إدوارد سعيد: قراءة في محاولات إعادة إحياء نصّ “الاستشراق” عربياً/ فادي أبو بكر

أعلنت دار الآداب للنشر في القاهرة يوم 27 تموز/ يوليو 2021، عن إعادة ترجمة كتاب “الاستشراق”       “Orientalism” الذي ألّفه الراحل إدوارد سعيد (1935-2003) عام 1978، بترجمة محمد عصفور وتقديم محمد شاهين[1].

وتُعتبر هذه الترجمة الثالثة عربياً، في حين تم ترجمة الكتاب إلى أكثر من عشرين لغة، منذ صدوره، في ضوء الاهتمام الذي حظي به عالمياً من قبل المُستشرقين والباحثين والأكاديميين والأدباء، من نقاشات وسجالات، أثارتها نصوص سعيد الخاصة بالإستشراق، والتي شكّلت ثورةً ثقافية ضد الهيمنة المنهجية والإيدولوجية للمؤسسة المعرفية الغربية. وتثير الترجمة العربية الثالثة تساؤلات حول الدوافع الكامنة وراء محاولات إعادة إحياء نصّ “الإستشراق” عربياً، ودلالات توقيتها، خصوصاً وأن الترجمتين السابقتين تعودان إلى العامين 1980 و2006.

الاستشراق 1978

شنّ الراحل إدوارد سعيد في العام 1978 من خلال كتابه “الاستشراق”، حملةً ثقافية مناهضة للإستشراق  باعتباره “منظومة استعمارية”، يُمثّل إطاراً متكاملاً يجمع القوى التي أدخلت الصورة النمطية التي تُريد عن الشرق في التعاليم الغربية والوعي الغربي، بحيث كان الاستشراق في حد ذاته نتاج قوى وأنشطة سياسية معينة.

وبحسب سعيد، فقد كان الاستشراق مدعوماً بضغط الثقافة الغربية العامة التي كانت تميل إلى المفاضلة بين بين الأوروبيين والجزء الآسيوي من العالم، وإظهار تفوّق الجنس الأوروبي. حيث مثّل الاستشراق الإرادة السياسية المفروضة على الشرق، الأضعف من الغرب، وقام بدمج الاختلاف والضعف في قالب واحد[2].

كما اتخّذ الاستشراق أشكالاً متنوعة ثقافية واجتماعية وحتى دينية، خاصةً عند مناقشة الإسلام  أواخر القرن التاسع العشر، حيث هاجم مستشرقون أمثال ليبولد فون رانكي وجاكوب بورخارت الإسلام، وانتقدوه ليس بتجرّد، وإنما من منطلق ثقافة دينية وسياسية غربية محضة[3].

ويمكن القول أن نصّ الاستشراق، كان بمثابة إعادة إنتاج لصورة الشرق، من خلال مواجهة المُستشرقين وجهاً لوجه، بحيث استثمر سعيد في الإطار الثقافي والاجتماعي والسياسي الشرقي الذي بلوره المستشرقون، ليُعرّي مرجعيته، ويُحيّد الصورة النمطية للشرقيّين.

ثلاث ترجمات عربية ( 1980-2021)

منذ تأليف كتاب “الاستشراق” في العام 1978، صدرت ثلاث ترجمات عربية ؛ الأولى لكمال أبو ديب وصدرت عن “مؤسسة الأبحاث العربية” في بيروت (1980) بعنوان “الاستشراق – المعرفة، السلطة، الإنشاء”، والثانية لمحمد العناني وصدرت عن دار رؤية بالقاهرة (2006) بعنوان “الاستشراق – المفاهيم الغربية عن الشرق”، والثالثة أعلنت عنها دار الآداب للنشر بالقاهرة لمحمد عصفور في 2021.

بحسب الكاتب العراقي شكيب كاظم، فإن كمال أبو ديب صاحب الترجمة العربية الأولى للاستشراق، لم يكن موفقاً في بعض المصطلحات والتعابير التي اجترحها خلال ترجمته، عازياً المشكلة إلى طبيعة اللغة العربية، التي تعتبر لغة تعبير عن مشكلات الفكر والحضارة المعاصرتان[4]. وجاء محمد العناني ليقدّم نفسه من خلال الترجمة العربية الثانية للنص، على أنه مترجم مفسّر، ينقل أفكار الاستشراق الى اللغة العربية بشكل واضح[5].

أما الترجمة الأخيرة لمحمد عصفور، فقد شرح فيها محمد شاهين الذي قدّمها، مدى صعوبة نص إدوارد سعيد، من ناحية الفهم المباشر والترجمة على حدٍ سواء. وتجدر الإشارة إلى أن شاهين كان قد أصدر كتاباً بعنوان “إدوارد سعيد رواية للأجيال”، ما يدلّل على مدى تأثّر القائمين على الترجمة العربية الثالثة بإدوارد سعيد وأفكاره.

الدوافع الكامنة وراء إعادة الترجمة

يرى المترجم الأميركي لورنس فينوتي أن النصوص ذات السطوة الثقافية، تكون أكثر عرضة لإعادة الترجمة، وذلك بسبب تفسير القراء المختلفين وفقاً لقيمهم الخاصة، وبالتالي تكون الحاجة لتطوير استراتيجيات مختلفة لإعادة الترجمة، وبالتالي إنتاج ترجمات تفسيرية متنافسة[6].

فيما يطرح بول بنسيمون وأنطوان بيرمان ما يُعرف باسم “فرضية إعادة الترجمة”، والتي تقوم على أن الترجمات الأولى يصاحبها الفشل بشكل كبير أغلب الأحيان، كونها ترفض تغيير النص المترجم وتكوين الإختصارات والتغييرات[7].

