مسيرات العودة مرحلة من مراحل المقاومة الشعبية.. قراءة في كتاب “مسيرة العودة وكسر الحصار” للباحث محمد أبو ركبة الكاتب والباحث/ ناهــض زقـوت

أن تقرأ رواية وكتاب عن مسيرات العودة وكسر الحصار في أن، هذا يعني أن الذاكرة الفلسطينية ما زالت مفتوحة ولم تتكلس بعد على أحداث ووقائع وقعت، وكان لها صدى واسع بما انتجته من تداعيات مأساوية، في حين لم تحقق أهدافها أو شعارها في العودة وكسر الحصار، ولكنها مرحلة من مراحل النضال الفلسطيني سواء اتفقنا معها أو اختلفنا حولها، تبقى تجربة نضالية فلسطينية، تستحق الكتابة والتوثيق حولها.
بالنسبة للرواية، فهذا شأن آخر، أما الكتاب فقد أهدانا الصديق الباحث الدكتور محمد أبو ركبة كتابه الجديد (مسيرة العودة وكسر الحصار من الفكرة إلى الانطلاقة والمواجهة 2018-2019)، الصادر عن دار الكلمة للنشر بغزة عام 2021م.
الباحث الدكتور محمد منصور أبو ركبة من مواليد عام 1983 لعائلة هجرت عام 1948 من قرية دمرة، حاصل على الدكتوراه في التاريخ الحديث والمعاصر، عمل محاضراً غير متفرغ في عدد من الجامعات الفلسطينية، وساهم كباحث في عدد من المراكز والمؤسسات السياسية والثقافية، وشارك في العديد من المؤتمرات العلمية، وهو عضو الجمعية المصرية للدراسات التاريخية، وله العديد من المؤلفات والأبحاث حول القضية الفلسطينية والعلاقات الفلسطينية الاردنية.
بعد المذابح، والتهجير القسري للفلسطينيين من ديارهم وأرضهم عام 1948، وتحويلهم إلى لاجئين في المنافي وفي الوطن، لم تترك اسرائيل الشعب الفلسطيني بل واصلت استهدافه في كل اماكن تواجده، فالعدو بالنسبة لها هو الفلسطيني، وليس الانتماء الحزبي للفلسطيني، فتعددت المذابح والممارسات الاجرامية في 1956، و1967، و1982، و1987، و2000، و2008، و2012، و2014، و2018، و2021، وكان من جرائها مئات القتلى، ومئات الاصابات والاعاقات، ومئات البيوت المدمرة، ولم تشبع اسرائيل من الدم الفلسطيني.
في الذكرى ال42 ليوم الارض الخالد قررت القوى الوطنية والاسلامية في قطاع غزة تنظيم مسيرة شعبية باتجاه الحدود الشرقية لقطاع غزة باسم (مسيرة العودة) التي تحولت إلى مسيرات لاحقا، وما زلت ذاكرتي تحفظ اللقاءات الاولى لاجتماعات القوى الوطنية والاسلامية في مركز عبد الله الحوراني للدراسات والتوثيق لإعداد هذه المسيرة، والنقاشات التي دارت حول توجهاتها وفعالياتها وأمنها. وانطلقت المسيرة في اليوم المحدد الثلاثين من آذار/ مارس 2018 ، وانتهت في 26 ديسمبر/ كانون الأول 2019.
لم تكن هذه المسيرة من فراغ بل كانت نتيجة تراكمات ذكرها الباحث في كتابه بقوله: “فالحياة المعيشية السيئة، وظروف الحياة التي بالكاد تصلح لأدمي، … ثلاث حروب مدمرة، … وما خلقته من مجازر بحق البشرية، تركت البقية الباقية من سكان قطاع غزة في حالة بغاية السوء، أبناؤهم قتلى، وبيوتهم مدمرة، ولا مال لديهم يطعمون من بقي من أهلهم وأطفالهم، ومن أين يأتي المال ولا وجود للعمل، ولا منفذ مفتوح أمامهم، فكل المعابر أغلقت في وجوههم، والحال يزداد سوء عاما بعد عام دون أي مؤشر ايجابي لتحسين الاوضاع المعيشية. إنه القاع الذي لا خوف بعده من الانحدار إلى النقطة التي يستعيد فيها الجميع أحلامه التي ما زالت تنتظر موعدها … فأي خوف يستطيع أن يقف أمامهم الان ليمنعهم من التوجه للحدود، حمل الشباب همومهم ومشاكلهم، وتمسك الكبار بما تبقى لهم من آمال بالعودة، وهتفوا جميعا مطالبين بما لا شك في أحقيته”.
