11 يوم مات بعدها جمال عبد الناصر.. مهند طلال الأخرس

11 يوم مات بعدها جمال عبد النصر كتاب من القطع الكبير للدكتور يسري هاشم، ويقع على متن 214 صفحة، وهو من إصدارات مركز المحروسة للنشر والخدمات الصحفية والمعلومات في القاهرة سنة 2020.

الكتاب مذكرات تتناول بالسرد والتوثيق أحداث أيلول الأسود في الأردن سنة 1970 و1971 من خلال استعراض السيرة الذاتية والتجربة الشخصية للدكتور يسري هاشم في هذه الأحداث، والذي تشير سيرته الذاتية الى انه ولد في 29/11/1939، وتأثروجدانيا بثورة يوليو المصرية بزعامة عبد الناصر، وشارك في حرب 1956 في قوات الدفاع المَدني، وانتظم في العمل السياسي فعليًّا كعضو في تنظيم القوميين العرب السري، ثم أصبح عضوًا في التنظيم الطليعي الذي كان يتبنَّاه عبد الناصر، ثم تطوَّع في القوات المسلحة المصرية سنة 1967، فكُلِّف كملازم أوَّل في القوات البحرية أثناء حرب حزيران 1967، ثم تطوَّع للعمل مع الفدائيين الفلسطينيين بالأردن، وحضر أحداث أيلول الأسود 1970 وأحداث الأحراش في جرش ودبين وعجلون في العام التالي 1971 وهي الفترة الزمنية التي صاغ من أحداثها المؤلمة صفحات هذا الكتاب.

يتناول الكاتب هذه الأحداث من خلال شهادته على تلك الأحداث كونه شاهد عيان على الحدث واحد صناعه، فالكتاب بهذا المعنى جاء كسيرة ذاتية يتماهى فيها الخاص مع العام حد التطابق؛ فالكاتب يسري هاشم طبيب مصري مناضل، عروبي حتى النخاع، تقوده أقداره وأفكاره النبيلة للسفر إلى الأردن -تحت مظلة اتحاد الأطباء العرب- للعمل مع الفدائيين الفلسطينيين في القواعد العسكرية ومشاركتهم عملياتهم الفدائية وتقديم العون الطبي لهم ولغيرهم، بالإضافة إلى بعض الواجبات والمهام الأخرى، مثل واجبات التثقيف السياسي والدعم المعنوي والرصد والتعبئة واستقطاب الأفراد والجماعات إلى جانب الثورة وتنظيمهم في صفوفها.

مهام متعددة في دروب يعتليها الشوك ويشوبها الحذر والتي لم تلبث حتى اشتعلت نيرانها المبغضة والتي طال حريقها الجميع.

هذا الكتاب عبارة عن تجربة غنية وشهادة حية للدكتور يسري هاشم، بحيث تغطي صفحاته فترة حرجة من تاريخ الثورة الفلسطينية -أحداث أيلول الأسود- وهي فترة تميزت بضحالة المادة (المكتوبة أو الشفوية) الموثقة والمؤرخة لتلك الأحداث وذلك مرده لعدة أسباب -لا يتسع المقال لبحثها- ، هذا إضافة لغياب الموضوعية عن كثير من المصادر الموجودة، الأمر الذي استتبع حتما تزييف كثير من الحقائق وتشويه كثير من المواقف، عدى عن بث روح الضغينة والحقد المستتر والذي لازال يغزو كثير من الأنفس المريضة.

وهنا بالذات تكمن أهمية هذا الكتاب؛ فالكاتب ابتداء ومن خلال سيرته وجنسيته وكتاباته يتضح لنا جليا مقادر صدقيته وموضوعيته، وكم هو مرهف الشعور وسوي النفس طاهر القلب عفيف اللسان، بعيد كل البعد عن الضغينة والبغضاء، وتزداد مصداقيته عبر الصفحات بازدياد مساحة البوح الإنساني التي تعبر عنه كثير من المحطات عبر العديد من صفحات الكتاب، إضافة إلى قدرة الكاتب وتميزه على وضع الأحداث في سياقها وظرفها الزمني دون التطرف أو المغالاة أو التشويه، كل هذا وأكثر يجده القاريء في هذا الكتاب الفريد والمتفرد بتناول تلك الأحداث.

