تأمل البطريرك بييرباتيستا بيتسابالا: الأحد الثاني للزمن العادي، السنة ب (يوحنّا 1:  35- 42 )

فنَظَرَ إِلى يَسوعَ وهو سائرٌ وقال: «هُوَذا حَمَلُ الله!»

القدس – ابوانطون سنيورة – بقلم – البطريرك بيتسابالا :

 وفقا للمقطع الإنجيلي لهذا الأحد نقف الآن على ضفاف نهر الأردن، حيث يستمر يوحنّا في التعميد. يقول لنا الإنجيلي: “وكان يوحنّا في الغدّ أيضاً قائماً هناك” (يوحنّا ١: ٣٥). ويضيف أن يوحنّا كان واقفا مع اثنين من تلاميذه وأنّ هذين التلميذين يتوقّفان عن مرافقته ويبدآن من تلك الساعة، باتّباع يسوع. سوف يعود المعمدان على مسرح الأحداث في الفصل ٣ (٢٣-٣٠)، ليقول أنّ الوقت قد حان له للتلاشي والاختفاء: إذا كان المسيح الّذي كان ينتظره قد وصل بالفعل، وإذا كان “الناس يأتون إليه” (يوحنّا ٣: ٢٦)، وإذا كان الناس، حتّى تلاميذه، يلحقون به، فذلك دلالة على أن رسالته قدّ أُنجزت حقّاً.

إنّ الشيء الّذي يبدأ الان، إذاً، هو مسيرة اتّباع. وتبدأ المسيرة بتعبيرين من سمات الإتّباع: الإصغاء والإتّباع (يوحنّا ٣: ٣٧). إنّ التلميذ هو الشخص الّذي يضع نفسه في موقف إصغاء، ويُرحّب بما يسمعه ويقبله: إنّ الإصغاء هو وسيلة بقاء، في وسط ما يجري في العالم، لمن لا يعيش لنفسه، بل للشيء الّذي ناله. إنّ من يُصغي يُدرك أنّه يحصل على الحياة من الآخرين.

ولكن الإصغاء وحده لا يكفي: نحن نصبح تلاميذ عندما يؤدّي إصغاؤنا إلى تحرّك ما وعمل ما، وعندما يُحرّك ما قد سمعناه خطواتنا خلف من يتحدث إلينا، فنذهب تجاهه، ونقيم علاقة معه.

سنجد هذين التعبيرين في الفصل العاشر من بشارة يوحنّا، فصل الراعي الصالح: “إنّ خرافي تُصغي إلى صوتي، وأنا أعرفها وهي تتبعني، وأنا أهب لها الحياة الأبديّة” (يوحنّا ١٠: ٢٧-٢٨).

يوجّه يسوع سؤالاً أساسيّاً للتلميذين اللّذين يتبعانه: “ماذا تريدان” (عمّا تبحثان)؟ (يوحنّا ١: ٣٨). هذه هي كلمات يسوع الأولى في بشارة يوحنّا.

يبدو ان يسوع يطلب منهما التركيز على نقطة الانطلاق، وعلى الرغبة الّتي تُحرّكهما، والنار الّتي تحفزهما على التحرّك. يطلب التركيز على النقص الموجود داخل كلّ فرد منّا وعدم الاكتفاء بما لدينا وعلى ما نعرفه وعلى ما نُحبّه بالفعل.

إنّ الّذي يفهم سؤال يسوع يُدرك ويشعر بأنّنا قد صُنعنا دائماً لما هو أبعد، وبأنّه ينبغي السعي وراء ذلك الأبعد، ويجب انتظاره، لأنّه لا يمكن أن يكون سوى مُعطى لنا.