يأتي هذا الكتاب بعد ثلاث سنوات من انطلاق مسيرة العودة، التي تحولت مع تكرار فعالياتها اسبوعيا إلى مسيرات العودة وكسر الحصار، ليوثيق تلك المسيرات من الجانب التاريخي في اطار انها مرحلة من مراحل النضال الوطني الفلسطيني، وفيما نعتقد أنه الكتاب الاوفى والشامل من هذه الناحية، حيث اعتمد الباحث على المقابلات الشخصية مع الرموز الفاعلة سياسيا وميدانيا في مسيرات العودة، وهنا لم يكن للباحث رأي أو موقف سياسي يطرحه، إنما يأخذ المعلومة من مصدرها الفاعل, وقد وثق أسماء (30) مقابلة في المصادر والمراجع مع ذكر صفتهم في هيكلية مسيرات العودة. بالإضافة إلى اعتماده على مراجع ومصادر متنوعة تناولت موضوعه نحو (240) مصدرا توزعت ما بين كتب ودوريات ومقالات ورسائل علمية ومواقع اخبارية وقوانين. مما يؤكد الجهد الكبير الذي بذله الباحث في توثيق مادته العلمية لكي تكون شاملة لموضوعه عن مسيرات العودة.
توزع الكتاب الذي جاء في (397) صفحة على ثمانية فصول، وكل فصل تحته عدد من المباحث. تعد مسيرات العودة وكسر الحصار من أساليب المقاومة الشعبية، فهي كانت سلمية من شعب أعزل مقابل قوة مدججة بالسلاح، لذلك تناول الباحث في الفصل الأول تعريف المسيرة الشعبية ونشاتها، والجذور التاريخية للمقاومة الشعبية، والتجارب الشعبية لدى الشعوب سواء في فلسطين أو غيرها، يقول: “وفي فلسطين كان للمقاومة الشعبية حضورا دائم التجدد على مدار مراحل النضال الفلسطيني الطويل، وقد شكلت مسيرة العودة وكسر الحصار فصلا من فصول هذه المقاومة الشعبية، وجزء لا يتجزأ من ماهيتها بأهداف وألياتها القائمة على المطالبة بالحقوق، هو تحرير الارض، ورفع الحصار عن سكان قطاع غزة، من خلال الاساليب الشعبية والتجمهر والتظاهر على الحدود الشرقية”. وفي هذا الفصل عرف بمفاهيم المسيرة، والعودة، واللاجئ، والانتفاضة، والتظاهرة، والمقاومة، والعنف، والوحدة الوطنية سواء في اللغة أو الاصطلاح. كما تطرق إلى تعريف المسيرة الشعبية، وتعريف مسيرة العودة، ودلالات كل ما ارتبط بهما من لجان، استنادا إلى رؤية شخصيات كان لها دور فاعل في هذه المسيرات.
وفي الفصل الثاني يكتب عن مسيرة العودة وكسر الحصار وأسبابها، وأهدافها، ووثيقة مبادئها العامة. حيث يبدأ من فكرة مسيرة العودة في تجربتها الأولى بتاريخ 15 مايو سنة 2011، والتحركات الشعبية والشبابية ضد الانقسام والحصار والاوضاع المعيشة، وانطلاقتها في تظاهرات واعتصامات 27 سبتمبر سنة 2013، وكذلك سفن كسر الحصار، وصولا إلى جوهر موضوعه مسيرة العودة وكسر الحصار في 30 مارس 2018، ويتحدث بالتفصيل عن هذا الموضوع بدأ من الفكرة والاجتماعات واللقاءات، والاتصالات الداخلية والخارجية لجمع أكبر عدد لمناصرة الفكرة، وبلورة وثيقة تحدد مبادئ المسيرة وأهدافها ومطالبها، وهيكلة لجانها الفاعلة. والاسباب والمعطيات التي كانت وراء انطلاقتها. يقول: “بعد سبعين عاما من اللجوء والتشرد والانتظار، قرر الشعب الفلسطيني وبيدين عاريتين ان يعبد طريقا للعودة إلى ارضه سلميا، مستندا في ذلك إلى تجارب شعوب خاضت النضال السلمي ضد الظلم والعدوان، ومتسلحا بالقرارات الدولية، والقانون الدولي، وبمبادئ حقوق الانسان، فكانت مسيرة العودة على الحدود الشرقية لقطاع غزة التي انطلقت في الذكرى الثانية والاربعين ليوم الارض الذي يوافق الثلاثين من أذار/ مارس 2018، والذي يجسد التلازم بين الارض والانسان وهما العنصران الرئيسيان في صراعنا مع الكيان الصهيوني”.
