كان في عبلين شاعر..!.. بقلم/ يوسـف ناصـر

 كان في عبلين شاعر، أيُّ شاعر.! وغرّيد أيُّ غريد صدح في خمائلها ،ورتّل في غياض الجليل ورياضه زمنًا ، بل إنّه جِهبِذ من جهابذة اللّغة، وغصن غيسان في دوحة الأدب الوارفة ،لا يذوي ولا يذبل ، أجيء اليوم إلى ضريحه هناك ، بتهيّب واستحياء ، يتقدّمني قلمي، وكتبي، وحروفي، وأوراقي، لنحني أعمارنا فوقه عرفانًا بفضله العميم عليّ ، عسى أن أكفّر بهذا، عن تقصير أليم، يوم تعاورتني عوادي الدّهر ، وتعسّفتني بغير حقّ، فما اسْطعتُ أن أجزيه عمّا له عندي من دين الواجب عليّ ، لا يوم نعاه النّاعي، ولا يوم ذكرى الأربعين لوفاته.!..! فاغفرْ لي واصفحْ أيّها الشّاعر العزيز جورج نجيب خليل ، وإن جئتك اليوم متأخّرًا ، بعد أن طال أمد الفراق الـمُـمِضّ، وبعُد العهد بيننا .! سلام عليك، ونوّر الله ضريحك، وعطّر مثواك، ونثر فوقه كلّ نجم زاهر ، وأضاءه بشموع الملائكة، والقدّيسين الأبرار..!

      .. أيّها الأخ القديم، حيث تقيم مع الأبرار في الأخدار السماويّة ! وإذ أربأ بنفسي أن أتفاخر يومًا ، بل إنْ هي إلاّ حقيقة وقعت، أذكرها بأمانة وصدق، وألتمس معها كلّ المعذرة من القارئ ، على رجاء ألاّ يأخذني بغير ما أعني، لأذكر فضلاً قديمًا لك عليّ، قد تجاوز عمره أكثر من خمسين عامًا، أيّام كنتُ طالبًا في الصّف الحادي عشر في مدرسة ترشيحا الثّانويّة. ولقد كان، بالنسبة لي، وقتئذ، حدثًا عظيمًا أن تزورنا مع زوجك في منزلنا في كفرسميع، شاعرًا معروفًا، وتكاد وحدك تجري في الحلبة الأدبيّة، أيّام عزّ الشّعراء، وغيّم الصّمت الصارخ حالكًا في صدور الناس ،وسماء البلاد.. وكان النّاس لا يعرفون عن شاعر في البلاد سواك يجيد نظم القوافي، ويمتلك ناصية العربيّة! أذكر أنّ الفرصة كانت سانحة في هذه الزّيارة ، حين قدّم لك أخي المربي الكبير المرحوم سمعان ناصر ـ ضمّخ الله روحه من ندى الفردوس ـ دفتر الإنشاء والتعبير، لتقرأ ما كتبتُه، في موضوع جوّز المعلم لطلبة الصّف، أن يختار كلّ طالب أيّ موضوع يشاء ، وقد وقع اختياري على بيت من الشّعر لرهين المحبسين حين قال:

       تعبٌ، كلُّها الحياةُ، فما  أَعجَـــبُ إلاّ مِن راغبٍ في ازدِياد!

            وكم كنتُ ممتعضًا، أشعر بوقع الصّدمة ثقيلاً على نفسي، بفعل تعقيب معلّمي، وتقويمه لأسلوب الموضوع، حين كتب فيما كتب: “أقلِعْ عن هذا الخيال، إنّ هذا الأسلوب الغامض خطر عليك”! وكم كان اضطرابي شديدًا، خشية أن يوافق رأيُك رأي أستاذي، إذنْ سأكسّر أقلامي، وأحرق حروفي ، وأقول للورق: اغرُبْ عنّي، لن أرى وجهك بعد اليوم .! وإذا بك تحكم، وبدهشة تخاطب أخي :”غريـب! هذا كلام أكبر من أن يكتبه طالب.! تذكّرْ! ..إنّ موهبته تنبئ بأن يكون صاحب قلم سيّال .!” وإذ كانت براءة معرفتي، في تلك اللحظة، تسمع ،أوّل مرّة، بكلمة سيَّال، وما فيها من إيقاع وتدفّق وانفعال ، لم تدرِ أنت، ولم أدرِ أنا، كم كان فرحي عظيمًا، حين سمعتُ هذا الحكم الصّادر عن شاعر متضلّع من العربيّة ، وكم كان لهذا الحكم من أثر في انتشالي، أنا وقلمي، من هاوية يأسي العميقة، بل كأنّك قلت لي في حينه : لا عليك ، قُمْ ولا تخفْ .! وامسكْ بعنان قلمك، وامتطِ صهوته، واخرجْ به كلّ صباح ،كـرًّا وفـرًّا ، في ميادين اللّغة والأدب.!

