مواطن بسيـــــــــــــط.. قصة قصيرة.. بهائي راغب شراب

مسلم ابن سالم المسلم .. مواطن بسيط ، من النوع الذي عندما تراه لأول مرة يرتاح قلبك له ، وتميل إليه حناياك تلقائيا ، في ملامحه رجولة عصية وقوية .. تحسبه من الحزم الذي يمارسه في تعامله مع الأمور انه من القساة القلوب ، وهو ما يتبدد عند أول تلامس معه في الحديث وفي المشاركة ..

عندما يتكلم .. تخرج حروفه واضحة ، وجميله .. تأتي مفعمة بالمعاني الجدية النافعة الخيِّرة ، لا يقول أي كلام ، ولا يتكلم لمجرد أن يتكلم ، أو ليثبت أنه موجود ، قناعته عن نفسه أنه حي يرزق برزق الله ، وفي داخله أنه المواطن مسلم بن سالم المسلم .. وليس أحدا آخر ، هو لن يكون غيره ، وأبدا يرفض أن يتغير ولو من ظاهره ليرضي هذا أو يغضب ذاك ، .. ما دام متأكدا أنه في جانب العدل يقف ، وفوق طريق العزة والأخلاق يسير .

مبدأه من نوع السهل الممتنع .. مبدأ الحق الصريح ، الذي تنفتح أمامه القلوب ، وتنجذب إليه الأرواح ، مبدأ الحب والوفاء والثبات الصادق ، لا يحب المداورة ولا الرياء ، ويكره شيئا له علاقة بالكذب أو بالنفاق ، فهو يؤمن أن الإنسان المنافق ضعيف ، جبان ، مخادع ، شرير ، يكره التنافس الشريف ويفر من المدافعة الواجبة في بذل الجهد والعطاء عندما يتوجب فعل ذلك ، وإلا فلماذا ينافق ، ولأي سبب يرائي ، وكيف لا يتحمل المزاحمة ، ولِمَ يود الاستفراد بالشيء لنفسه دون الآخرين ،

مسلم بن سالم المسلم أيضا وطني غيور .. يحب وطنه ، يُخْلص له ، ويضحي في سبيله ، لم يتأخر يوما عن تلبية نداء الواجب ، لم يهرب من مواجهة الموت إذا كانت تعني حياة وطنه ، تراه ينخرط بالناس ، يملأه إحساس بالزهو أنه منهم ، جزء أصيل فيه ، يعاني مثلهم ، ويفرح مثلهم ، يغضبه ما يغضبهم ، ويسره ما يسرهم ، وفي ساعات البذل تجده في الصف الأول دائما ، لا يخور ولا يضعف ، يعطي المثال للمواطن الصالح لبلده ، ويقدم القدوة الحية لأهله في لذة التضحية والمجاهدة لرفعة بلدة ، ولحماية حدوده وحقوقه ..

ودائما هو ضد الظلم … ظلم الحكام وظلم الغزاة ، وما أكثر ما عانى بسبب ذلك … موقفه هذا أدى به إلى المعتقلات والزنازين حيث التعذيب والعزل والألم ، حيث شعور الذل والمهانة التي تخترق حواجز النفس فتكيد لها ، أمام ظلم الحاكم المستبد ، الذي يريد أن يضيع حقوق الناس ، كما ضيع حدود البلاد .. لأجل ذلك هو مُطَارَد من قِبَل أجهزة الأمن ذات الخبرة العريقة في ملاحقة المجاهدين والشرفاء الذين تمسكوا بمواقف العز والكبرياء في مواجهة الأعداء جنبا إلى جانب في مقارعة الظالمين الذين يتوددون للغزاة ويدلونهم إلى مكامن السيطرة على الشعوب والثروات .

