طريق الجنوب رواية لعثمان أبو غربية.. مهند طلال الأخرس

طريق الجنوب رواية لعثمان أبو غربية، والرواية تقع على متن 300 صفحة من القطع المتوسط،  وهي صادرة بطبعتها الثانية عن دار سمير الجندي للنشر والتوزيع في القدس سنة 2014.

الرواية غاية في الروعة والجمال، وهي ذات جمال أخاذ ومشوق، ومنبع هذا الجمال أسباب كثيرة: قد يكون احدها أن كاتبها هو المناضل المرحوم عثمان أبو غربية عضو اللجنة المركزية لحركة فتح وابن جناحها المقاتل العاصفة بالإضافة لكونه المفوض السياسي فيها، لكن الأهم والأساس بنظري أن الرواية جاءت تجسيدا حياً لسيرة المناضل والفدائي الأثير  من ذلك الزمن الفدائي الجميل عثمان أبو غربية، كيف لا وهو صاحب النهج الثوري الملتزم والفكر الخلاق والمسلك القويم، هذا بالإضافة إلى كون تلك السيرة التي يتداخل فيها الخاص بالعام قد أصبحت ملكا جمعيا يؤرخ ويوثق لمسيرة الشعب الفلسطيني ونضالاته وحجم الماسي التي تعرض لها.

الرواية جاءت سلسلة وبلغة بسيطة وجميلة وبعيدة عن التعقيد والتكلف، وتدور أحداثها حول واقعة اعتقال عثمان ابو غربية ومجموعة من رفاقه المقاتلين من قبل القوات اللبنانية الانعزالية المتصهينة في عرض البحر قبالة السواحل اللبنانية وهم في طريقهم بالبحر من قبرص الى صيدا للالتحاق بقوات الثورة في الجنوب.

تبدأ أحداث الرواية عند قرار عثمان أبو غربية بترك أسرته في الكويت والرحيل عنها بغية الالتحاق بقوات الثورة في جنوب لبنان والذي كانت قد اشتعلت فيه الحرب الأهلية منذ فترة، ومع ذلك يصمم عثمان ورفاقه على المضي قدما والالتحاق بقوات الثورة رغم المخاطر الجمة، وحصل ما يخشى منه الجميع، اعترض مركبهم في البحر دورية صهيونية ولحق بها دورية لبنانية تتبع الانعزاليين، ومن ثم تقتادهم الدورية للتحقيق معم في بيروت.

يعتقل أفراد عثمان ومجموعته في سجن تابع للكتائب، ويقرر افراد المجموعة مواجهة مصيرهم بايديهم، فيعدون خطة محكمة للاسئلة التي سيواجهونها في التحقيق، ويطلعون بعضهم عليها، ويتولى عثمان سد الثغرات التي تعتري حكاية ومبررات كل شخص من المجموعة حول اسباب قدومه للبنان في مثل هكذا ظروف.

تتطور الأحدات وتتابع، وتزداد حدة الاشتباكات حول مقر الكتائب وسجنهم، ويزداد القصف ومعه يزداد التعذيب لأفراد المجموعة، ومع ذلك تصر المجموعة على أقولها وعلى أسباب تواجد كل واحد منهم على ظهر المركب وبالتالي التأكيد على سبب قدوم كل واحد منهم للبنان.

 التحقيق لا يخلوا من المفاجئات، ففي اللحظة التي اعتقد عثمان مثلا انه نجح بتضليلهم وانه أقنعهم بروايته المحكمة ، عادوا وبأيديهم دليل جديد على عدم صدقيته، كان الدليل عبارة عن شهادات جامعية لقريب له من نفس العائلة وجدت في حقيبته، كانت هذه الشهادات دليل بأيديهم على عدم صحة اسمه وجوازه اليمني!

تتعقد الأحداث ويبرز شكل آخر للصراع والتحدي، وتبدأ لعبة أكل الأصابع، ومعها يبدأ التدبير ومعركة الأفكار وتصارعها وهزيمتها تارة وفوزها تارة أخرى، لكن الغلبة في النهاية ليست للعبة الحظ بقدر ما هي لقدر كبير من التفكير والتجهيز والتخطيط وحسن التدبير والقدرة على ضبط النفس وتجاوز حدود الخطر وصد المفاجئات والرد عليها.

ينجح عثمان ورفاقه بالصمود ويخضع لعملية تبادل للأسرى بين قوات الثورة والكتائب، لكن هنا تحدث المعضلة الأخرى؛ فالثورة كانت تبحث عن عثمان باسمه الحقيقي لإتمام عملية التبادل، ولم يكن عثمان اخبر الكتائب باسمه الحقيقي، فقد التزم بنفس الاسم اليمني المكتوب على جواز السفر الذي يحمله. هنا مكمن الحدث والحبكة، وهنا يحدث التعقيد، فمع قدوم الوسيط لاستلام عثمان أبو غربية وإتمام عملية التبادل يُنكر عثمان نفسه، وينكر اي معرفة له بهذا الاسم، ويصر على انه يمني وان اسمه الموجود على جواز السفر هو الصحيح، وتتعقد الأمور وتصعب المهمة أكثر.