           ويوم أنهيت دراستي الجامعيّة، في العقد نفسه، وأصبحت مدرّسًا للعربيّة في مدرسة ترشيحا الثّانويّة، توثّقت أواصر المودّة، ووشائج المحبّة بيننا، حتىّ بلغت أوثق ما تكون بين صديقين، تفتّحتْ فيها أمامي كلّ أبواب شخصيّتك، لأدخل إليها، وأعرف كلّ كنز مكنون من كنوزها، فكان خير هذه الكنوز محبّتك التي تفيض ينابيعها على كلّ مَن حولك من النّاس، والّتي منها حلَّقتْ أجنحتُك بك عاليًا في السّماء فوق العنصريّة وكلّ حشراتها وديدانها الكثيرة على الأرض .! ولا أغالي إذا قلتُ إنّـي لم أعرف كلّ حياتي مثلك رجلاً، يمحو ذاته محوًا من أجل خدمة الناس، دونما فرق بينهم، حتىّ جنيتَ على نفسك ما يجنيه الكرام على أنفسهم عبر تاريخ الجود والأجواد في الأرض.! وما أنسَ لا أنسَ في هذا المقام، أنك طوّقت عنقي بكل قلادة، حين لم ترضَ إلاّ أن تطبع لي بأناملك، وعلى آلة طباعتك، ديواني الأوّل ” ومضات وأعاصير” عام ثمانين، دون أن تقبل منّي أدنى أجر ، أو أبخس مقابل ! وكأنّي بزهير بن أبي سلمى عناك يوم قال :

     تراهُ ، إذا ما جئتَه، مُتهلّلاً      كأنَّك تعطيهِ الذي أنتَ سائلُهْ !

           ويوم انتُخِبْنا في اللّجنة التّنفيذيّة للمؤتمر الأرثوذكسيّ الّتي ضمّت في أعضائها أقطاب الطّائفة الأرثوذكسيّة في البلاد كالمرحوم المحامي حنّا نقاره، والسادة جان مجدلانيّ، وشفيق طوبي ، ومطانس مطانس، وسليم مخولي، ويعقوب حنانيا، وغيرهم ممّن ذهبوا إلى لقاء ربّهم، وفؤاد فرح والأستاذ العزيز شوقي حبيب مدّ الله من أجَله ، وقد حرّرْنا معًا في حينه مجلة “الرسالة” المنبثقة عن اللّجنة المذكورة، كنتَ وحدك تحمل كلّ أعباء طباعتها، مع كلّ ما يقتضيه ذلك من إعداد وتحضير.!

                كان ديوانك “ورد وقتاد” أوّل ديوان صدر لشاعر عربيّ في البلاد، وكان لك فضل عظيم على اللّغة والأدب، حين غرست لدى طلابك ،في قريتك وخارجها، جيلاً من عشّاق اللغة وروّاد ينابيعها، وحسبُك فخرًا ما ذكرتَه لي يومًا ، من أسماء بعض الشعراء المبتدئين الذين كانوا يأتونك في عبلين ، ليسألوك في علم العروض، وينتفعوا من علمك في  مسالكه الوعرة.. ويا للعار ! حين شبّ واحدهم عن الطوق ، وطرّ شاربه أنكروك وجحدوا ما أجزلت عليهم من فضلك !

              ما زلتُ أحتفظ بقصيدتك العصماء التي ألقيتَها بمناسبة وضع حجر الأساس لكنيسة الرّوم الأرثوذكس في كفرسميع، عام واحد وثمانين من القرن الماضي ! ولن أنسى في تلك المناسبة العظيمة، فرقة كشّاف عبلين الأرثوذكسيّة العريقة تحت إدارتك، وقد جادت على تلك المناسبة العظيمة بحضورها، واستقبلتْ، مع أبناء كفرسميع كافّة، في مدخل القرية، غبطة البطريرك المرحوم ذيوذوروس الأوّل، ومن معه من مطارنة، وأساقفة، وضيوف من سائر المدن والقرى المجاورة ..! فما كان أحلى من ذلك الموقف، ولا أبهج من ذلك اليوم الأغرّ .! وكأنّي بوقع صنوجها وطبولها يتردّد في مسامع كلّ حجر من منازل كفرسميع حتىّ اليوم، وكأنّي بذلك المشهد المهيب، بشبان الفرقة وشابّاتها، ما يزال عالقـًا في ذاكرة تلك الطريق التي سلكَتْها إلى موقع الكنيسة الجديدة !

          نـَمْ أيّها الشّاعر العندليب في قبرك جبلاً مِشماخًا في حفرة، وبحرًا صخّابًا في قارورة .! وليبقَ مثواك فوّاحًا بذكرك المِعطار إلى الأبد ..! لقد حازت عبلين مجدًا باقيًا ، وقدرًا عظيمًا أنّكَ ابنها البارّ، وشاعرها الباقي في شفتيها، وعينيها، وقلبها إلى آخر الدهر، إذ عشـتَ في كنفها، ونمتَ في ترابها ! ومِن حيث إنّ البلاد لا يكبر قدرها ، ولا يعلو شأنها يومًا، إلاّ بمن تنجبه للحياة من رجال عظام في قامتك..!

   كفرسميع   6/9/011

*الأستاذ يوسف ناصر أديب وشاعر معروف ومحاضر في اللّغة العربيّة  

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Social Media Auto Publish Powered By : XYZScripts.com