هذا الكتاب في هذا المجال لا يضاهيه كتاب من حيث موضوعية الشهادة وقيمة اليوميات والمذكرات وجمالية السرد والتشويق إلا كتابات محجوب عمر، فهي تتميز بفرادتها في هذا المجال والسياق، وكلاهما تميزا بعملهما في صفوف الثورة وكتبا عن تجربتهما خلالها بمصداقية عالية مرهفة ومحزنة يغطيها الألم والدم من بدايتها لنهايتها، لكنهما تقاطعا أيضا بانتمائهما الصادق لصفوف الثورة الفلسطينية قولا وفعلا، وتمكنا من تقديم نموذج مصري عربي فريد ومتفرد، بحيث يصلح هذا النموذج كمدخل رئيسي لدراسة المشاركة العربية في صفوف الثورة الفلسطينية.

هذا الكتاب بمقدماته الثلاث وبفصوله الأربعة جاء غنيا وزاخرا بالمعلومات واليوميات التي جاءت محملة بكثير من الأحداث والمآسي حتى انك تشتم رائحة الدم والموت من بين ثنايا السطور.

فصول الكتاب الأربعة والتي كتبت بطريقة سردية مشوقة تحبس الأنفاس جاءت تحت العناوين التالية:

الفصل الأول : عمان من ص ٢٧-٦١ ويتحدث عن وصول يسري هاشم لعمان، وعمله تحت مظلة اتحاد الأطباء العرب، وتعرفه على بقية الزملاء العاملين معه وترتيب أمور الإقامة والسكن والعلاقة مع السفارة المصرية ومخابراتها، وحتى قصة نجيب جويفل الأسطورية، وأفكار ومعتقدات الأطراف من الأطباء المصريين وانقسامهم بين يمين ويسار والخلافات الناجمة عن ذلك، وصولا لمحور الأحداث وبطلها الرئيسي -بعد الكاتب طبعا- محجوب عمر، ذلك الفدائي النبيل القادم من زمن القداسة والرسل.

ثم يتناول الكتاب التنسيق مع وزارة الصحة الأردنية ونظرة على المجتمع الأردني من خلاله إطلالة المؤلف ورؤيته، ثم يتحدث عن أول مهمة وأول عمل جراحي يقوم به في عمان، ثم يتحدث عن  ياسر عرفات ولقائه الأول معه، ثم يتطرق للحديث عن العمل الطبي العسكري في عمان، ثم الحديث عن علاقته برئيس البعثة الدكتور توفيق، وعن علاقته بفصائل الثورة وعن سبب اختياره لحركة فتح دون غيرها، ثم تبدأ مقدمات أيلول من خلال حديثه عن “هوجة” عمان ومستشفى الطواريء، وتوازن الرعب وظاهرة انتشار السلاح وانعدام الأمن مستعرضا بعض الشواهد كحكايته مع سائق التكسي الذي يطلب أجرة التكسي وهو يتمنطق ببندقية الكلاشن كوف، بحيث يطلب أجرة أضعاف مضاعفة للقيمة الحقيقية مستندا الى تلك البندقية وكيفية تصرف صاحبنا معه بحنكة وبمسدس يضعه على خصره أيضا ص ٥٥.

ولن يمضي هذا الفصل دون الحديث عن أول الشهداء من الأطباء المصريين، وعن محجوب عمر ونقطة التحول بعد دعوته لصاحبنا ليرافقه إلى الجنوب ويساعده في العمل الطبي والعسكري هناك. ص ٦٠.

الفصل الثاني: وجاء تحت عنوان جنوب الأردن ويمتد عبر الصفحات ٦٣-٩٩. وفيه يتحدث عن فترة عمله في قواعد الجنوب الأردني في الطفيلة ومعان والشوبك والكرك والعقبة وعن عمل العيادات الطبية فيها ص ٧٥، ويبدأها بتجربته المستفيضة بالطفيلة ص ٦٤ ، فيتحدث عن الأحوال المعيشية وصعوبتها وعن العائلات وأصولها وتنوعها وعن دور محجوب عمر الرائد في خدمة هؤلاء واستقطابهم وعن أسلوب حياته وعلاقاته وسلوكه، وعن الفدائيين وسماتهم وأحوالهم والتعريف ببعضهم وببعض عملياتهم العسكرية، وعن قاعدة الطفيلة العسكرية وضباطها وجنسياتهم ومهامها وروادها،  ثم يتحدث بشكل مقتضب عن العمل العسكري في الجنوب ص ٧٧، وبداية التحولات وانقلاب السلطة الأردنية وتأليب وتحريض الجماهير والعشائر الأردنية على العمل الفدائي في الجنوب ص ٧٨ وحتى وقوع مشكلة معان ص ٨٠ مستعرضا أسبابها وتداعياتها، ثم تتسارع الأحداث في الجنوب وتتفاقم المشكلات ص ٨٤ وامتدادها نحو الطفيلة والشوبك ثم الكرك، ثم اجتماعات لبعض شيوخ العشائر الأردنية للتأليب ضد الثورة والمطالبة بخروجها من الأردن، وصولا هجوم أهالي معان(الجنود المجازين) على مقرات وعيادات الثورة وتفاصيل تلك الهجمات وما تبعها من اتصالات محجوب مع القيادات المحلية بغية تهدئة الأوضاع وتطييب الخواطر، إلا أن كل المحاولات باءت بالفشل وتفاقمت الأوضاع وكان قرار الرحيل لكل القوات والقواعد من الجنوب باتجاه عمان وبالتالي نهاية العمل الفدائي في الجنوب ص ٩٦.

