إضاءات في التجربة الأدبية للشاعر ياسر حرب.. الكاتب والباحث/ ناهـض زقـوت

بدأ الشاعر الراحل ياسر حرب الفقعاوي تجربته الشعرية متأخراً، إلا أنه استطاع أن يترك بصمته في المشهد الثقافي الفلسطيني بعد أن نشر ديوانين من الشعر، ديوان “ممر السماء” عام 2015، وديوان “أنا من يسكن اسمي” عام 2017، ونصوص “كعب غزال” التي بين أيديكم كتبها قبل رحيله، وديوان “قصائد بطعم النعناع” لم ينشر، وما زال في الأدراج قصائد عديدة لم تنشر أيضاً.

ديوان/ ممر السماء:

حين كتبت يا أبا شرف ممر السماء كنت تعلم أنه ممر اجباري، يخوض غماره كل حي، فدعوت الأصدقاء أن يكتبوا على قبرك ما قاله “الفريد دي موسيه”: ” أصدقائي الأعزاء عندما أموت/ اغرسوا في المقبرة شجرة صفصاف/ أنا أحب أوراقها الكئيبة/ فشحوبها لطيف، عزيز على نفسي/ وظلها، سيكون خفيفاً على التربة التي سأنام فيها”.

يا صديقي، هل كنت تبحث عن دروب اليقظة في ممرات الخيال، لم تكن ممرات خيال بل كانت حقيقة، واستسلمت طائعاً لها، ولكن لم يسقط الحب من بين يديك، فما زالت حصاك لا تعكر نهراً، ولا تكسر مرايا الماء، ومهما ابتعدت سيبقى البدر مكتملاً في سمائك، وما زلت معلقاً بين المصب وحديث الدراق.

ورغم جبرية ممر السماء إلا أن قصائد الديوان الثمانية والخمسون كانت تحاول الاقتراب من الذات الحالمة بالحرية (لعلني آتيها بالبحر قوارب وأشرعة)، فشاعرنا من شعراء جيل نكسة حزيران، هذا الجيل الذين درجت طفولتهم وتفتحت مداركهم وترعرع شبابهم على تربة مليئة بالمتناقضات والصراعات، وما رافقها من ألم وجوع وحرمان، وقلق نفسي وغربة ورحيل دائم بحثاً عن الذات في غمرة بحث الفلسطيني عن وطن من أجل بناء المستقبل. لذا كانت يافا الحبيبة التي امتلكت خياله، فيحن إليها بالخيال والقصيدة يقول: ما زال البحر يغني على أطراف شعرك/ والنورس يرسم علامات الولادة الآتية/ مع أشرعة البحارة/ إليك يافا…. أحن إليك يا سيدة الكلمات/ يا قبلات المنتحرين في فضائك/ أحن إليك يا لحناً غنته جراحك/ تعالي إلي يافا/ وخذي من يدي القناديل.

ونجد أن دلالات يافا حاضرة بقوة في قصائد الديوان: فلا تكترث إن صفعك البرتقال بالطرقات العارية/ سجل حضورك في حضرة الذات واملأ رئتيك بطعم العتيقة حتى تنفجر.

أنا حبيبها/ جمعت الحصى بين أصابعي/ رجمت المسافة بالمسافة/ قرأت خاتمتي/ واعترفت أني أحبها.

وقد رسم الشاعر بالكلمات ملامح الغربة عن يافا، فوجع الغربة يغير من شخصية الإنسان حين يفقد هويته ووجوده المادي ويصبح مجرد اسم، دون صفة أو ملامح، ينتقل من مدينة إلى مدينة لعله يجد الأمان، إلا أنه لا يجد غير الوجع. يقول في قصيدة (توبة): أصبحنا في الغربة أسماء/ يحملنا الوجع أوراق خريف/ إلى مدن الوجع.

ويغوص في التاريخ والميثولوجيا ليعيد تشكيل حكاية الوطن الذي سربلوه بالوهم والتزييف، فنكتشف معه أن (الهدهد لا يكذب) بل التوراة هي الكاذبة لأنها زيفت التاريخ والحق الفلسطيني. وثمة من صدق الوهم واستسلم (وأنت ما زلت تلهث وراء من سكبوا/ العجل/ ثم قالوا لك أنه الله/ فركعت.

لقد حمل الديوان دفقة كبيرة من الحنين إلى المكان، فكانت بيروت التي احتضنت الثورة الفلسطينية التي أمن الشاعر بخطها الكفاحي لتحرير يافا. بيروت التي تمزج الكلمة مع الرصاصة، وفيها ميلاد المطر، وأغنيات الفجر، وعلى عتباتها سارت الملائكة، ترش النور على شوارعها القديمة، وتمنح الجبل ابتهالات مقدسة. بيروت، روح السماء/ وسرة الغيم/ وسر الحكاية.

