العلاقة بين الدين والسياسية،،، بقلم د. محمود الأسطل

ترجع الجذور التاريخية  لإشكالية العلاقة بين الدين والسياسية الي نهايات القرن ١٥ في اوروبا في مرحلة مابعد الثورة الفرنسية التي نادت بإبعاد الدين عن السياسة كرد فعل لاندماج السلطة الدينية المتمثلة بسلطة الكنيسة ورجال الدين (البطارك) مع السلطة الدنيوية المتمثلة بالامبراطور الذي انتج الاستبداد وتناسل منه متناقضات تتعارض مع قيم الدين، وإزاء هذا الوضع نشأت مفاهيم العلمانية كمذهب سياسي لاديني لمواجهة استخدام الدين في السياسة وانتهت بظهور حركة الاصلاح الديني البروتستانتي التي فصلت بين العمل  الديني الكنسي وبين العمل الدنيوي السياسي .
وعلى مدار سنوات بقي الجدل يدور حول موضوع الدين والدولة وثنائية الديني والسياسي اذ شغل ذلك الموضوع حركات الاسلام السياسي العربية ومشايخها منذ ظهورها على الساحة العربية .
ويمكن رصد مراحل بدء وتطور تلك العلاقة على النحو التالي :
اولا : بدأت العلاقة الصحيحة بين الدين والسياسية في دولة الخلافة الراشدة، اذ كان للدين دور اساسي في المجتمع في زرع القيم والأخلاق الاسلامية في نفوس عامة الناس، واتسم الحكم بالعدل والمساواة والتسامح والتعايش السلمي واحترام الاديان الأخرى، وانتشار الأمن والحريات الدينية والسياسية   .
المرحلة الثانية ثمثلت بتحول الخلافة الراشدة الى ملك عضوض : اذ تحول نظام الحكم في الدولة الاسلامية من خلافة راشدة تقوم على مبدأ الشورى في اختيار خليفة المسلمين الى نظام وراثي للعائلة الحاكمة وتمثل في حكم الدولة الأموية بفرعيها السفياني والمرواني، والتي استخدمت البعد الديني لاكتساب الشرعية السياسية باعتبارها حامية الاسلام والمسلمين في مواجهة الغرب الصليبي، واتسمت تلك الفترة الى حد ما بالرخاء والعدل والتعايش واحترام الاديان والتبادل الحضاري  .
المرحلة الثالثة : بعد الملك العضوض والخلافة الاسلامية التي اصابها الضعف والتفكك، حدثت تحولات في أنظمة الحكم بالوطن العربي اذ استقلت الدول العربية عن الخلافة العثمانية وطبقت نظام الحكم الدكتاتوري الذي يجعل السلطة بيد الحزب الحاكم او بيد رجل الدولة الواحد وعادة ما يكون اكتسب شرعية الحكم من قيامه بانقلاب عسكري او بثورة اطاحت بمن قبله، ومع ظهور الربيع العربي ظهرت حركات الاسلام السياسي على الساحة بقوة نتيجة عقود من الظلم والقهر والاستبداد، اذ استغلت حركات الاسلام السياسي عيوب ومساوىء الأنظمة الدكتاتورية واستخدمت الخطاب الديني لاستعطاف الجماهير ولاكتساب الشرعية السياسية اذ استغل قادة حركات الاسلام السياسي الدين، باستخدام النص الديني وبتطويع الأيات القرآنية لشرعنة أفعالهم وتصرفاتهم وبتسخير المشايخ بإصدار الفتاوى التي تصب في صالحهم وعلى اثرها تقوم بتضليل الناس، وتمثلت هذه النماذج بوضوح في الجمهورية الاسلامية الايرانية، وفي نظام عمر البشير في السودان، وتجربة الاخوان المسلمين في مصر، (وتجربة الاخوان في تونس التي تعتبر فريدة وناجحة الى حد ما وذلك بسبب ان  قيادات الحركة تجاوزت المفاهيم الخاطئة في العلاقة بين الدعوى والسياسي، حيث اذكر مقوله لراشد الغنوشي (العقل المسلم في الحركة الإسلامية قد انفصل عن الواقع بسبب فشله في التخطيط وفهم واقعه خاصة بعد عصر الانحطاط ومخاوف الحاضر ماكان له نتيجة على انفصال الدين عن السياسة) .