الفصل الثالث: وجاء تحت عنوان مستشفى الاشرفية وتناول فيه صاحبنا وعبر امتداد الصفحات ١٠١-١٦٤ قصة أحداث أيلول من خلال مقطع زماني ومكاني محدد وهو مستشفى الاشرفية وتحت عنوان فرعي الاشرفية ايام الدم والغضب ص ١٠٣،

ومن خلال أيام معدودة بعينها( 11 يوما) ومنها جاء عنوان الكتاب.

نجح الكاتب بتوثيق أيام حصار المستشفى ودكه بالمدفعية والقذائف وتناثر الجثث وانتشار رائحتها المتحللة ومحاولتهم دفن الجثث وعدم تمكنهم من ذلك لشدة القصف، ثم يتناول الحديث عن الصعوبات في المهام الطبية والاسعافية وكثرة الوفيات والإصابات وخطورتها، وشح المواد الطبية ومن ثم نضوبها، وعن ضرب مبنى الأطفال بالمدفعية ومقتل معظم من فيه ومحاولة صاحبنا إنقاذ ما يمكن إنقاذه، كل ذلك من خلال مشاهد تحسبها مصورة وماثلة أمام عينيك، في هذا الفصل بالذات يجب على كل قاريء أن يتخلى عن كثير من أدميته لكي يستطيع ان يكمل هذه الصفحات وان حصل وتم ذلك، فليكن معلوما حاجتك لسيل من الدموع حتى تستطيع تكمل وترى كم تلك الاروح الصاعدة للسماء، ليس هذا وحسب بل ذلك الكم من الأشلاء المتناثرة التي مزقتها قذائف الدبابات ولم يعد هناك ما يعرف بصاحبها إلا هذه الشهادة ومثيلاتها التي حفظت لنا كثيرا من اسماء القذائف التي سقطت فوق رؤسنا..

في اليوم الحادي عشر من حصار مستشفى الاشرفية ص ١٥٨ يسقط المستشفى ويقتحمه الجيش ويتم اعتقال طاقم المستشفى برمته، طبعا كان من ضمنهم محجوب وصاحبنا والكوادر الطبية كافة طبعا بالإضافة للمرضى ويتم سوقهم إلى ناعور حيث مركز الاحتجاز والمستشفى الجديد، ثم يتناول محاولة الهرب من مركز احتجاز ناعور بمساعدة صديقة، وعند هذه النقطة بالذات يموت عبد الناصر ص ١٦٣ ، هنا تختلف الأمور ويتوجه صاحبنا برفقة محجوب الى السفارة المصرية في العاصمة عمان، عند لحظة موت عبد الناصر والتي نجح صاحبنا بالتقاط مشاهد حزينة ومثيرة منها، إلا أن أهم ما فيها أنها أوقفت الحرب ص ١٦٤

الفصل الرابع: وجاء تحت عنوان أحراش جرش، وتناول فيه صاحبنا وعبر الصفحات ١٦٥-٢٠٧. وفيه يستكمل د.يسري هاشم ما كان قد بدأه في الفصل الثالث من حكاية التصفية الممنهجة لقوات الثورة الفلسطينية بعد خروجها من عمان والمدن باتجاه أحراش جرش وعجلون ص ١٧٠.

في هذا الفصل يتناول د.يسري تجربته وشهادته عن تلك المرحلة من خلال توثيق تلك الأيام التي قضاها بمعية أبو علي إياد والفدائيين في قواعدهم التي تحتضنها أحراش جرش وعجلون تنفيذا لقرارات الجامعة العربية بعد وقف القتال في عمان، تلك الاتفاقية التي انهكت عبد الناصر وتسببت بوفاته.