وهو مواطن كأي مواطن آخر ينتمي لجماعته ، بتواضع وتذلل المتمكن .. الواثق من حسن سلوكه ، المدرك لدوره بينهم في السعي للارتقاء بمعارفهم ومحاسنهم وبناء دار المستقبل التي يتمتعون فيها بالحرية والاحترام والمساواة ، والتي يتبادلون فيها الحب والإخلاص …

وكمواطن حقيقي يمنح ولاءه لله ولأولياء الله ولأنبياء الله وخلفاء الله .. وللمجاهدين الذين يدافعون عن بذرة الإيمان النابضة في الصدور تنتظر لحظة الإنبات ، لتنطلق فوق الأرض تبث رحيق التقوى في مجامع الرجال المؤمنين ، وعبير الاستشهاد في سبيل إعلاء كلمة الله العليا ومن أجل تحرير الوطن الغالي الذي يحاصره الأعداء من كل صنف ، من جميع الجهات ،

لله دره … إذ يتذكر والده الشهيد … وهو يبث آخر الكلمات إلى أمه الجبل الوحيد الذي آواه في أحضانه ، وحماه من أحاسيس الغدر اللئيم الذي يتعرض له الأيتام في ابتداء يتمهم الحزين ، قال لها .. ولم يكن قولا جديدا عليه ، لكن أهميته تنبع من كونه آخر القول الكريم الذي يرسله عَبْرَ رَطْبِ حديثه المستعجل للرحيل ..

قال لها :: أنت الجبل يا أم مسلم … أنت من بعدي الرجل الأول ، أنت من سيتولى استكمال رسالتنا .. وستربين بإذن الله ولدنا مسلم ..

ربيه على أني أبوه لم أخذل الله في موقف يحتاج فيه أن أنصره ،

أنني أبوه لم أخذل فلسطين في موقف يحتاج للتضحية والفداء ،

أنني أبوه لم أخش يوما الموت ما دام موتي يولد الحياة ..

مسلم ولدنا .. هو حياتي القادمة .. هو من سيكمل المشوار ومن سيحمل السيف ، ومن سيضرب الأعداء في نحورهم ، ومن سيواجه الظالمين أيا كان نوعهم أو مراكزهم ..

علميه ..

أن يكون مسلم ابن سالم المسلم ، وألا يكون أحدا آخر غيره .. ألا يكون أحدا آخر غيره .. وانتهى قول أبيه **

يتذكر مسلم هذا الحديث … ويتذكر كيف حفظ الدرس الأول الصادق في حياته ، الدرس الذي كلفه والده الحبيب ..

لكي نتعلم يجب أن نفقد شيئا ،

لكي نكبر يجب أن نخلع ملابسنا الصغيرة ،

لكي نبني يجب أن نقطع الأحجار ونصب القواعد ونرفع البنيان وأن نسكنه كبارا ..

ولكي نصل إلى أهدافنا … فلنتخيل مستقبلنا الآتي ، ولنرسم الخطط الوافية التي تُعَبِّدَ دربنا إليه ،

..

ومازال مسلم بن سالم المسلم يتذكر ..

عندما أعتقل لأول مرة … كان يجري مسرعا .. لينذر إخوانه بقدوم جنود الاحتلال لاعتقالهم … كان يجري عندما أمسكه الجنود بعد نجاة الآخرين .. نكلوا به بأخمص البنادق وبالبصاطير والركلات الحاقدة .. غضبا عليه .. لأنه كان عزيزا وخيب مبتغاهم الدنيء .. ضربوه كثيرا لأنه لم يصرخ منذ بدءوا حفل الضرب ..

كانت هذه المواجهة الأولى بينه وبين العدو … وهنا انطلق مارده المخبأ فيه ، منذ تلك اللحظة قرر أن يكون قائدا لنفسه رائدا في المقاومة والجهاد ، وقرر أن يجعل من راية الله لواء يمضي تحت ظله في معركته لطرد الغزاة ..

**

فجأة بدأت عضلات وجهه في التقلص ، ولوَّن الحزنُ الغاضب وجهه .. إذ يرى وهو غير مصدق ما يحدث للمبادئ والمواقف ، وللأخلاق والقيم .. إذ يُداس عليها ، وإذ تتعرض لأقسى برنامج ممنهج لمسح معاني الوجود الفلسطيني فوق فلسطين في المقاومة والجهاد ، والثبات على المبادئ والحقوق والوقوف صفا واحدا لمقاتلة اليهود الجبناء الطغاة القتلة المخربين .. الإرهابيين الذين ينشرون الرعب بين أطفال فلسطين وهم آمنون يلعبون أو نائمون .. لا يصدق ما يجري .. لأنه من اللامعقول ، من المستغرب فعلا وقولا ، ومن المُسْتَنْكَر جُرْما وخسة .. ، لا يصدق أن من يقوم بكل ذلك أخوة من جماعته ومن أهله ومن شعبه .. يتميزون بالقيادة .. اشتهروا بين الناس بأنهم أساتذة في النضال ، وأنهم أول الرصاص ، وأنهم المشروع الوطني لتحرير فلسطين … لا يصدق .. ولن يصدق …

كيف خدعوه طوال السنين ، كان معهم دائما ، في نفس الموقع وفي أول الانطلاقة ، وعند الزحف في كل حالة كان معهم يسير ويمضي ، شاركوه المقاومة ، فرح معهم لنجاح العمليات الفدائية ، شاركوه أحلامه في وجوب التحرير لفلسطين كل فلسطين ..

