الدكتورة نهلة طربيه أميرة الحرف والقلم ..!.. بقلم/ يوسف ناصر

  .. مثلما تهيم على وجهك في الصحراء الشاسعة والبريّة النائية وتصمَحُك الشمس بوهجها، ولا تلقى هناك غير القيظ الحارق، ولا تطأ قدمك إلّا على الرمضاء في كثبان الرمال الممتدة، ولا تقع عينك إلّا على الشوك والعوسج، وأنت تبحث هناك عن نَغبة ماء تتلمّظ بها لتبلّ صداك، وفجأة  ترفرف فوق مُحيّاك نسمة باردة تحمل على أجنحتها شذًا ذكيًّا يروّح عنك وعثاء السفر في هذه المفاوز المهلكة ، فتنظر حولك وإذا بك أمام أقحوانة نديّة تقيم هناك بين الشوك والغضا،  مثل راهب اختار أن يقيم وحده في ديره في الصحراء البعيدة عن البشر ! هكذا في صحاري الأدب وحيث لا أسمع في أكثرها إلّا نقيق الضفادع على الأرض، ولا أرى إلّا أسراب الزرازير في الفضاء، قد ساقني تسياري هناك إلى معرفة الأديبة الدكتورة نهلة غسان طربيه الأكّاديمية السوريّة المقيمة في لندن، بعدما تنشّقتُ قارورة من فوح قلمها المِعطار وبهرتني في غير واحد من مقالاتها الكثيرة عبر الصحف، فأيقنت للوقت أنّي حقًا أمام أديبة ملهمة بنعمة الروح القدس..وتكتب من ذوب وجدانها بمداد من رحيق وكوثر.! وأنّني عثرت على أقحوانة عطرة بين شوك، وديمة هطلاء في قفر، وشحرورة ترتّل على فنن رطيب حيث لا تسمع في الصحراء هناك غير صرير الهوامّ ولا ترى إلّا لمع السّراب.!

              أقول هذا لا تجنّيًا على أحد، ولا احتقارًا لأهل القلم، بل لأنّ نفسي غدت كغيري من أكثر الناس في هذا الزمن، تعاف ما أرى أمامي كلّ يوم من ركام الأقلام اليابسة، وحطام القرائح القاحلة في أكثر ما أقرأه في الكتب، وفي أكثر ما يقع عليه نظري في صحيفة أو موقع يرتاده الناس ويزدحم على أبوابه الكتّاب.

               امتازت شذور نهلة الشعرية والنثرية بأنها أدب طافح بالفكر الراقي والمشاعر الدفّاقة ، والخيال الخصيب الذي يحملها بأجنحته عاليًا  فوق الأثير، حتّى تحتجب عن الأنظار أحيانًا كثيرة في غيومها العالية بين الرموز والإشارات ، وقد وهبها الله ملَكة أدبيّة ولا ككلّ ملَكة، فتأخذك مقالاتها وقصائدها الحديثة إلى روضة اتّشحت بالأزاهير المنوّعة، والظلال الوارفة، تتدفّق فيها ينابيعها، وتترنّم أطيارها ، وتفوح فواغي زهورها ، تكتبها للحبّ والحقّ والحياة، وتبثّ ذلك همسًا نبيذيًّا يبعث الأمل والرجاء في نفوس قرّائه، في عالم غرق أكثر أبنائه في عباب ظلمته وغشي الحزن واليأس قلوب الناس !

                 وتلقاه مع ذلك أدبًا رومانسيًّا شهيًّا يتّسم بالعمق مستحدَثًا وقائمًا على الابتكار والإبداع لا كلامًا معادًا مبتذلًا، بل تنتشي بعذوبته ويمتّعك بعبارات تقطر شهدًا تتجاور كأنّها أجاجين خمرة سال فيها لُعاب قلمها، وسكبه من روحها رحيقًا حلو المذاق للشاربين.!

            تُمسك نهلة بقلم بين أصابعها شمعةً يشعّ نورها وتشرئبّ نارها إلى أعلى لتحرق ثوب الليل المدلهمّ في هذا العالم…وأيّ ليل أعظم ظلمة من ظلمة الحقد والضغينة والعنصرية والحروب والفقر والظلم في هذه المسكونة الشقيّة بجنونها !