واتسمت حقبتهم بالعدائية والاقصاء والتنكر ومعاداه الآخر، وتعود افكار العدائية والاقصاء الى أساس نشأت حركات الإسلام السياسي (الاخوان – والجماعة الإسلامية في باكستان – والخمينية في إيران) اذ نشأت في ظل صراع ثنائية الدين والسياسة تبنت في بداياتها مفهوم الدولة الدينية من خلال شعارات عامة براقة بهدف استقطاب الجماهير عبر العاطفة الدينية بعيدا عن دراسة الواقع وتحليل معطياته ومحركات الصراع داخله .
وأدى هذا الخلل بهذه الحركات الى أن تتخذ من ثنائية الدين والسياسة طابعا شديد الحدية ليصبح من يختلف معها مختلفا مع الدين اذ نصبت الحركات نفسها وكيلة للدين تكفر من تشاء من الخصوم السياسيين وتهدد المواطنة المتساوية بل تحتقرها وهو ما افضى إلى مجتمعات مشوهة يسودها الاستبداد والتخلف والتداخل بين الديني والسياسي وافضي بها إلى ظهور الفكر المتطرف والإقصاء والتكفير الذي اضر بالدين وجوهره وخلف صورة سوداء قاتمة له مثل (داعش والتكفيريين ).
يبنى فكر الإخوان على أنهم “جماعة المسلمين” وليسوا “جماعة من المسلمين” والفارق بين هاتين العبارتين كبيرٌ، فالأول يحصر الإسلام في الجماعة ويستبعد ما عداها من تيارات وتنظيمات وأفكار من دائرة الإسلام، بينما الثاني يعترف بوجود جماعات عديدة من ضمنها الإخوان المسلمين، وبالتالي هم يصفون من يتبع نهج الجماعة أو الحركة بأنه “إسلامي” وهو مصطلح مُفخخ يحمل في داخله دلالة إقصائية بالمخالفة ذلك لأن من لا يُوصف به يكون بالضرورة “غير إسلامي” وهو أيضاً يعكس بُعداً آخر في غاية الخطورة يوحي بأن إجتهاد الجماعة الخاص في فهم الدين يتطابق مع الدين نفسه، ويجدر بنا في هذا المقام الإشارة إلى أن الإسلام لا يعرف هذا المصطلح فالقرآن يقول (هو سماكم المسلمين) ولم يقل “الإسلاميين”.
لا شك في أن أفكاراً خطيرة مثل الاستعلاء بالإيمان والعزلة الشعورية هى النتيجة المنطقية لمن يعتنق مفهوم الاخوان المسلمين وهى أفكار تبنى على أن أعضاء الجماعة ليسوا مسلمين عاديين بل هم طليعة من الرساليين الذين امتلكوا الحقيقة المطلقة ويعملون على فرضها على “المجتمع الجاهلي” وبالتالي فإن شعور الانتماء للجماعة والاستغناء عمَّن سواهم يُصبح هو الموجه العام لسلوكهم .
وبالتالي فان فكر الاخوان فكر إقصائي عنيف لا يحتمل الاختلاف ولا يرى في الآخر سوى انسان خبيث يجب التخلص منه، وقد عايشنا ذلك بالتجربة في حكم الاخوان المسلمين وفي فلسطين وغيرها .
