الموتة الصغرى الاولى/ بقلم محمد نجيب القاسمي

تتجدد الحياة بالموت وتستمد قيمتها منه ..وانت خلقت لتموت ..هناك من يموت قبل ان يبعث الى الدنيا وهناك من يموت لحظة  الهبوط  وكثيرون تمتد حياتهم قِصَرا  أو طولا  فمنهم من يحيا حيًّا ومنهم من يحيا ميًّتا  وأنت بين المنزلتين ..منزلتك متواضعة ولكنك راض عنها .

لا يؤرقك موتك كثيرا  بقدر ما يؤرقك موت الآخرين ..تحزن  وتحبس البكاء  وتتوجع وينهكك الفقد بيد أنك لا تخضع ..

لحظة الدهشة الاولى مع موت بشر  كانت وأنت ابن اربع سنوات تزيد ..كنتَ طفلا يلهو بالحجارة والتراب  واذا بخبر وفاة جدك  يثير عاصفة من البكاء والنواح وولولة النساء ولم تع الامر كثيرا بيد انه حفر في ذاكرة الطفل  فيك الذي ما ينفك يرافقك على مدى السنين . لعل الحدث في حد ذاته لم ينحفر داخلك عميقا فيترك خدوشه ولكن ما رافقه من مظاهر تفجع النسوة الريفيات ربات الحجال البواكي  نواحا  ولطما وخدودا مخدوشة تنزفا دما هي ما انطبعت في أعماقك فنفّرتك من البكاء  وصرت تمقته وتثور لسماعه ويفتح فيك جرحا لا تقوى على   تحمله. وقد يكون حَرمَك هذا من آلية دفاعية نفسية ضرورية لاحداث التوازن الداخلي  وطرد شحنات الالم والحزن حتى انك تحملت في مناسبات كثيرة لاحقة آلام الفقد  الموجع وآلام التدخلات الطبية الجراحية الموضعية التي لا تتطلب التخدير دون علامات بكاء سوى من دموع معدودة .

لا شك ان ذلك لم يكن مبعثا للسؤال الوجودي  “لماذا الموت؟”  بحكم صغر سنك ولكن ذلك سيطرح لاحقا بالضرورة ..

المهم ان حفرك كشف عن ضعفك و جبنك امام البكاء في لحظة موت بشر …

وتمر لحظة ثانية وانت ابن الست سنوات فتعيش حدثا لم تنس قسوته رغم مرور نصف قرن من الزمان …لم يكن موت بشر هذه المرة ولكنه موت حيوان قتلا بالرصاص ..كنت تتجه من ريفك القاحل الى البلدة القريبة على ظهر حمار صحبة أختك الطفلة الاكبر منك سنا  وكان كلبكم يتبعكم رغم محاولات نهره عن ذلك بلا جدوى ..وسرعان ما ظهرت امامكم سيارة الحرس فتملكك رعب شديد ولم يتوقف الامر عند ذلك اذ بلغ حد الروع الكامل …توقفت العربة وصوب العون سلاحه نحو الحيوان البدوي مثلك فأرداه قتيلا ..انطلق يعوي  عواء مرا ثم سرعان ما انهار …ومضت السيارة بمن فيها وتركتك مشدوها فلا انت فهمت داعي القتل ولا تحملت المشهد وارتعدت فرائصك وزادت دقات قلبك ولم يسعفك البكاء لتفجر ألم الشعور بالعجز امام القوة فصرت تكره القتل وتنبذ الغطرسة ولا يهدأ لك بال الا اذا عرفت اسباب الحوادث وفهم الظواهر  ..

الموت صنوف كثيرة بيد انك ترجعه الى صنفين اولهما موت تقرره اعضاء البدن مفردة او متآلفة هو موت داخلي طبيعي  لا يهزك بقدر  ما يهزك الصنف الثاني وهو الذي يقرره خارجك وانت له رافض …

وبين الموتتين مساحات كثيرة وستجعلك الموتات الصغرى اللاحقة لا تنقطع عن التغريدات الحزينة في ترنيماتك المطربة التي تحملها في اسفارك فتتخلص بالكتابة من الحزن والالم وتجد  نشوة في نقلها الى غيرك عسى ان يشاركوك الحفر في دواخلهم ليتشكل مهرجان سيمفونيات بديعة .

من حطام النمل / محمد نجيب قاسمي  :  السفر الأول – الترنيمة الأولى – التغريدة الرابعة

الصفحة الرابعة  ( بصدد الحفر )

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Social Media Auto Publish Powered By : XYZScripts.com