وجاء الفصل الثالث متحدثاً عن أدوات مسيرة العودة وكسر الحصار. يقول: “أراد الداعون لمسيرة العودة أن تكون سلمية خالية من أية مظاهر للعنف، ليتوحد الشعب الفلسطيني أجمع، ويلتف حول قضيته الحقيقية التي ينبغي له أن يصب لأجلها كامل جهده وجهاده”. وفي هذا الاطار برزت الأدوات التي استخدمها المتظاهرون ضد جنود الاحتلال، والتي قسمها الباحث إلى ثلاثة أنواع: الأدوات السلمية، والأدوات الخشنة، والأدوات المتجددة، وتمثلت جميعها في: القاء الحجارة، والزجاجات الحارقة، وقص السلك الشائك، واشعال الاطارات المطاطية، والمرايا العاكسة وأضواء الليزر، وغرس العلم الفلسطيني، ورسائل بالعبرية للجنود، والمقلاع والمنجنيق، والطائرات الورقية والبلالين، والارباك الليلي، والحراك البحري، والفعاليات الثقافية والتراثية والأغاني الشعبية.
ولكن عنصرية الاحتلال التي لا تؤمن بالمقاومة الشعبية، والنضال السلمي، ففتحت النار بكثافة على المتظاهرين، وكذلك استخدمت قنابل الغاز المحرمة دولياً، وخراطيم المياه العادمة، وأطلقتها على المتظاهرين، وسقط جرائها عشرات القتلى، ومئات الاصابات، وعشرات حالات الاعاقة، حيث كان جنود الاحتلال يركزون على ضرب الشباب في ركبهم عمداً.
ويستعرض في الفصل الرابع انتهاكات قوات الاحتلال الاسرائيلي بحق المشاركين في مسيرة العودة وكسر الحصار. يقول: “نظرت دولة الاحتلال إلى هذه المسيرة على أنها تهديد وجودي لها ، ولذا ارتكبت انتهاكات منظمة وجسيمة بحق المشاركين في التظاهرات الشعبية، بل ارتكبت جرائم حرب بحقهم، وبحق من حاول إيصال صوتهم من الصحفيين، وكان العنف هو السمة الأبرز للتعاطي الاسرائيلي مع المتظاهرين في مناطق قطاع غزة المحاصر كافة”. وهنا يتناول المواقف الدولية والقوانين الانسانية من انتهاكات اسرائيل للمتظاهرين السلميين.
حصلت مسيرات العودة على مساحات واسعة في وسائل الإعلام المحلية والعربية والدولية، لذلك يرصد الباحث في الفصل الخامس مسيرة العودة وكسر الحصار في وسائل الإعلام المختلفة. يقول: “ان التعاطي الاعلامي الاقليمي والدولي والاسرائيلي تمايز سواء من ناحية الشكل او المضمون، بما ينسجم مع رؤية كل طرف للقضية الفلسطينية، والحالة النضالية الجديدة ممثلة بمسيرة العودة بطابعها السلمي. … ساهمت مسيرة العودة وكسر الحصار في فضح جرائم الاحتلال الصهيوني الذي استهدف بشكل متعمد النساء والأطفال والطواقم الطبية والصحافيين العزل، وكان للإعلام وكاميرات الهواتف النقالة دور كبير في نقل حجم كبير من هذه الجرائم، اضافة لمواقع التواصل الاجتماعي غلى جانب الاعلام الرسمي.
ويعبر في الفصل السادس عن المواقف الفلسطينية والاسرائيلية والعربية والاقليمية والدولية وردود فعلهم تجاه هذه المسيرة، وهنا يرصد تباينات المواقف وردود فعلها، وتحركاتها. ويخلص إلى أن: “المواقف الفلسطينية والعربية والدولية والاقليمية من مسيرة العودة تبعا لطبيعة الظرف الذي تمر به مختلف الأطراف، خاصة أن المسيرة حرفت بوصلة التفكير في القضية الفلسطينية لأغلب اللاعبين السياسيين، كما أنها أحدثت صدمة تفكيرية في المنهجيات لدى الفاعلين الأساسيين كون زخم المسيرة أتى من قطاع غزة. … جاء موقف السلطة داعماً للمسيرة اعلامياً وسياسياً، … وجاءت ردود الدول العربية داعمة للموقف الفلسطيني ومطالبة بالتحقيق في الجرائم التي ترتكبها اسرائيل بحق المتظاهرين”.
