حي الشيخ جراح: الصمود والتحدي خيارنا الوحيد.. د. سنية الحسيني

تصاعدت هذا الأسبوع حدة الاشتباك والمواجهة والوقفات الاحتجاجية والتضامنية مع سكان حي الشيخ جراح في مدينة القدس المحتلة، الذي يشهد منذ عدة أسابيع إجراءات احتلالية متسارعة لطردهم من ديارهم. جاء ذلك التصعيد بعد أن أصدرت المحكمة المركزية الإسرائيلية في المدينة يوم الأحد الماضي قراراً يقضي بطرد ست عائلات فلسطينية جديدة من منازلها فوراً وسبع عائلات أخرى بحلول مطلع شهر آب القادم، والسماح للمستوطنين اليهود بالاستيلاء عليها. وإن تم تنفيذ قرار الطرد الآني الأخير تكون سلطات الاحتلال قد هجرت بالفعل ١٥ عائلة من الحي من أصل ٢٨ عائلة أخرى، مهددة جميعها بالطرد من منازلها تحت ذات الذريعة. وتحظى الجماعات الاستيطانية بدعم وتمويل من حكومة الاحتلال بهدف تعزيز البؤر الاستيطانية والوجود اليهودي في الحي الفلسطيني، وذلك بإقامة مستوطنة تضم أكثر من ٢٠٠ وحدة على أنقاض المنازل الفلسطينية فيها، ضمن رؤية أوسع تتمثل بمحو الخط الفاصل بين شطري المدينة المقدسة، وتمكين المستوطنين من التغلغل في قلب الأحياء الفلسطينية وتقليص عدد سكانها الفلسطينيين.

بدأت قصة حي الشيخ جراح منذ العام ١٩٧٢ عندما ادعت جمعيات استيطانية ملكيتها لأراضٍ في منطقة كرم الجاعوني بحي الشيخ جراح، سكنها فلسطينيون منذ العام ١٩٥٦، وهي تلك العائلات التي طرد بعضها بالفعل أو مهددة بالطرد اليوم من منازلها. وكانت الحكومة الأردنية قد منحت تلك الأراضي لـ ٢٨ عائلة فلسطينية، هجرت قسراً عن أراضيها المحتلة العام ١٩٤٨، بناء على اتفاق مع وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين (الأونروا)، تنازلت بموجبه تلك العائلات عن مستحقاتها ومخصصاتها كلاجئين، مقابل سندات لتملك تلك الأراضي بعد ثلاث سنوات من العيش فيها. بعد رفع المستوطنين لادعائهم، اضطرت ١٧ عائلة فلسطينية من بين تلك العائلات الـ ٢٨ لتوكيل محامٍ يهودي للدفاع عنها، لعدم إمكانية تكليف آخر فلسطيني بهذه المهمة في ذلك الوقت، والذي نجح بالفعل في منع إخلاء أربع عائلات منها. وفي العام ١٩٨٢ أبرم ذلك المحامي اليهودي اتفاقا، نيابة عن تلك العائلات الـ١٧، مع محامي الخصوم المدافع عن المستوطنيين اليهود يقضي بأن: «تدفع تلك العائلات الفلسطينية إيجاراً رمزياً مقابل بقائها في منازلها لمدة ٩٩ عاما». وتصر تلك العائلات على عدم موافقتها أو تكليفها للمحامي اليهودي بالتوقيع على هذا الاتفاق.