تفشل المساعي للمبادلة لعلة عدم العثور على عثمان وعدم إقراره باسمه الصحيح، ويتولى الوسيط الذي قابل عثمان في المعتقل نقل تفاصيل ذلك اللقاء إلى قيادة الثورة، ولحسن الحظ والتدبير كانت قيادة الثورة قد انتبهت للرسائل المشفرة التي حملتها إجابات عثمان ردا على أسئلة الوسيط، وعليه تأكدت الثورة أن الشخص اليمني هو نفسه عثمان، وان اعتبارات وظروف معينة أملتها طبيعة المعركة حتمت على عثمان ورفاقه أن يستخدموا أسماء وجوازات مزورة، وعليه يتقرر جولة جديدة للوساطة ومقابلة عثمان بالمعتقل، ويتم التأكد من شخصيته وهويته ويتم الإفراج عنه دون باقي المجموعة، وهو ما دفع بعثمان للاستمرار بحملته حتى إطلاق سراحهم جميعا وعودتهم إحياء، وهذا ما تم بالفعل بظروف صعبة وغاية في التعقيد، إلا انه تم في النهاية، وتمكن معه عثمان من مقابلة ابو مروان زميله ورفيقه في الأسر بعد إطلاق سراحه والذي قال له :”علينا مهما تعقدت الظروف أن لا نفقد طريق الجنوب” ص 298.

الرواية سيرة وشهادة حية على الزمن الثوري الجميل، ومن شخص شهد له الجميع بتوقد الفكر ونقاء السريرة، وانه من قامات النهج الثوري السليم والملتزم بفلسطينيته وفتحاويته حتى النخاع.

الرواية لم تقتصر على إحداث الاعتقال والتعذيب والتحقيق التي تعرض لها عثمان ورفاقه، بل كانت مليئة بالاستدعاءات والاضاءات على كل الظروف والمحطات التاريخية التي عايشتها الثورة في محطات سابقة، بل أسهب الكاتب وهو يربط أحداث الحرب الأهلية في لبنان مع سابقتها وشبيهتها أحداث أيلول الأسود في الأردن، وهذا الربط كان موفقا جدا، ومن خلال هذا الربط تحدث الإسقاطات واستعراض كثير من الحوادث والظروف المشابهة، والتي أدت كلها لنفس النتيجة الكارثية والموجعة حد النحيب والتي تمثلت بالهاء الثورة وأشغالها عن هدفها، وتجميع التناقضات بداخلها ومن ثم تفجيرها، وطردها من عمقها العربي المؤازر ووضعها في صلب واقع كاره ومبغض وطارد لها، والاهم من هذا كله أن مجمل هذه الأسباب أدت إلى النتيجة المرجوة للعدو الإسرائيلي وأعوانه بإخراج قوات الثورة الفلسطينية من الأردن ولاحقا من لبنان وتشتيتها وتمزيقها على امتداد الساحات العربية بعيدة المدى .

في هذا الكتاب أو الرواية أو الشهادة -لن نختلف على الاسم والتصنيف- نماذج لعديد من التجارب والدروس الثورية التي تستحق ان تُدّرس لكل الكوادر وان تكون نمذجا لدى كل المدارس التنظيمية والحزبية، فالفكرة هنا مقرونة بالسلوك والعمل، وهذا اهم ما يميزها ويميز سيرة صاحبنا؛ إذ أن مجموع الأفكار الثورية والفلسفية المطروحة في الرواية أُلحِق بها مباشرة أو عبر صفحات وأحداث لاحقة نماذج من العمل الميداني المواكب لها والمُصدّق والمترجم لما ورد بها، وهنا أيضا تبرز عظمة هذه الأفكار ومصداقية صاحبها ومدى التزامه بالنظرية والتطبيق عند الممارسة السلوكية، وهذا بالذات ما يميز الثائر الحق والمتطهر، وهذا هو حال صاحبنا.

هذا الكتاب من سلسلة الكتب النادرة والتي تفتقر لها مكتبتنا الثورية الفلسطينية، فهذا الكتاب وحجم الدروس المستقاة منه والتجارب الثورية الواردة فيه؛ تقشعر لها الأبدان وتجري معها كثير من الدمعات، لكنه حتما يجعل الخطوات تسير بكل إقدام وعنفوان نحو حدود الوطن….

في هذه الرواية تجد ذلك الفدائي البطل الذاهب ليقطع النهر ويقطع معه كل الخوف من كل تلك الرصاصات التي تأتينا دائما من الخلف…، ذلك الفدائي وأمثاله ذاهب ليعبر كل الحدود والأسلاك الشائكة التي تفصلنا عن أقدس بقعة في الكون.

هذه الكتاب كصاحبه يبقى اثره ولا يزول…

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Social Media Auto Publish Powered By : XYZScripts.com