نوحي أمّ ساري واندبي !*.. بقلم/ يوسف ناصر*

          نوحي أمّ ساري واندبي! حقّ عليك لفتاك ساري أن تنضحيه بالدّمع وتضمّخيه بالقبلات! تلفّتي وانظري! تري دونك أخًا لك جاء من أقصى مسافات الأحزان من الجليل ليسكب في نهر دموعك الموّار أدمعًا حمراء عليك قبل أن يسكبها على ساري! وما حروفي التي جاءت معي تذرف دمعها نارًا معك سوى تلك الجمرات التي انحنى لأجلها القلم وتلقّطها من تحت لجّة النار في صدري لينثرها أوراقًا من قلبي على الورق!

                 رأيتك أمًّا مجنونة بل عاصفة من لهب متوهّج في الهشيم اليابس تميل بها الريح تارةً يمنة، وتارة يسرة ، تصرخين وتلطمين وتندبين وتذرفين وتنحنين وتضمّين ساري ملاكًا مقتولًا وضعتْه أجناد الشر بين يديك! مثَلُك مثَلُ لبؤة ضارية انتزعت عصابة من الضّباع من بين يديها شبلًا من أشبالها، وسارت به أمام ناظريها تمزّقه وتعفّر عظامه فوق التراب!

                    وقفتُ يا أُخيّة أنظر إليك من بعيد.. عجبت إذ لم أجد سوريّا وطنًا لك! بل رأيتك وطنًا لسوريّا وضعتِها تحت أضلعك، وقد قدّمتِ لها قلبك مسجًّى في ثياب ساري!  أنت يا أُخيّة أمّة عظيمة في أمّ..! ووطن كبير في امرأة..! وإنّ أمّة في قامتك تجعل قلوبها أوطانًا لبلادها، وتطعمها من لحمها، وتسقيها من دمائها، لا تستطيع أبواب الجحيم أن تقوى على هذا الوطن يومًا ما دامت فيه امرأة في قامتك من سلالة ملكة تدمر، ومن طينة أوغاريت، ومن ذرّيّة ذات القرط مارية جدّة أبناء جفنة من آل غسّان في جلّق!

            حسْبك شرفًا أمّ ساري أنْ جاءك الشّرف هذه المرّة من نعمة الموت عليك بأنّ ابنك شمعة أطفأتها رياح الظّلمة حين هبّت في سوريّا ليكون بموته مصباحًا يضيء من زيت دموعك سماء بلادك، ويشع منه نور أمّ زكا أصلها ونما فرعها على تقديم القرابين والأضاحي للأوطان من كلّ غصن نضِر وأُملود غضّ من شبانها الأماجد وأطفالها الأبرياء أحبّاء السيّد المسيح في هذا العالم!

             لا تجزعي أم ساري! لقد أراد السّيّد المسيح له المجد أن يمجّدك ويمجّد ساري حين اختاره أيقونة مع كلّ أطفال سوريّا ممّن تبعوه على الصّليب من أجل الحقّ، وحين جعلك تبكين عند صليبه، وتتشمّمين عطر دمه المسكوب على جسده على غرار العذراء مريم عند سيرها وراء ابنها إلى الجلجلة! بل افرحي وابتهجي إذ جعلك بعد ألفي عام واحدة من حاملات الطّيب، وقد خرجتْ بطيب دموعها وعطر نحيبها إلى القبر لتبكي السّيّد المسيح في شخص ساري، ذلك أنّ من أراد أن يرى السيّد المسيح يجده دائمًا في كلّ طفل وفي كلّ جائع وعطشان ومريض ومطرود ومظلوم في الأرض!

         اصبري يا أُخيّة وتجمّلي! إنّ الصّليب الذي رأيتُه يتدلّى من عنقك، وأنت تنحنين فوق ساري صارخةً، يدعونا دائمًا أن نقضي حياتنا مصلوبين وصابرين ومسرورين بآلامنا من أجل الحقّ، نحمله على ظهورنا في طريق الآلام الطويلة! وكلّما كان الصليب الذي نحمله ثقيلاً كانت شركتنا مع السّيّد المسيح في آلامه أعظم، فطوبى لك لِما حملت في حياتك وما تحملين في طريق الآلام إلى الجلجلة!