في العام ٢٠٠٢ نجح محامي المستوطنين باستصدار قرار بطرد عائلة الغاوي من منزلها في ذلك الحي، إلا أن العائلة نجحت في العام ٢٠٠٦ بالعودة إلى منزلها بعد تقديم التماس إلى المحكمة العليا الإسرائيلية. وفي العام ٢٠٠٨ صدر أمر إخلاء لعائلة الكرد من منزلها، كما صدر أمر مشابه بحق عائلتي الغاوي وحنون العام ٢٠٠٩. نجح الاحتلال بذلك لأول مرة بإرغام تلك العائلات الثلاث على الخروج من الحي، وأسكن المستوطنين، الذين ما زالوا هناك، بدلاً منها. في ذلك العام أيضاً، تقدمت جماعات من المستوطنين بدعوة لطرد عائلة الصباغ من منزلها، على الرغم من أنها من بين العائلات الـ ١١ التي لم يشملها اتفاق المحامي اليهودي. وفي العام ٢٠١٢ قررت محكمة الصلح الإسرائيلية أن اتفاق المحامي اليهودي يسري على جميع العائلات الـ ٢٨، وأصدرت بناء على ذلك قراراً بإخلاء عائلة الصباغ من منزلها، كما أصدرت قراراً بإخلاء عائلة شماسنة أيضاً العام ٢٠١٧.

منذ ذلك الوقت، وطوال تلك السنوات يصارع سكان حي الشيخ جراح وحدهم داخل أروقة محاكم الاحتلال وخارجها، فتوجهوا إلى المحكمة المركزية ثم إلى المحكمة العليا التي رفضت صراحة في العام ٢٠١٨ بحث قضية ملكية الأرض، وأصدرت قراراً نص على إخلاء الفلسطينيين لمنازلهم منذ شهر آذار العام ٢٠١٩. ورغم نجاح الفلسطينيين في الطعن بقرارات المحكمة وتجميدها أكثر من مرة خلال العامين الماضيين، ترفض المحكمة تغيير معطيات النظر في القضية. وتعطي المحكمة الإسرائيلية العليا للعائلات الفلسطينية المهددة بالإخلاء بعض الوقت للتفاهم مع الشركة الاستيطانية من أجل التوصل إلى اتفاق يقوم على أساس دفع بدل إيجار للمستوطنين بأثر رجعي، ومواصلة دفعه إلى أن يتوفى المالك الأصلي للمنزل، بحيث لا تنتقل ملكيته لأبنائه. وترفض العائلات الفلسطينية التعاطي مع مؤامرة المحكمة المتوافقة مع الشركة الاستيطانية، والتي تعد استكمالاً لما بدأه المحامي اليهودي منذ أربعة عقود، وإقراراً بملكية المستوطنين لتلك الأراضي. في المقابل، وافق الفلسطينيون بدلاً من ذلك على إيداع مبالغ بدل الإيجار في صندوق خاص تابع للمحكمة إلى أن يتم البت في قرار ملكية الأرض.

يتبنى القضاء الإسرائيلي منذ العام ١٩٧٢ الحجج التي يتذرع بها المستوطنون، بأن تلك الأرضي المهددة بالمصادرة في حي الشيخ جراح تعود ملكيتها ليهود اشتروها العام ١٨٧٦، أي قبل احتلال الشطر الشرقي من المدينة المقدسة العام ١٩٦٧. وترفض المحاكم الإسرائيلية البحث في قضية ملكية الأرض، وتستند بدلاً من ذلك إلى ذلك الاتفاق الذي وقعه المحامي اليهودي نيابة عن العائلات الفلسطينية الـ ١٧، والمطعون بصحته من قبلها. وتذهب المحكمة الإسرائيلية إلى أبعد من ذلك، بادعائها أن تلك الوثيقة تسري أيضاً على العائلات الـ ٢٨، بمن فيها تلك التي لم توكل ذلك المحامي من الأساس. كما تعتبر المحكمة أن عدم دفع تلك العائلات الفلسطينية الإيجار للمستوطنين يعتبر إخلالاً بذلك الاتفاق، ما يسمح بإخلائها من منازلها. ورد الفلسطينيون على تلك الادعاءات، بعدد من السندات، على رأسها وثيقة عثمانية جاؤوا بها من تركيا العام ٢٠١٠، تؤكد أن منطقة كرم الجاعوني تعود بالكامل لعائلة حجازي الفلسطينية، والتي يسكنها اليوم ٨٠ عائلة مقدسية. كما أظهر الفلسطينيون مرسوماً موقعاً من وزير المالية الإسرائيلي في حينه، صدر عن الكنيست العام ١٩٦٨، ينص على التزام إسرائيل باتفاق الأردن مع «الأونروا»، والذي يؤكد أن ملكية تلك الأراضي تعود لقاطنيها. بالإضافة إلى أن السلطة الفلسطينية تسلمت منذ أسابيع ١٤ وثيقة رسمية تتعلق ببناء الوحدات السكنية في ذلك الحي، تظهر تفاصيل الاتفاقية التي وقعتها وزارة التنمية الأردنية في حينه مع «الأونروا» لبناء الـ ٢٨ وحدة سكنية التي يدعي المستوطنون ملكيتهم لها.