ولا تتردد  الجماعة في “تمكين” أفرادها من كل مفاصل الدولة والمجتمع وإقصاء الآخرين فقط بحكم كونهم ليسوا أعضاءا فيها، فهم قد تربوا على نهج الطاعة المطلقة الذي يُعاقب كل مختلف معها بعنف، ولا يسمح بتعدد الآراء والأفكار ويتم التحكم في جميع شئون العضو باتجاهاته واختياراته الشخصية، وهو ما يتعارض كليا مع الممارسة الديمقراطية .
الأفكار الأساسية للإخوان لا مكان فيها لمفهوم “الوطن”، فالعضو يتربى على مقولات سيد قطب التي تنكر الوطنية ولا تعترف بأية رابطة سوى رابطة الإسلام، وهو القائل : (لا رابطة سوى العقيدة، ولا قبول لرابطة الجنس والأرض واللون والوطن والمصالح الأرضية والحدود الإقليمية إن هى إلا أصنامٌ تعبدُ من دون الله)، فالوطن عند الإخوان ليس سوى محطة عابرة لكيفية انتقال الجماعة من واقع الاستضعاف إلى قوة التمكين، حيث تبدأ بالفرد ثم الأسرة ثم المجتمع ثم الدولة ثم الخلافة الإسلامية وأخيراً العالمية .
الجماعة تتبنى مفهوم “الحاكمية” الذي يعني لها حكم الله في الأرض، وما عداها هو حكم الجاهلية أو الطاغوت .
ان الطبيعة البشرية المتسلطة لجماعة الاخوان جعلت من الدين مؤسسة تصل بها إلى اطماعها وهو ما أدى إلى إفساد السياسة والمجتمع وتشويه الدين والدخول في صراعات وحروب طويلة .
أثبتت التجربة العملية فشلها الذريع في مصر والسودان وهو الأمر الذي ينذر الاخوان المسلمين في فلسطين بالوقوع في نفس المصير الذي واجهته جماعة الاخوان المسلمين بالسودان التي استحوذت على السلطة بانقلاب عسكري واقامت نظاما استبداديا بناءا على الأفكار التي عرضناها في المقال وكانت النتيجة تدمير البلاد والسقوط المدوي وانتشار النزاعات والحروب الأهلية .
ان الاستقطاب العاطفي الذي يثيره الإسلاميون حول العلمانية يعود بهم إلى المربع الأول في احتقار العقل منطلقا من عقلية المتاجرة بالدين ما يؤدي لجر الأوطان إلى صراعات عدمية بعيدا عن جوهر الصراع الحقيقي بابعاده السياسية والاجتماعية.
من هنا وجب عمل مراجعة شاملة لمفاهيم الجماعات الاسلامية، لأن الدين الاسلامي دين عدل يتقبل الأخر حيث قال تعالى (وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ ٱلنَّاسَ أُمَّةً وَٰحِدَةً ۖ وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ)، وهو دائما يدعوا للحوار حتى ما الأديان الأخرى (قُلْ يَٰٓأَهْلَ ٱلْكِتَٰبِ تَعَالَوْا۟ إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَآءٍۭ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ)، وقال ايضا (ادعوا الى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي احسن) .والايات في هذا الموضوع كثيرة .
تقوم السياسة على التعدد والاختلاف السياسي والتنافس بين القوى السياسية على أساس البرامج والأفكار والرؤية لمشكلات الواقع الاجتماعي والاقتصادي، ويمثل الاختلاف جوهر العملية الديمقراطية .
ان الدولة المدنية الديمقراطية هي كيان مادي لايتصف بالدينية ويقوم على اساس حق المواطنين المتساوي  ووظيفتها التجرد من اصناف الاختلافات العرقية والطائفية تلبية للمصلحة العامة لكل مواطنيها .
وفي النهاية يدعو الكاتب كل حركات الاسلام السياسي للسير على نهج حركة النهضة في تونس فهي نموذج يحتذى به، والكاتب لا يعادي ابدا الحركات الاسلامية، وهو يحمل شهادة دكتوراه في التاريخ الاسلامي .
والله من وراء القصد .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Social Media Auto Publish Powered By : XYZScripts.com