في تجربة الشاعر الفلسطيني د. معين جبر .. بقلم/ شاكر فريد حسن  

د. معين جبر واحد من الشعراء الفلسطينيين الذين عرفناهم منذ السبعينات، من خلال قصائده المنشورة في الصحف والمجلات والدوريات الأدبية والملاحق الثقافية التي كانت تصدر في حينه في المناطق الفلسطينية الواقعة تحت الاحتلال.

وهو تجربة شعرية مهمة في المشهد الشعري الإبداعي الفلسطيني، وقصائده تتميز بالجدة والرصانة والرشاقة والجمالية والحرارة والصدق العفوي والتعبيري، وحين تقرأ له لا تريد أن تنتهي. وكان الشاعر الفلسطيني الراحل سميح القاسم قد تنبأ له مستقبلًا زاهرًا في مجال الشعر والقصيدة، وقال انه سيكون من كبار الشعراء، وهذا ما نلمسه بالفعل الآن.

عاش معين جبر طفولته في مخيم بلاطة بنابلس، وتعلم في مدارسه، ونما وترعرع بين أزقته، وكتب أولى تجاربه ومحاولاته الشعرية وهو طفل في المخيم، الذي يعتبره قاعدة لانطلاقته الأولى والجدية نحو الحياة والمشاركة في الفعل الأدبي والثقافي والعمل الوطني والطلابي والأهلي والنضالي.

عرف معين جبر عذاب السجون والمعتقلات والزنازين الاحتلالية، حيث أمضى سنوات طويلة وراء القضبان والاغلال، وكتب قصائده بحروف لاهبة وحارة ومضيئة على جدران الزنزانة. وقد عرفته ساحات وميادين النضال والكفاح والمقاومة، ومهرجانات الشعر والأدب، ومجالس الطلبة. وهو شاعر جامعة بيت لحم أيام الزمن الجميل، حيث الروح الثورية والعمل التطوعي والنشاط الوطني النقي والعطاء الأدبي البعيد عن النرجسية والشهرة الرخيصة، والمساهمة بإخلاص في إرساء حالة ثقافية إبداعية نضالية مناهضة للاحتلال، كانت تتوهج آنذاك في سماء الوطن الجريح والذبيح.

وهو الإنسان البسيط المثقف المتمرد والمشاكس بشطحاته الفكرية ومواقفه الوطنية المغايرة والمختلفة، والشاعر الجميل الأنيق بحروفه الندية وكلماته الشفيفة وتجربته الغنية.

كتب معين جبر عن الأرض والوطن والوجع اليومي والمخيم الفلسطيني، وصور المعاناة الفلسطينية في ظل الاحتلال، ونسج من كلماته قصائد حب لفلسطين، يسافر فيها الوطن بتفاصيله ووديانه وحقوله، ويجعلنا لا نسافر ونبتعد عنه، بل يبقى يسكننا، ومعنا في الحضور والغياب والمنافي القسرية، لا يتغير أبدًا. إنه حقًا يرسم بحروفه وكلماته الحارقة وإحساسه المرهف الصادق أعظم وأبهى جدارية على صدر وقلب الوطن، ويصوغ جملته بلغة شعرية وشاعرية متقنة ومحكمة البناء، ولا اغالي إذا قلت إنه أحد مبدعي الوطن الفلسطيني الذين أتقنوا النحت الإبداعي وأجادوا رسم لوحة الوطن والحرية.

لنسمعه يقول في هذه القصيدة السياسية الرائعة:

أنا التاريـــــخُ إنْ نَزَفَتْ صَحائِفـُـهُ

بلـَـوْن ِالـــــدمّ ِ أكـْتـُبـُــــــهُ لِيَزْدانا

سَـلُوا مَنْ كانَ في الماضي أباطِرَةً

وَكانَ المَجْدُ فَجْرَ الشّرقِ قد كـــانا

أنا العَرَبيُّ في (قــُدْسِي) تـَراتيـــلٌ

وَفي صَوْتي نـَشيجُ الأرض ِ ألحَـانَا

أنا (القُدسيُّ) إنْ مَاتَتْ عُروبَـتـُـــهمْ

وأمْرَكـَهـَا (غـَبَاشُ*) العَيْن ِ ألـْوانـَـا

فـَلا (ترمبٌ) (نِتِنْياهــو) ولا (ليـزا)

وَلا (نيرون) لا (شـَيْـلـُوخُ) خـُلدانـا

أبا التاريـــــخ خـُذني فـَوْقَ ساريَة ٍ

إذا لـَـفـَحَتْ ريـاحُ الغَربِ(أقْصَــانَا)

جَماجمُنا لهـذي الأرضِ خارطــَــــةٌ

تـُشـَكـِّـلـُنا! وَيَبْقَى الشَّكـْـلُ كـَنـْعَانـا

معين جبر قامة شعرية سامقة، وقلم مجيد ورصين، يمتلك أدواته الشعرية والفنية، وصاحب تجربة كتابية ثرية، ويتناول في شعره أنساق وموتيفات وموضوعات إنسانية ووطنية ووجدانية وسياسية وتاريخية، بلغة جزلة وعميقة، وقصائده متعددة الرؤى، مكتنزة ومكتملة ومزدحمة بالصور الشعرية الخلابّة المبتكرة، ومفعمة بالدهشة، ومتدفقة ونابضة بالحس الوطني والمشاعر الوطنية والوجدانية والعاطفية الجياشة، وهي حالات عشق تنضح بإرهاصاته اللغوية والإيقاعية المميزة، وتنتفض فيها روحه الإنسانية وهواجسه الفلسطينية، في خيال شعري واسع وخصب، يتعدى حدود الزمان والمكان، وبشفافية واتزان.

وباختصار يمكن القول، ان شاعرنا د. معين جبر فارس كنعاني وجواد شعري في محراب الكلمة الشعرية الملتزمة النظيفة المقاومة والمبدعة، حاملًا لرسالة الوطن، ومقاتلًا على الجبهة الثقافية ودروب الحرية لإنجاز المشروع الوطني الفلسطيني، وكل من يقرأ أشعاره يحس ويتذوق طعم آخر للكلمة، ونكهة أخرى للشعر على مستوى العمق ومتانة العبارة والصياغة والكثافة الشعرية واللحظة الشعورية، مشتبكًا مع الحياة، ممسكًا بتلابيبها، زاخرًا بالفعل والحركة والصراع، أو ليس هو القائل:

مَا زلْتُ أكْتُبُ في الجَمَالِ مَشاعِري

حَتًى سَبَتْني في القَصيدَةِ خَاشِعَة

راوَدَتُهَا في الشًـعْرِ بَعْض سَـرائِري

قـَالـَتْ رُويـْدكَ قَـدْ أتَيْتــُكَ راكِعـَة

خُـذْني إليْـكَ فـَإنً صَـدْركَ سَاتِري

إنً الحَـدَائـِقَ في سُــهُولِكَ يَانـِعَة

ألف تحية للصديق الشاعر د. معين جبر، عضو اتحاد الكتاب والأدباء الفلسطينيين، وعميد كلية التربية بجامعة بيت لحم، متمنيُا له مزيدًا من العطاء والتألق، وله الحياة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Social Media Auto Publish Powered By : XYZScripts.com