يميز القضاء الإسرائيلي عموماً بشكل عنصري صريح في التعامل مع الفلسطينيين مقارنة باليهود. ويتضح ذلك في إطار قضية حي الشيخ جراح، إذ تعمدت المحكمة انتقاء البت فيها بالنظر إلى اتفاق مطعون بصحته، بدل النظر في القضية الأساسية والتي تتعلق بملكية الأرض. وحتى في إطار القضايا المتعلقة بملكية الأراضي بشكل عام، فإن جرائم القضاء الإسرائيلي بالتمييز العنصري لصالح اليهود تستند في الأساس إلى القانون الإسرائيلي نفسه.  بموجب قانون أملاك الغائبين الصادر العام ١٩٥٠، لا يسمح للفلسطينيين الذين طردوا من أرضهم بالاكراه العام ١٩٤٨، باستعادة ممتلكاتهم، حتى وإن امتلكوا سندات الملكية. في المقابل، ينص قانون الشؤون القانونية والإدارية الصادر العام ١٩٧٠ على أنه يمكن لليهود الذين فقدوا ممتلكاتهم في القدس الشرقية العام ١٩٤٨ استردادها. لا يكفي التصدي للاحتلال بالوسائل القانونية وحدها، لأن قانون المحتل ومحاكمه لم تنصف الفلسطينيين يوماً، بل تعد شاهداً ضده في أروقة المحاكم الدولية. إن إجراءات الاحتلال في قضية حي الشيخ جراح تنتهك بشكل صارخ القانون الدولي، وتعتبر جريمة من جرائم الحرب سواء تلك الممثلة بنقل السكان الفلسطينيين قسراً من أراضيهم ومنازلهم واستبدالهم بسكان لا ينتمون إلى ذلك المكان، أو من خلال قرارات المحاكم المنحازة، والتي تستند أصلاً الى قوانين تميز بشكل عنصري بين الفلسطيني واليهودي.

وليس هناك من حل أمام الفلسطينيين اليوم الا الحشد والتصدي للوقوف في وجه الاحتلال وإجراءاته  في حي الشيخ جراح بكافة الوسائل والأساليب. يبدأ ذلك بمواجهة إجراءات الاحتلال والتصدي لها على الأرض، وكما نجح الفلسطينيون في معركة البوابات الالكترونية حول المسجد الأقصى في الماضي وإغلاق باب العامود في شهر رمضان الجاري، سينجحون مرة أخرى في حي الشيخ جراح، وفي أي مكان يتحدى وجودهم، فمعارك الفلسطينيين مع المحتل اليوم باتت معركة وجود. كما أن على الفلسطينيين المضي قدماً للتحشيد عربياً ودولياً لفضح ممارسات الاحتلال، من خلال الشعوب العربية والعالم الحر ومؤسساتهم الرسمية وغير الرسمية. إن إطلاق نشطاء لحملة على الإنترنت باللغتين العربية والإنجليزية بعنوان «أنقذوا حي الشيخ جراح» يفترض أن تكون مقدمة لمزيد من الحملات بلغات العالم أجمع، تماماً كما الرسائل التي أرسلت إلى المجالس التشريعية في بريطانيا والولايات المتحدة لتعريفها بجرائم الاحتلال في حي الشيخ جراح، كمقدمة لمزيد منها. على الفلسطينيين وشركائهم ألا يتركوا منبراً إلا ويطرقونه، فلنزلزل الأرض تحت أقدام المحتل، ولْنَقُلها عالية كفى للاحتلال.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Social Media Auto Publish Powered By : XYZScripts.com