يقول يسوع أيضاً، من خلال هذا السؤال، أنّ الّذي بدأ يتبعه هو إله يتيح البحث عنه، وأنّه ليس مستحيلاً العثور عليه، لأنه بدوره يبحث عن الإنسان، كما سنرى بعد قليل مع بطرس. يسوع لا يطلب شيئاً آخر، لا يطلب مستندات ولا أوراق اعتماد أخرى سوى وجود الرغبة الداخليّة في اتباعه.

التلميذان هما اللذان يعبّران عن طبيعة هذه الرغبة العميقة، من خلال سؤال غير اعتياديّ: “أين تقيم؟” (يوحنّا ١: ٣٨). إنّ الرغبة هي عبارة عن سؤال، السؤال عن مكان ما، عن بيت يقيم فيه مع شخص ما.

غالباً ما كان تلاميذ معلّمي الشريعة في ذلك الزمن يذهبون إلى بيوت معلّميهم، كي يتعلّموا من العيش معهم، من خلال تقاسم الحياة، ومن فن الحكمة الّتي كان معلّموهم خبراء فيها. فمن الضروري معرفة أين يقيم الآخر، كي يكون مستطاعاً البحث عنه ولقاؤه. هذه هي خبرة الحجّاج الكثيرين الّذين يأتون إلينا من جميع أنحاء العالم، كي يروا أين كان يُقيم يسوع.

هذا هو الحال بالنسبة للجميع: إنّ الرغبة الأحقّ، والّتي نحملها في داخلنا، هي البقاء معه؛ هي المعرفة يقيناً أنّه بإمكاننا إيجاده، وأن هناك مكاناً له في حياتنا، حيث يكون في انتظارنا كي نكون معه.

ردّ يسوع ليس واضحا. فهو لا يعطيهم عنوانا ما، ولكن طريقا للسير معا: “هلمّا وانظرا” (يوحنّا ١: ٣٩). إنّ المكان للبحث عنه هو اتّباعه والسير خلفه: ليس هناك مكان آخر لمعرفته، والبقاء معه (يوحنّا ١: ٣٩)

إنّ من يسمع ويتبع يُصبح بدوره شاهداً، كما كان المعمدان: فقوة الجذب الّتي اختبرها بنفسه، وسِحرُ الكلمات التي تقود على الفور إلى الأساسي، تصبح بدورها، قوّة جاذبة للآخرين.

تعرض بشارة يوحنا مقاطع أخرى، بحيث يصبح السامعون والمؤمنون، بدورهم، أدوات خلاص للآخرين الذين يتوصّلون، عن طريقهم، إلى الإيمان به: هذا هو حال المرأة السامرية (يوحنا 4)، التي تترك الجرة وتسرع نحو القرية لإعلان أنّها وجدت شخصاً قال لها كلمات جديدة، كلمات تختلف عن تلك التي سمعتها حتى الآن.

إنّ التلميذ الّذي أصبح شاهداً هنا هو أندراوس: حالما يلتقي بأخيه لا يستطيع إلا أن يشاركه الاكتشاف الذي توصّل إليه، والحياة الجديدة التي ولّدها فيه هذا الاكتشاف (يوحنا ١: ٤٠-٤٢). ومن خلال مرافقته ليسوع، يكتشف أنه المعلّم، الّذي يُبادر إلى التعرّف على أتباعه: “حدّق إليه يسوع وقال: أنت سمعان بن يونا، وستُدعى كيفا – أي صخر (بطرس)” (يوحنّا ١: ٤٢).

رأى يسوع بطرس وغيّر اسمه. وهذا التغيير إشارة إلى رسالة جديدة يعهد بها الرب إليه. ولكنّها رمز أيضًا لذاك التغيير الجذري في الحياة الذي يصيب كل تلميذ يضع نفسه على المحك، ويَقبَل أن يترك كل شيء رغبة في أن يكون مع الرب. هذا اللقاء جدير بأن يغيّر حياة الإنسان حقّاً.

تأملات البطريرك بيتسابالا

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Social Media Auto Publish Powered By : XYZScripts.com