في هذا الفصل يستعرض د.يسري بعضا من أهم تفاصيل تلك المرحلة وأبطالها، بالإضافة إلى تسليطه الضوء على معوقات العمل الطبي وحياة البساطة والتقشف في القواعد والتي لا تخلو من التضحية والفداء والندرة ايضا. حيث يتناول الحديث عنكيفية  إنشاء المستشفيات في المغر ص ١٧٢ وعن العملية الاولى في المغارة ١٧٤ وعن حمار الحكيم ص ١٧٧، وعن العلاقة مع ابو علي اياد وشخصية هذا القائد لا سيما صرامته وجديته متناولا قصة السحن كمثال على ذلك ص ١٧٧.

ثم يتحدث عن معركة المقاومة الاخيرة في الاحراش ص ١٨٨، وهنا تبرز اكثر المحطات ايلاما واشدها قهرا وقسوة، فيستعرض صاحبنا القصف وشدته وتنوع جهاته، لكنك تنفجر غصبا والما حين تجده في الصفحة ١٨٩ يكتب فيقول :” استمر القصف لايام، كان يشتد في اوقات ويهدا في اخرى، وبدؤوا ينوعون في الجهات التي يشنون هجومهم منها، صار القصف يأتي من الجنوب، او من الشمال، ومن الغرب ايضا..من ناحية اسرائيل!”

ولكي تكتمل فصول الحكاية كان لا بد من الامساك بصاحبنا وهذا ما نجده في ص ١٩١، حيث يتم القاء القبض عليه في قرية برما المحاذية للاحراش وفي منزل من استجار به وهو مختار البلد ص ١٩٢ اثناء محاولة تسلله خارج طوق النار والمدافع، فيهب صاحبنا لنجدة واسعاف جندي من الجيش الاردني وينجح في ذلك، ويتطلب الامر نقل المصاب لاقرب مستشفى، فيرافقه د.يسري وزميله الى مستشفى السلط ص١٩٦ ويجري له العملية وهي العملية الاخيرة له بالاردن ص ١٩٨ وتتكلل  العملية بالنجاح، لكن هذا كله لم يمنع اعتقالهما وارسالهما الى السجن في اربد ص ٢٠١.

وفي السجن يكاد صاحبنا وزميله ان يلقيا حتفهما، ثم ينقلا الى سجن المخابرات العامة في العبدلي ص ٢٠٣، ويبدأ التحقيق معهما باذلاك وعنف، وفجأة تختلف المعاملة ص ٢٠٥ ويتم اطلاق سراحهم وتوصيلهم بسيارة المخابرات الى مبنى السفارة المصرية ص ٢٠٦ ومن هناك الى بيروت التزاما بتعليمات قيادة الثورة الفلسطينية، ومن ثم العودة الى القاهرة نهائيا ص ٢٠٧.

مرات ومرات كان صاحبنا صديق الموت المفضل، لكنها العناية الإلهية وفرت له سبل النجاة ليكتب لنا هذه السطور المؤلمة والشديدة الوجع حد النحيب، هذه الاحداث ذات الوقع الكبير على النفس والتي تتوسد على جبل من الحكايات والاحداث الموشحة بالدم والتي تستندة الى شواهد وشهادات وقصص وحكايات تنتصر دائما للحق والصواب، هذه الشهادات صاغها لنا القدر على لسان صاحبها واحد ابطال حكايتها د.يسري هاشم…

 هذه الشهادة للدكتور يسري هاشم تسجل له في مناقبه وصفاته المتعددة، فهو كتب عن اصعب الايام واحلك الظروف التي عصفت بالقضية الفلسطينية وبالعلاقات العربية العربية والتي غض الكثيرون النظر عنها، وكسرت اقلام معظم الكتاب عن سيرتها… لكن الاهم في ذلك كله، انه تقدم حين تراجع الجميع، وكتب بصدق حين كثر الافك وانتشر الدجل وشاع الكذب، هذه الشهادة لسانها واضح وصريح، ويواجه الكذب والخداع والتزييف.

 هذه الشهادة لصاحبها ولنا وللتاريخ…

هذه الشهادة جاءت بعد ان تراجع كثيرون وسقط اخرون، لكن بقي صاحبنا على سيرته وعهده الاول، بقي وفيا لدماء الشهداء وتاريخهم، حاله في هذا كحال زعيم الامة جمال عبد الناصر حين قال: “الثورة الفلسطينية انبل ظاهرة عرفها الوجود… الثورة الفلسطينية وجدت لتبقى … ولتنتصر” .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Social Media Auto Publish Powered By : XYZScripts.com