كيف انقلبوا .. ومتى .. ولم .. على كل شيء حتى على إخوانهم وأصدقائهم وأحبائهم .. انقلبوا على أنفسهم فلبسوا وجوها غير وجوهم …وانحرفوا عن درب العودة ، أضحت ملامحهم مستهجنة وحشية مفترسة تكاد تلتهم كل شيء يقف في طريقهم .. يحاول أن يبصرهم أو ينصحهم … أو يكشفهم …

يا للهول … يا الله .. كيف تكون الحياة .. الانتصار ، و ..

**

و .. يواصل مسلم المشي فوق الطريق .. مسلما روحه لبعض ذكرياته .. كيف ولدت القوة فيه ، وكيف جعل منها مشروعا لبناء الخير ، ونشر الاطمئنان على أهله ومحبيه ، وكيف سخرها لتنال من عدوه الوحيد ، عدو شعبه وعدو أرضه .. اليهود الغاصبين ، المدعومين بالشيطان اللعين ، الذي وجهه أمريكيا ، وعيونه بلاد المستعمرين الأوروبيين ، وقلبه الكيان الصهيوني العابر متطفلا علينا وأدواته .. حكامنا المستهترين … عندما غفلنا عن رفع راية الجهاد وارتضينا السكون أمام الرياح والأعاصير مستسلمين .. فخذلنا اللهَ ورسولَه وابتعدنا عن دينه ، وملنا عن الهدى المستقيم ..

….. ….. ……

اثبت مكانك يا مسلم ..

لا تتحرك … ارفع يديك عاليا … ضعهما خلف أذنيك ….

قد كشفنا ما تفكر فيه .. وعرفنا استدعائك لذكريات البطولة والحنين ..

قد خالفت قانون الاحتلال ، وأصدر دايتون جنرال الجيش الفلسطيني الجديد الأمر باعتقالك ..

وها نحن نعتقلك .. نقيدك بالحديد .. ندخل رأسك في كيس الرقيق …

لا تتكلم .. امض معنا مطأطئا ..

سنستضيفك عندنا .. وسنخصص لك أجمل زنزانة بنيناها حديثا للمارقين ..

…. ….. ….

ماذا تفعلون أيها الجهلة الخائبين ..

كنت أحميكم .. طرقتم بابي دائما تطلبون حمايتي …والآن ..

تردون الجميل بإسكات الصهيل ….

كنت قائدكم النبيل .. وخليلكم الأثير .. صدر بيوتكم أجلس فيه ..

والآن .. غيرتم بيتكم .. بعد أن غيرتم عنوانكم ..

الفلسطيني دائما يظل الفلسطيني الأصيل .. ليس هناك ما يسمى بالجديد .. أي جديد .. وهل يولد الإنسان جديدا ..

يولد الإنسان فلسطينيا ، فطرته .. مقاومة الغزاة الغاصبين ..

يولد الإنسان فلسطينيا يجاهد المعتدين …

يولد الفلسطيني فداء للفلسطينيين ..

…. …. ….

هل غيرتم اسمكم .. بئس ما فعلتم .. ستتيهون وتندمون .. وستخسرون كل شيء ..

أنتم الآن تخسرون .. فقدتم الحقيقة الوحيدة التي بها تسعون أحياء فوق الطريق … التي بها احتضنكم الشعب عندما كنتم له عنوانا للتمسك بالحقوق وللثبات على خيار مقاومة الأعداء طوال السنين ..

ألقيتم السلاح .. ألقوه وحدكم .. ودعوا غيركم يمضي على النهج القويم ..

دعوا المقاتلين يقاتلون ، لا تفرضوا عليهم كابوسكم الهزيل ..

ستندمون وسأخرج من زنازينكم وضَّاء الجبين ..

أيها المنطفئون …

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Social Media Auto Publish Powered By : XYZScripts.com