وفي غمرة الحنين لم ينس الواقع الذي يعيش فيه، فنجد غزة تسكنه وتسكن لغة القصيدة بآلامها وأحزانها وموتها البطيء، في قصيدة (المشهد) نجد الحرب مكروهة لديه، إلا أنه يتساءل عن القاتل، الذي يرفض تنفيد الوصايا العشر التي تبدأ بأن لا تقتل، إلا أنه يقتل بكل شراسة ودموية، يقول: (قصفتنا الطائرات وقت الظهيرة/ فتناثرت هي أشلاء/ وبقيت أنا بلا أطراف) والشهداء يتساقطون، والملائكة تندب قتلى المجزرة، ولم يؤمن بنصر يأخذ حصة من دم غزة. ويرسم صورة العشق التي تجمعه مع غزة: أنا وهي حبيبان/ وما زلنا حبيبين/ رسمت على الدخان شعرك المقاوم للريح/ وأصابعك تمتد عبر الأغاني/ تعالج قمري المصاب بحمى الشظايا/ …/ سأكتب آخر الأنفاس على بدن الرصاصة/ أنا وهي عشق لا ينتهي/ لن تفنوا حبيبتي/ أنا وغزة فوارغ الطلقات/ محشوة بالياسمين.

ديوان/ أنا من يسكن اسمي:

إن أصعب ما ينتاب الشاعر الإحساس بالغربة، رغم أنه يعيش بين أهله وصحبه، إنها غربة الذات النفسية التي أفرزتها جراحات الوطن، وتتعمق في داخله غربة الضياع والتمزق، لذا يبحث في القضية عن جدليات الحياة، وحين يعجز عن إجابة السؤال يبحث عنه في جسد القصيدة. يقول: الوجع غريب/ حين يمد لسانه مع المطرة/ وكأنه ذراع عاشرة للغمام/ يلعق الباقيات من أنثى اللوز/…/ يغزو كل مفاصل السؤال/ يبحث في جسد المعنى حين تغيب الرغبة.

وتبقى الحرية ديدن الشاعر، والباحث عنها في البحر، فللبحر دلالات متعددة ومتباينة، فالبحر بالنسبة إليه حياة/ وموت/ وحرية/ وانكسار/ وشموخ/ وحب/ وكره/ وشهوة.

يأتي هذا الديوان برؤية مغايرة عن الديوان السابق، فيه الألم والحنين، والاتكاء على البعد الديني فيما يعرف في الأدب بالتناص، فالتناص الديني يغزو القصيدة لديه، نقرأ:

ــ انظر جيداً للقميص/ من قده من قبل/ أو من دبر لا فرق. (أحبك أكثر)

ــ رأسك لن يصل السماء/ لتسترقي غنائي مع الملائكة/ ولن تنالك شهبي الثاقبة. (سمكة بخيلة)

ــ تستحضر النخلة/ تهزها وتنام بجوار الرطب/ تنتظر صغيراً/ يكلم المتسولين. (كانت العذراء).

ــ فادخلن مساكنكن أيتها النملات/ لا يحطمنكن بطشها. (لا ألومها)

ــ لا تصرخ/ لن يركب معك القارب/ فقد علم بأنه دفة بالية نخرتها المسامير. (تصرخ)

ــ ما عاد كبش يتنزل من السماء/ ليفتدي أصابعك العشرة. (مدينة التفاح)

إن التناص الديني الذي استخدمه الشاعر يبرز ملامح التأثر لديه، ويعبر عن منابع القيم الفكرية والروافد الثقافية التي استند إليها في تشكيل القصيدة، وتنعكس بالتالي على شخصيته ورؤيته للعالم. فالتناص يمثل عملية إثراء وإغناء للقصيدة بقيم دلالية وجمالية متعددة، فقد وظفه الشاعر في قصيدته بما يخدم النص ويمنحه إضاءات واسعة ودلالات عميقة، ويكشف عن قدرة الشاعر على التجديد والإبداع في القصيدة، وهذا ما لمسناه لدى شاعرنا في هذا الديوان.

نصوص/ كعب غزال:

يقول الشاعر ياسر حرب: أبي مات صغيراً، وأمي كذلك، أظن أننا نموت صغاراً.

