مهمة صغيرة في بلاد كبيرة(3-10).. مهند طلال الأخرس

في الجزائر وما أن تطأ أقدامك ترابها تصبح جزءً منها ومن حكايتها، ففي الجزائر لا يمهلك ذلك الحُب الجارف كثيرا من الوقت ليظهر لك أجمل ما فيه، وليحتضنك في ثنايا القلب ويحفظك بين رموش العين، لتبدأ وإياه بمهمة صغيرة في بلاد كبيرة؛ فالأخت الفاضلة نبيلة عياد مستضيفتنا في اول يوم عاد وتكرر وجودها، لكن بصيغ ووجوه متعددة، ليس هذا وحسب؛ بل كان قادم الأيام محملا لنا بالكثير من الفرح ومن حكايا وتاريخ الجزائر وليبدأ بوح العاشقين وليكتمل المشهد، والذي كشف لنا مع قادم الايام سبب تسمية الجزائر بالقارة؛ فمن اول ليلة لنا بعد عودتي من المسجد لمكان إقامتي وجدنا سامر جزائري”سهرة” يرحب بنا قاده بلعيد ونذير صاحبا السكن حيث نقطن.

ابتدأ السامر بأن عرفنا بلعيد بمعنى اسمه قائلا: نحن في الجزائر معظم من يُولد يوم العيد يطلق عليه اسم بلعيد، فهذا الاسم يعني لدينا بأن صاحبه ولد يوم العيد، انتهينا من بلعيد وتابعنا مع نذير، ونذير صاحب المسكن وجارنا لأيام استبق الأمور وأجاب لوحده عن سبب حمله لاسمه فأجاب: أنا مواليد الأول من نوفمبر 1954، جئت إلى هذه الدنيا مع بزوغ فجر الثورة الجزائرية وما أن تأكد والدي بأن المولود ذكر ، توجه لامي قائلا: أما وقد جاءك من تستندين عليه في هذه الدنيا فإني قد نذرت نفسي للثورة، وترك أمي وصعد إلى الجبل والتحق بصفوف الثورة حتى دون ان يسميني! فأسمتني أمي نذير…

لم نستهلك كثيرا من الوقت مع نذير، ولا هو بطبيعة الحال لنغوص في أصل الصراع مع الصهيونية وطبيعة الثورات وأحوال وأوضاع الوطن العربي حتى أنهكنا بحبه لفلسطين، ورغم الإطالة سألته عن سبب هذا الحب بالنسبة له، قال بلهجته الجزائرية كلاما طويلا لم افهم منه الكثير: لكني كنت قادرا على تلمس كل ذلك الحب في كل تلك اللغة المركبة والمكسرة والاهم لغة تلك العيون عند كل ذكر لاسم فلسطين.

ورغم أن آذاني لم تعتد بعد على إيقاع اللهجة الجزائرية ومفرداتها إلا أن آذاني التقطت منه جملة بقيت تجول معي في كل تجوالي في الجزائر، كانت كلماته تقول:”إحنا أصحاب ثورة نعرف ونقدر كل من يديرو ثورة”. وأضاف موضحا الوطن العربي كله لم تقم أقطاره بثورة مسلحة بالمعنى الحقيقي للثورة لتتخلص من نير الاستعمار وتنجز الاستقلال، فاقطار الوطن العربي كلها وقعت تحت الانتداب الفرنسي والانكليزي وتدرجت باستقلالها نتيجة تدرجها وتخلصها من الاستعمار بموجب تطور اتفاقيات الانتداب، والتي طبعا لم تخلو من التحركات الجماهيرية وبعض النضالات المسلحة وأعمال المقاومة التي رافقت مرحلة التحرر من الاستعمار والتي أفضت بالنهاية إلى الاستقلال.

غادرنا بلعيد واحضر لنا نذير الشاي وانتهز الفرصة ليكمل حديثه من حيث انتهى وأضاف: الثوار دوماً يلتقون على الحق فهم يقفون مع بعضهم البعض ولا يتركوا الميدان ولو بالكلمة، ويقدرون بعضهم وهذا ما يلمسه الكثيرون خلال فترات متقطعة على مدار الأيام بحوادث ومشاهد تعبر عن مدى تعلق الشعب الجزائري بالشعب الفلسطيني والقضية الفلسطينية، فمن النشيد المعروف ب “ فلسطين …. فلسطين الشهداء، فلسطين الشهداء” إلى “ يا دولة يا دولة واش ديرو بينا، صيفطونا لفلسطين نحاربوا الصهاينة “ وهي شعارات وأهازيج تزدحم في تجمعات الجزائريين ومظاهراتهم وحتى في مبارياتهم، هذا علاوة على ما تحمله الأغاني من دعوة صريحة للدولة الجزائرية لإرسال الشباب لفلسطين لمحاربة الصهاينة والتي تعبر عن مشاعر حقيقة وفياضة من الشعب الجزائري تجاه القضية الفلسطينية.

في تلك الليلة هززت براسي كثيرا لكلام لم افهم منه الكثير، لكني نجحت بالتقاط أهم مافيه؛ تلك الجملة التي نجحت في التقاطها كان نذير عندما يصرح بها يعيدها ثلاثا حتى يتأكد إنني فهمتها: “إحنا أصحاب ثورة، نعرف ونقدر كل من يديرو ثورة” كانت هذه الجملة بمثابة كلمة السر لتفسير كل ذلك الكم من الحب الهائل الذي يجمع فلسطين والجزائر، كانت تلك الجملة بمثابة المفتاح الذي فتح لي الباب على (الجزائر القارة، الجزائر الأرض والإنسان) لاكتشف سريعا أسباب كل ذلك الحب الكامن في أعماقنا للجزائر…. ولاتعرف عن قرب عن أسباب كل ذلك الحب الجزائري لفلسطين…

وطوال مدة إقامتي ومنذ أن جمعني القدر الملازم للاجئين الفلسطينيين في حلهم وترحالهم وطبعا في شتاتهم بالدكتور الفاضل علي شكشك وهو رئيس اتحاد الأطباء الفلسطينيين في الجزائر، والذي منذ التقيته في دعوة كريمة على فنجان من القهوة في معرض الكتاب الدولي تسبب فيها الصديق شريف الصباغ ومن خلفه الصديق الودود إياد خليفة.

لم تعد أيام إقامتي في الجزائر بعد معرفتي بالدكتور علي شكشك كما كانت قبلها؛ فمعه تعمقت أكثر في معرفة الجزائر وسبر أغوارها في أحاديث لا تنتهي ولا تنقطع، ولا يقطع عذوبتها ودفئها إلا جرس الساعة الخامسة، حيث يغادرني صاحب ذلك القلب الطيب واللسان الدافيء ليتابع دراسته في اللغة والأدب الاسباني.

عدت والتقطت تلك الجملة من نذير” إحنا صحاب ثورة نعرف ونقدر كل من يديرو ثورة” وطرحتها في معظم حوارتي وعرضتها على الجميع وجعلت منها محور حديثي مع كل من التقيته، كما أصبحت هي ورغما عني دالتي وطريقي في سبر أغوار الجزائر وقد أسهم الدكتور علي شكشك في تحديد كثير من معالم تلك الطريق.

كانت تلك الكلمات من نذير وتلك الأيام مع الدكتور علي بمثابة سبب جديد أضيف إلى قائمة كل أسباب ذلك الحب للجزائر….

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Social Media Auto Publish Powered By : XYZScripts.com