لقد أحدثت مسيرة العودة ارباكات في المشهد السياسي الاسرائيلي، أمام المجتمع الدولي الذي يشاهد جنوداً مدججين بالسلاح وقنابل الغاز القاتلة، يطلقونها على جموع عزلاء إلا من إرادتهم وتحديهم بصدورهم العرية لجنود الاحتلال، لذلك بدأت اسرائيل في البحث عن طرق لوقف مسيرات العودة. وجاء الفصل السابع من الكتاب راصداً لمفاوضات التهدئة في ظل مسيرة العودة وكسر الحصار. يقول الباحث: “لم تجد حكومة الاحتلال بداً من اللجوء للوسطاء من أجل عقد هدنة والتوصل لاتفاقيات لوقف مسيرة العودة، فكانت الأموال القطرية والتفاهمات المصرية هي الشاهدة على التخفيف من وطأة الحصار، وهي الشاهدة على وقف مسيرة العودة وكسر الحصار، وإن كانت أزمة جائحة كورونا هي السبب الرئيسي لوقفها بعد أن تم العمل على جعلها شهرية لا أسبوعية بعد تقييم ومراجعات”. يأخذ الباحث في استعراض الفروق بين التهدئة والهدنة، والسياق الذي أوصل قطاع غزة غلى حافة الانهيار، وقطاع غزة بين مسيرة العودة والتصعيد الاسرائيلي العسكري، والاطراف المشاركة في مفاوضات التهدئة، ومواقف السلطة والفصائل من التهدئة، والموقف الاسرائيلي، والمواقف العربية مصر وقطر، والموقف الامريكي من التهدئة.
ويختم الباحث كتابه بالفصل الثامن متناولاً مسيرة العودة تقييم ومراجعة بين الانجازات والاخفاقات. ويسند في تلك الرؤية إلى الآراء والمواقف التي طرحت بشأن انجازات واخفاقات مسيرة العودة، والآراء والمواقف للفصائل الفلسطينية التي شاركت في فعالياتها. وقد كانت الأموال القطرية التي دخلت قطاع غزة أحد الاسباب الرئيسية التي اوقفت مسيرات العودة، أو تراجعت شعبيتها، وكذلك ممارسات جنود الاحتلال الاجرامية بحق الشبان. ويرى الباحث أن مسيرة العودة حققت انجازاتها في أنها “تحولت إلى فاعل مهم في الساحة الفلسطينية باعتبارها إحدى المشاريع التحريكية بعد إضافة جملة كسر الحصار لتصبح مسيرة العودة وكسر الحصار، والتي نشأت في ظروف ومعطيات القت بظلالها على مسار القضية الفلسطينية”. أما عن اخفاقات يرى جملة من القضايا ساهمت في اخفاقها تمثلت في: الاجرام الاسرائيلي والارتفاع كلفة المسيرة، والخلافات الداخلية، وغياب الرؤية والمرجعية والتوظيف السياسي، ومحدودية الدعم الخارجي، وعدم ثبات الرؤية والاهداف”.
يطرح الباحث في سبل تطوير المسيرة الخطة التي وضعتها لجنة التخطيط والتطوير في الهيئة الوطنية العليا لمسيرة العودة وكسر الحصار، في محاولة لتطويرها وتلافي الأخطاء والاخفاقات التي واجهتها المسيرة. ثم يطرح الباحث توصياته بشأن تطوير المسيرة واستمرارية عملها، وكذلك يرصد بشكل توثيق أسماء الجمع التي انطلقت فيها المسيرات.
ان جهد الباحث يبرز جلياً في بين صفحات الكتاب، وشعور بما بذله من مراجعة وتدقيق في مادته العلمية لتخرج بهذا الجهد الموسوعي التوثيقي لمسيرة العودة وكسر الحصار التي شكلت في وقت من الأوقات عنواناً رئيساً في القنوات الفضائية والوسائل الإعلامية، كمرحلة من مراحل المقاومة الشعبية الفلسطينية، كتاب يستحق أن يصبح مرجعاً للباحثين والدارسين في موضوع مسيرات العودة، وعنواناً بارزاً في المكتبات العربية والفلسطينية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Social Media Auto Publish Powered By : XYZScripts.com