إن فكرة الموت سيطرت على تفكير الشاعر ورؤيته للحياة، وذلك بعد أن اشتد عليه المرض في الفترة الأخيرة يقول: (أنا المصاب بلعنة السكر وسوء النظر) ويقول أيضاً: (تباً للألم يتصيدني يقاسمني الليل نصف لي ونصف له، كتفي ليس ملكي الآن، مرهق مثل ساقية تدور حول عجلها)، لذا تكونت غيوم الموت أمامه في كل لحظة، وكان يتوقع الموت في كل لحظة (فأنا الميت منذ ليل)، لهذا يتذكر أن والده مات صغيراً، وكذلك أمه، فلماذا لا يموت هو أيضاً صغيراً، كأن الموت بالنسبة له أصبح وراثياً. وأصبح يناجي المرض أن يقتله بهدوء لكي يخلصه من عذابه: (افعلها وخلصني فلا عليك).

إن رسوخ فكرة التلازم بين الألم والحياة جعلت شاعرنا يقرأ في صفحة الغيب موته، ويدرك عبثية الحياة (لم أكن منكسراً كما أنا الأن، تأكل الطير من رأسي فتات الذاكرة وعيدان القرفة)، وقد مات مبكراً كما تنبأ قياساً بأبناء جيله (فهو من مواليد عام 1969).

والحديث عن الموت يخرج شاعرنا من دائرة الواقع إلى دائرة الخيال، وتتفتح أمامه مدارك مختلفة توصله في النهاية إلى وحدة العلاقة بين الحياة والموت (القذيفة التي فتحت شباكاً آخر في جدار البيت، رأيت منه الله وغيمة بين جثتين، أما قدمك التي بترت بفعل قصف الطائرة ذهبت للنهر تمنحنا طهارة المنتصر).

لقد حملت رؤية الموت في نصوصه بعداً فلسفياً لجدلية الحياة والموت، ونظرة مغرقة في التصوف والتأمل، يقول: (باتت الكمنجات وحيدة في حضرة التسابيح، وأنا المتصوف في ابتهالات المدينة، أحمل الحب قمراً من ورق فوق مآذن البحر).

إن فكرة الموت لدى شاعرنا متعددة الرؤى والاتجاهات، فهي تنطلق من الاحتلال وضياع الوطن، ومعاناة الناس، وتغيرات الحياة والإنسان، وذكريات الطفولة، وفقدان الأصدقاء، وارتقاء الشهداء، والعدوان المستمر على أبناء شعبه، واغتراب شعبه في المنافي، كلها دلالات بنيوية تشكل المحور الرئيسي في نصوص كعب غزال، نقرأ:

ــ قصف غزة بقاذفات الموت، تجعلك ترى الله، أي كأنك ذاهب إلى الموت، وحين تبتر القدم، فهذا يعني طهارة المنتصر.

ــ كنت صغيراً أحب بعفوية الحمام .. أتسلق جدران مدرسة البنات كاللص .. أحاول أن اختلس أي شيء يدل على أثر حبيبتي.

ــ قف أمام نفسك يا صديقي، انظر في مرآة أيامك، هل تبدل عليك شيء؟ ألست ابن المخيم وغرفة القرميد، ألست ابن الأزقة الضيقة والشوارع البائسة التي لا تتسع لمرور جنازة، ألست ابن الفقر والعتمة والحرج، القماش المحوك من كيس الطحين المسوم بشعار وكالة الغوث.

ــ اسمه محمد .. حاد كالسيف .. جميل كالقرنفلة … لم يعد هذه المرة كعادته مغبر بل جاء محمولاً على الأكتاف، مغطى بدماء بلون القرنفلة، اختار أن يكون رسالة مفتوحة في كفن مغلق إنه الشهيد محمد سليمان الفقعاوي.

ــ لم تكن مدينتي آخر المدن التي غرقت في الحرب، وتنفست الحياة من ثقوب جواربها … شوارعها من رمل وحصى، حين كنا نركض خلف ذاتنا حفاة، كانت الحصوات أكثر حناناً على أقدامنا من حذاء لا نعرف شكله، ولا نعرف كيف تعزف المزامير، فيمل منا النفخ فيخرج على شكل نحيب.

في الختام أقول ما قاله الراحل ياسر حرب: حياتي كالبرتقالة لا تشبه غيرها بالحديقة، لكنها تشبهني، لونها، طعمها، رائحتها، لحظة سقوطي من الأغنية. أما موتي، لا يشبه التفاحة.

نعم يا صديقي موتك لا يشبه التفاحة، بل أنت شجرة زيتون تعمر في الأرض والحياة. رحمك الله وطيب الله ثراك بشجرة صفصاف.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Social Media Auto Publish Powered By : XYZScripts.com