                 وتلقَى قلمها مرّة في يدها وردة حمراء فاتنة الوجنات تبعث منها عبير الأمل والفرح وأريج المحبّة والسلام لهذا العالم، وما أكثر الأقلام التي تكون في أيدي أصحابها أفاعيَ سامّة تُنضنض بألسنها وتنفث سمّها المعتّق في نيوبها كي يموت العالم بالعنصرية والقتل والترحيل والطمع والتكفير بين أبناء المعمورة !

                   وتلقاه مرّة أخرى عندليبًا يصدح في يدها، وغريدًا يرتّل معها أنشودة شاردة في قلبها، ونغمًا مفعمًا بحسّ حبيس في وجدانها تستنهض  بجمالها النفوس اليائسة، وتبثّ الرجاء لدى الناس في عالم تعيس بظلمه، وغدا اليأس والرعب والخوف من المجهول كابوسًا ثقيلاً وليلًا يقيم في أرواحهم لا ينجاب دجاه وإن طلع الفجر .!

              وتلقاه أحيانًا جمرة متوقّدة في يدها تنثر منه على ورقها حروفًا من نار، وتشعل في ذلك كلماتها بقبس من مشاعرها، وجذوة من فكرها الذي يحيا حياة النسّاك في ذلك الدير من وجدانها ، ومنه تطلق نقدًا اجتماعيًّا خفيًّا أحيانًا، وصريحًا أحيانًا أخرى لِما ينتاب الحياة من آلام وأسقام . كذا وجدت لباب معانيها وأساليبها، وأرجو ألّا أكون حمّلت أدبها فوق ما يحتمل.

              ولا عجب فيما ذكرت، فنهلة ابنة الأديب المعروف والمؤرّخ غسان ميخائيل طربيه أستاذ اللغة العربية، والذي كان حِجره مدرستها الأولى، وصدره جامعتها المثلى قبل كلّ المدارس والجامعات في العالم، وقد اصلبّ عودها على محبّته، فهو أستاذها ومرجعها وقدوتها، كما ترعرعت في كنفه على التهيام بحبّ وطنها الذي دفع الشيطان إليه بكل جنده كي يسفك دمه،   ونشّأها على عشق العربية، والتبحّر في قواعدها والتضلّع من أصولها. لذا لا أجد فيما أقرأه بين كتاباتها إلاّ لغة خالصة من كلّ عيب ولحن، وقد أحسنت بفعل حسّها اللّغوي تخيّر مفرداتها وانتقاء ألفاظها، فزادت بذلك عبارتها رونقًا وجمالًا ، ولا أغالي إن قلت إنها تفرّدت بهذه اللغة الصحيحة الآسرة دون أكثر الكتّاب من أهل القلم ، ويا شدّ ما يوقع في نفسي ما تلقاه لغتنا العربيّة المنكوبة في عصرنا من أذًى لدى أكثر كتّابها، وقد عقّها أبناؤها، واستقبحوا جمالها، وجهلوا أسرارها، وجحدوا معروفها وحجبوا جلال مجدها الغابر.

               أضف إلى ذلك كلّه ينبوعًا ثرًّا آخر ترفد نهلة منه ثقافتها الواسعة فقد درست الأدب الإنكليزيّ دراسة مستفيضة، ونهلت من روافده الكثيرة ممّا أغنى ثقافتها، ووسّع مداركها، وشحذ موهبتها.

            لقد تحاميت في مقالي هذا خشية الإطالة تسميةَ أساليب كتابتها بأسمائها، وذكر القوالب والمصطلحات النقدية الحديثة التي توضح جمال نصوصها فيما تيسّرت لي قراءته. هذا، وإن ندر أنْ كتبتُ يومًا نقدًا في أديب أو شاعر، فعذري هنا إعجابي العظيم بأديبة لا بد أن يكون لها شأن عظيم في أدبنا العربي، وهي بحقّ أميرة الحرف والقلم، أراها ورقاء تهتف كلّ صباح على دوحتها من أجل القيم الإنسانية المفقودة في هذا العالم، ويقيني أنّه لا بدّ لهذه الورقاء أن تستوقف في الطريق الكثيرين من عشّاق الكلمة الحريريّة ليصغوا إلى شدوها ويسمعوا هتافها الممتع.

         كفرسميع ــ الجليل

(الكاتب شاعر وأديب معروف ومحاضر للّغة العربيّة) 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Social Media Auto Publish Powered By : XYZScripts.com