناهم وقريتهم، الذي لا يختلف عن الإقامة الجبرية، وقد التزم بذلك، وتقول: “نائل الذي تحرر بعد 33 عاماً ونصف العام لم يتمكن طوال فترة حريته على مدار 32 شهراً من زيارة مدن الضفة الغربية ولا حتى القدس، وهذا يعني أنه منذ اعتقاله عام 1978 حتى الآن لم يشاهد أي مدينة في وطنه”.

تطورات وأحداث ..

بعد زج نائل خلف القضبان، طرأت الكثير من الأحداث بحياة أُسرته بين السعيدة والحزينة التي ما زال يتابعها ويتفاعل معها بروحه الحرة وانتمائه الصادق وحبه الكبير لعائلته وشعبه، وتقول أمان: “قطار الزمن ما زال يسير، وتحمل الأيام كل لحظة صوراً وأخباراً لا تنتهي، فبعد اعتقاله تزوج ابن أُخته عبد الله الذي وُلد ونائل في السجن، وحالياً عبد الله معتقل مع عمه ومع شقيقه عناد وأخيه عمر”.

وتضيف: “بالنسبة لعائلة شقيقه عمر البرغوثي الذي التقى نائل مدة 7 أشهر في فترة حريتهما، استشهد ابنه صالح الذي وُلد أيضاً في وقت اعتقال نائل الأول، كما التقاه زوجي بعد أن أُفرج عنه في عام 2011، وشاركه في حفل زواجه وحمله على كتفيه في الوقت الذي كان فيه والده عمر وأخوه عاصم في السجن”.

وتُكمل: “عندما أُعيد اعتقال نائل، تحرر بعد عام ابن أخيه عاصم الذي أمضى 11 عاماً ونصف العام، ليتزوج، وبعد أقل من عام استُشهد صالح ويُعتقل عاصم ويُهدم منزلا الشهيد والأسير”.

الزيارة الأُولى..

بعد معاناة المنع الأمني، فرحت الزوجة أمان بحصولها على تصريح لزيارة رفيق دربها الذي تُكرس حياتها له ولقضية الأسرى، وتقول: “كانت زيارتي الأُولى لنائل في سجن “هداريم”، بعد استشهاد ابن أخيه صالح، إذ كان نائل يتلقى أخبار العائلة عن طريق الإذاعة، وعندما شاهدته كان وضعه صعباً، فقد دمعت عيناه وهو يتذكر الشهيد صالح، ذلك الشاب صاحب الخلق العالي الذي تميز على أبناء جيله، فلم تكن تفارقه البسمة، كان طفلاً، ولم يتوقع نائل أن يقاوم الاحتلال”.

وتضيف: “مضت فترة الزيارة في الاستماع إلى تفاصيل رواية استشهاد صالح وابن الشهيد صالح قيس، وتذكرنا معاً يوم أُجريت عملية جراحية للشهيد صالح، وعندما كان تحت البنج وشفتاه لا تُرددان إلا “الله أكبر، سبحان الله”، وكانت كلماته تدل على مافي داخله حتى لو كان في عالمٍ آخر”.

التحدي والأمل..

في 15-11-2019 ، يدخل نائل عامه الـ40 خلف القضبان في سجن “بئر السبع”، وتقول أمان: “رغم كل ما تعرض له، مازال يتحدى السجن والسجان بروح مرحة ومعنويات عالية، ويرعى ويتابع الأسرى وقضاياهم، كما يتولى مسؤولية تعليم طلاب العلم منهم وتدريسهم مادة العلوم السياسة، ويومياً يقدم المحاضرات المفيدة في كافة المجالات”.

وتضيف: “الحمد لله، نائل يتميز بصحة ممتازة، فما زال يمارس الرياضة منذ صغره ولم يتوقف عنها، وعلمت خلال الزيارة أنه فاز في مباراة لكرة السلة، وبإذن الله تعالى فإن صاحب مدرسة الصبر الفلسطينية قادر على قهر سجانه وكسر قيده وانتزاع حريته قريباً”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Social Media Auto Publish Powered By : XYZScripts.com