قراءة في علم المستقبليات.. بقلم/ د. شادي الكفارنة

إنّ الإنسان لم يعش بعيداً عن التفكير في مستقبله، فالاهتمام بالمستقبل سمة بشرية وقابلية فطرية ونشاطاً إنسانياً، عرفتْ منذ فجر تاريخ الإنسان من خلال معرفة ذاته ومكانه في الحياة ومصيره المستقبلي، فعلم المستقبليات يهدف لمعرفة المستقبل وفق رؤية إستراتيجية معرفية تسعى لدراسة الماضي وتفكيك الحاضر وتحليلهما وتفسيرهما وربط عناصرهما ورموزهما معاً لمحاولة استقراء ما يخبئه أو يحمله المستقبل من أحداث وأفكار جديدة تخدم المجتمع وتجعله أكثر استعداداً لأي مخاطر محتملة، فالذي يُحسن توظيف ماضيه ويفهم حاضره يكون قادراً على أنْ يُهيئ نفسه لمستقبله.

ويُعد علم المستقبليات علم استباقي استقرائي استنباطي يرسم لنا خارطة طريق المستقبل لنعرف كيف سنواجهه من خلال تحفيز واستثارة التفكير لوضع عدة سيناريوهات للأحداث المحتملة تكون هي الأقرب للواقع مدّعمة بدراسات ومشاريع ومقترحات ومبادرات، فهو علم لا يعتمد على الخيال العلمي أو إجادة ما يسمى بـ (الحاسة السادسة)، بل هو علم مبني على خطة علمية ورؤية إستراتيجية ودراسات عميقة للماضي والحاضر للوصول إلى توقعات منطقية لما سيؤول إليه الحال في المستقبل، وممارسته تحتاج بيئة صحية خالية من التعقيد الإداري والمركزية وأحادية الفكر والتفكير.

فإنّ عِلْمَ المستقبليات هو علم يختص بـ المحتمل والممكن والمفضل من المستقبل، بجانب الأشياء ذات الاحتماليات القليلة ذات التأثيرات الكبيرة التي يمكن أنْ تصاحب حدوثها حتى مع الأحداث المتوقعة ذات الاحتماليات العالية مثل: الانفجار السكاني وأزمة الغذاء والفقر ومصادر الطاقة والتلوث البيئي والتنمية المستدامة والتغير المناخي، لذلك فإنّ المفتاح الأساسي لاستقراء المستقبل هو أنّ لا يقين في كل شيء.

ومن خلال تطور الدراسات بعلم المستقبليات تببن استخدام مصطلحات ومترادفات لبيان نفس المعنى، فهناك علم المستقبل ومصطلح بحوث المستقبليات ودراسات البصيرة وبحث السياسات والمنظور أو المأمول المستقبلي والتنبؤ المشروط والمستقبلية وعلم المستقبل والدراسات المستقبلية واستشراف المستقبل، أو الدراسات الاستشرافية ومعظمها يدلل على محاولات لرسم صور للمستقبل.

لا يخفى على أحد أنّ الدراسات المستقبلية ليست جديدة، ولكنها تشهد اليوم ازدهاراً يستقطب اهتمام المفكرين والمنظّرين الاستراتيجيين، ومن المؤكد أنّ الاهتمام بالمستقبل لا يعني نفي الماضي، ونذكر من المفكرين هنا عالم الاجتماع العربي “المهدي المنجرة” الذي عمل بعمق منهجي على الدراسات المستقبلية، ويُعدّ من أبرز علماء المستقبليات في العالم، فإنّ البُعد المستقبلي لم يكن لديه حقلاً عمودياً قائم الذات، بل كان بالأحرى حقلاً معرفياً أفقياً يخترق كلّ الحقول المعرفية الأخرى.

وفي الواقع فإنّ علم المستقبليات ينبغي أنْ ينطلق من حيث النظرية والتطبيق معاً من الأسرة باعتبارها النواة الأولى للمجتمع، فإننا بحاجة إلى سيناريوهات وتنظيم لمواجهة العصر الرقمي للأعوام القادمة، حيث يرى عدد من الباحثين أنّ الدراسات المستقبلية في مجتمعنا تحتاج إلى مزيد من العمل عليها والتعريف بها ونشرها ضمن المؤسسات التعليميّة ومناهجها، وأيضاً تفعيل دور البحث العلمي للخروج بالدراسات المستقبلية من دائرة الفهم إلى التطبيق والممارسة ومعالجة قضايا علمية عملية، والمشكلة لا تكمن في وجود عناصر ومعطيات التأسيس المستقبليّ بالنسبة لنا، بل صعوبة تشكيل وبلورة صيغة معرفية نظرية على مستوى المنهج وعملية على مستوى التصور والإعداد لدراسة المستقبل، مع ضرورة إيجاد أجوبة مناسبة لأسئلة التنمية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والفكرية وإشكاليات الحرية والحوار والاعتراف بالآخر، وتعميم ثقافة الوعي والتعاون مع باقي الأمم والحضارات والثقافات في ترسيم بناء مستقبلنا، مع عدم حجب نظرنا عن رؤية المشاكل والأزمات التي يعاني منها مجتمعنا.

هذا يتطلب منا تأسيس قاعدة بيانات تستند على المعرفة العلمية المتقدمة والاستخدام الأمثل للأفكار المتدفقة؛ لأن إنتاج المعرفة هي القوة الرئيسة للعصر، والأداة الأهم للإنسان في التواصل والمعالجة وتحقيق المردود الاقتصادي والفكري، بمعنى أنّ المستقبل سيكون لصالح من ينتج المعرفة ويطورها.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Social Media Auto Publish Powered By : XYZScripts.com