           كانت سوريّا ربيعًا زاهرًا بالأحلام والأماني يقيم أبناؤها تحت أشجار الحبّ الوارفة ، ويستظلون بأنوار الشّمس التي لا تغيب عنهم وراء الشفق ، وفجأة دجا الليل ، واستفاقت البراكين ، ونهضت الزلازل ، وعصفت الأعاصير، إذ عطس الشّيطان عطسة نتنة انتشر رذاذها في أرجاء سوريّا، وقد نشر فيها كلّ طواغيت الأرض، وأبالسة الدّنيا ليهدموا قلعتها العصماء حتّى لم تبقَ دولة من دول الشرّ في الأرض إلاّ وقد أقبلت تحمل خنجرًا مسمومًا تطعنها ، يسبقها إلى ذلك (ذوو القربى والرحم.. ) الذين أخذوها بذنوب حسناتها عندهم ، وما بذلته من معروف لهم، وما سكبته من دماء أبنائها، وخبز أطفالها من أجلهم !  هذا حظّ الشّرفاء والأحرار في العالم أنْ يعاقبهم معروفُهم دائمًا، وينالوا القِصاص من حسناتهم، والأذى من حصاد تضحياتهم دائمًا!

          … ذهب هيرودس وكلّ هيرودس في الأرض! وقد رماهم الله من أعلى عروشهم إلى أعماق الجحيم، وسقطت كلّ ممالكهم وزال سلطانهم بموتهم، ليبقى الطفل في بيت لحم دون ملوك الأرض كلهم ذلك الملك وحده الذي يحكم الدنيا بعد موته، ولا فناء لملكه إلى الأبد في هذا العالم!

   لا يضير سوريّا كلّ أسخريوطيّ يبيعها بثلاثين من الفضّة، ولا كلّ من ينكرها ثلاث مرّات قبل صياح الدّيك، إنّ عاقبة كلّ أسخريوطيّ في هذا العالم أن يموت شرّ ميتة، وكلّ ناكر جميل أن يبكي بكاءً مرًّا على ما جنت يداه وما فعل!

           لقد أراد السيّد المسيح بساري أن يشدّ أنظار العالم وأسماعه إلى عظمة سوريّا بعظمة أمّ طاهرة فيك تزِنُ بلادًا بأسرها، ويضيق الفضاء بنبلها! هي وطن في وطن تحمل للصبر تحت أضلعها جبالًا من حديد، وترسل ينابيع محبتها فُراتًا دفّاقًا من قلبها! يا سيّدة السّيّدات، ويا أمّ الأمّهات في العالم! ليتني كنت معك لأتلقّط عن التراب لآلئ دموعك، وأجعلها عقدًا سَنيًّا يليق بالشمس أن تضعه في عنقها وتجري به حسناء تختال به لتضيء عيون العميّ ممّن لهم عيون ولا يبصرون في هذا العالم!

           سيري أم ساري وانظري خلفك، ولا تعجبي أين سرتِ أن تري وردة قد نبتت حيث وطئت قدمك! لأنك حديقة ورد من آس سوريا وياسمينها! تعزّي أمّ ساري! وافرحي وابتهجي إنّ أجرك عظيم إذ وضعت بساري أجمل ريحانة، وأطهر أقحوانة في إكليل مجد سوريّا، ورصّعتِ بأنفس لؤلؤة تاج المجد الذي يزيّن هامتها بين الأمم!

        أيّتها الأخت الحزينة! أستحلفك بساري أن تذهبي عنّي إلى ذلك الضّريح الذي تعطّره روح ساري، اسقيه عنّي كأسًا من دموعك، وتشممّي ذلك الثّرى الدّامي الذي تضمّخ من عبيره، وتنشّقي عبق المجد يفوح من ترابه، ثم قولي هناك بالله عني: نمْ في الثّرى المقدس أيّها القدّيس الصغير! نوّر الله ضريحك، وأضاءت الملائكة أبهى الشعلات على قبرك، وهنيئًا لك أن تخرج من ذراعيّ لتنام بين ذراعي أمّك سوريّا، وتغفو غفوة المجد في حضنها! كم من إنسان في الأرض تمنّى أن يبقى حيًّا مثلك، ويحظى بهذه الحياة الخالدة مع الأبرار والصّدّيقين في الأرض، وبينهم في الأخدار السماوية. آمين.

  كفرسميع

  6كانون الأوّل 2011

  • هي السيّدة جورجينا مطانيوس ساعود ــــ الجمّال من أهالي حيّ البياضة في حمص قتل الإرهابيون طفلها ساري.
  • يوسف ناصر أديب فلسطينيّ معروف ومحاضر للّغة العربيّة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Social Media Auto Publish Powered By : XYZScripts.com