يبدو أن هذه الترجمة العربية الثالثة تأتي لإحياء الذكرى الثامنة عشر على رحيل إداورد سعيد، في شهر أيلول/ سبتمبر 2021، وتكريماً له، من خلال العمل بوصيّته المتمثلة في توفير ترجمات تُذلّل الصعوبات التي قد تواجه القارىء العربي[8]. وقد يكون الهدف من إعادة الترجمة، تحسين جودة الترجمة، أو رغبة المترجم في عمل إعادة تفسير مبتكرة للنص، خصوصاً وأن الترجمة العربية الأخيرة 2006 قدّمت الإستشراق بلغة عربية معاصرة دون الالتزام الكامل بالنص الحرفي لفكرة الكتاب[9].

ولا يمكن قراءة أبعاد عملية إعادة الترجمة العربية دون الأخذ بالحسبان المرحلة الزمنية، والسياقات الإقليمية والدولية المرتبطة، خاصةً في حقبة الرئيس الأميركي الأسبق دونالد ترامب ( 2017-2021). ففي مقابلة أجرتها محطة “إتش.بي.أو.” التلفزيونية مع جاريد كوشنر، صهر ومستشار ترامب، وأحد مصممي ما عُرف بـ “صفقة القرن”، بتاريخ 3 حزيران/يونيو 2019، قال: “أن تخلص الفلسطينيين من الاحتلال طموح عال وغير متأكد من قدرتهم على حكم أنفسهم[10]“. ويأتي هذا التصريح في إطار محاولات إعادة تصنيع الاستشراق والترويج لفكرة مفادها أن الهوية الإسرائيلية والأميركية متفوقة على الشعوب والثقافات الأخرى وتحديداً العربية والفلسطينية.

وفي نفس السياق شنّ جيسون جرينبلات مبعوث ترامب في الشرق الأوسط وأحد صناع “صفقة القرن” هجوماً على السلطة الفلسطينية؛ متهماً إياها بالفساد، وبأنها السبب في واقعها الذي تعيشه اليوم. تصريح آخر يصب في نفس البوتقة، وكما تعامل المستشرقون مع الشرق، تعاملت إدارة ترامب مع الفلسطينيين، فقامت بوصفهم، وتقديم التقارير حولهم بطريقة توحي بأنهم بحاجة لمن يحكمهم، حيث أن الاستشراق الأميركي الجديد يهدف للسيطرة على فلسطين والمنطقة برمتها، واستبنائها، وامتلاك السيادة عليها.

وتأتي هذه الترجمة بعد تنامي الخطاب الشعبوي الاستشراقي الغربي بشكل ملحوظ في السنوات القليلة الماضية، وما تبعها من تطبيع العلاقات بين بعض الدول العربية والكيان الإسرائيلي، في مقابل تنامي نشاط حركة المقاطعة ضد الكيان الإسرائيلي. ما يقودنا إلى إفتراض استنتاجي مفاده أن هذه الترجمة هي محاولة لإعادة إحياء المواجهة الثقافية والمعرفية للمنظومة الإستشراقية من جانب، وتقديم تفسير أشمل لمصطلح “التطبيع” كما يراه سعيد، من جانب آخر، خاصةً وأن مفاهيمه ورؤيته ذات الصلة، ما زال يكتنفها حالة من الجدل والالتباس لدى الكُتّاب والقُرّاء حتى اليوم الحاضر.

خاتمة

على الرغم من مرور أكثر من أربعة عقود على إصدار كتاب الإستشراق لإدوارد سعيد، ما زال نص الاستشراق يمتلك سلطة ثقافية ضخمة في كافة أنحاء العالم. وعلى الصعيد العربي فإن محاولات إعادة إحياء هذا النص جاءت إستجابة لمتطلبات السياقات الثقافية والزمنية المرتبطة.

من جهةٍ أخرى، فإن هذه السلطة أو السطوة التي يتمتّع بها نص الاستشراق، نتج عنها إنشاء مدرسة خاصة بإدوارد سعيد، يسعى تلاميذها إلى تثبيت أفكاره ومبادئه في الثقافات المستقبلية، لتكون رواية للأجيال..

 

كاتب وباحث فلسطيني

fadiabubaker@hotmail.com

[1]  منشور  لدار الآداب للنشر، على على صفحتها على الفيسبوك، 27/7/2012: https://bit.ly/3kpNtFf.

[2] Edward W. Said, Orientalism, New York, Penguin Books India,1995: p.204.

[3]  Ibid, P.208.

[4]  شكيب كاظم، كمال أبو ديب مترجما «الاستشراق»: هل لغة إدوارد سعيد صعبة؟، القدس العربي، لندن، 8/4/2021.

[5]  جهاد فاضل، “الاستشراق” لإدوارد سعيد بين كمال أبوديب ومحمد عناني، صحيفة الرياض، 5/4/2007.

[6]Lawrence Venuti, Retranslations: the creation of value, Bucknell Review, Vol. 47, Issue 1, Jan 2003, p.25-38.

[7] Gambier, Y. La Retraduction, re Tour et de Tour, No.39, 1994, p. 413-417.

[8]  مرجع سابق، منشور لدار الآداب للنشر.

 مجد الدين خمش، إداور سعيد ونقد خطاب الاستشراق، جريدة الدستور الأردنية، 17/3/2017. [9]

[10]  صفقة القرن: كوشنر يقول الفلسطينيون يستحقون تقرير المصير ولكن غير متأكد من قدرتهم على حكم أنفسهم، بي بي سي عربي، 3/6/2019: https://bbc.in/3E5CppO.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Social Media Auto Publish Powered By : XYZScripts.com