في ذكرى الرحيل.. الشهيد محمد حسن قنديل (أبرز أسماء العطاء)..  د/ محمد إبراهيم المدهون

انطلقت خطا المجاهدان (ياسر الحسنات ومحمد قنديل) بثبات وخفة ورشاقة رغم الخطورة البالغة التي تلف تحركهما لأنهما مطلوبان لقوات الاحتلال منذ ما يقرب من الخمسة شهور بعد المعلومات التي ملكتها السلطات بحقيقة كونهما جنديين في كتائب الشهيد عز الدين القسام، الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية – حماس – قيامهما بتـنفـيـذ عدة هجمات استهدفت قوات الاحتلال وعملائه …

وتنقل المجاهدان من موقع لآخر في منتهى السرية والأمن … إلا أن واجبهما هذه المرة يلزمهما السرعة في الإنجاز ولو أدى ذلك إلى درجة من المخاطرة، فأخوهما المجاهد (مروان الزايغ) بطل عملية الثأر في يافا بتاريخ 14/12/1991م  مصاب بعيار ناري في قدمه وعليهما الإسراع لعلاجه، وأشار (محمد) على أميره ياسر بضرورة بقاء (مروان) في منزل الشيخ (حسن) في منطقة الصبرة لصعوبة تحركه وللضرورة الأمنية رغم الصعوبة البالغة التي تواجههم، وأومأ ياسر برأسه بالإيجاب … وأخرج زفرة حارة … وكان حينها أكثر ما يضايق المجاهدين ضعف الإمكانات وندرتها …” وأردف (ياسر) لذلك علينا الإسراع في إحضار من يعالج مروان في المنزل “، وفعلاً تم ذلك .

وما كاد الليل يلف منطقة الصبرة بظلام دامس … وقبل حلول منع التجول الليلي الذي كانت تفرضه سلطات الاحتلال كلي ليلة من الساعة الثامنة مساءً إلى الساعة الخامسة فجراً، وذلك بهدف حصار المجاهدين، وقمع الانتفاضة، غادرت مجموعة من المجاهدين منزل الشيخ حسن بعد زيارة عاجلة لمروان المصاب … والتف الإخوة حول مروان بعد صلاة العشاء وهم يرددون أهازيج إسلامية :

يا بلادي، يا بلادي من أجلك يا بلادي صرت مقاتل …

 

            مـــــن أجلك يا بــــــلادي صـــــرت مناضـــــــــــــل …

 

                         وتمر قافلتي مع الأحرار من بين السنابل، ونصبر في انتظار النصر،

 

                               والنصر دوماً للمقاتل، لنكون يا شعبي فداك، لنكون يا شعبي فداك،

 

                                           أما النصــــــر وأما أن نكــــــون الجســـــــر في درب القوافـــــل …

 

انتبه المجاهدون لصوت طائرة هليوكبتر تحوم في المنطقة … ذهب العين أعلى السطح يستطلع، وإذا بقوات معززة من جند الاحتلال تزحف نحو الملاذ والمأوى، تزايدت حالة اليقظة … وقف مروان على قدميه مع إخوانه رغم الإصابة … في إعلان واضح لقبول التحدي والاستعـــداد للمقاومة …

 كان (محمد) المجاهد ابن المغازي الثائر قد اختار الزاوية الأقرب للمواجهة مع قوات الاحتلال… ولم يكن هذا الاختيار من قبيل المصادفة … بل اختياراً مقصوداً حيث القرب من زاوية المقاومة … والقرب من انتقاء الباري عز وجل …

وما ان فاجأ ياسر قوات الاحتلال بقنبلته اليدوية الوحيدة التى كانت بحوزتهم فشتت جمعهم وأسقطهم مدرجين بدمائهم … فيما انطلقت رصاصات مسدس مروان باتجاه ضابط الوحدة وهو يعتلي الدرج ليسقط قتيلاً ليدفع جزءاً من بداية المواجهة مع جند القسام، و(محمد) يغلق الثغرة التي يحرسها .

فيما انطلــق الرصاص اليهودي بشكـــل كثيف نحـــو المأوى، حيث كان محمد يعتلي السطح، هناك ينتظر رصاصة واحدة من آلاف الرصاصات بينه وبين الجنة … وكانت تلك الرصاصة التي أصابت الجسد الطاهر فاعتلاها محمد منطلقاً نحو جنة عرضها السماوات والأرض … نحو الحور العين … وتاج الوقار والشفاعة وحواصل طير خضر .. والنجاة من العذاب نحو وعد الرحمن للشهيد ولن يخلـــــف الله وعــــده .

وسقط الجسد العملاق مدرجاً بدمائه الطاهرة … سقط بعد أن قدم وقدم ولم يتوان في العطاء المتواصل لدعوة السماء حتى اختاره  رب السماء ليكون هناك في ظله… وليسطر بدمه الزكي شهادة جديدة على واقع التردي والتخلي ويفتح بوابة جديـــــــدة دخلهـــــا الشبــــان الإسلاميون الفلسطينيون بكل قوة لتكتب على أرض الرباط ملحمة جديدة قديمة … هذه الملحمة رفرفت من جديد فوقها راية  { لا إله إلا الله } .

لم يكن يعلم (حسن قنديل) والد العائلة المتواضعة البسيطة ما تخطه يد القدر لوليده الجديد محمد يوم أن رزق به في ذاك اليوم الأخير من شهر (سبتمبر) من (عام النكبة) رغم ظلام ليل هذا العام الدامس الذي جلل المنطقة العربية بأسرها بالخزي والعار بعد الحدث القاصم، الذي دحرت الجيوش العربية واحتلال الأرض الإسلامية في أيام ستة، رغم كل ذلك شعر حسن أن غلامه الجديد أضاء جوانب قلبه الكبير بنور جديد لم يعرف كنهـه … فيما بقيت المنطقة تغرق في ليل الهزيمة وظلام التخاذل . كبر محمد في عين والده الذي يرعاه ويحوطه باهتمامه، إضافة إلى سائر إخوانه الكثير عددهم، ومحمد يرى حال الأسرة المتواضع … إضافة إلى حال شقيقه الذي يعاني من مرض مزمن، وبحاجة دائمة إلى العلاج والأدوية المرتفع ثمنها… كل هذا كان يدفع محمد إلى المبادرة للعمل في سن مبكرة حتى يساهم في مواجهة أهله للظروف القاسية … مما جعـــل الفتى اليافع يجيد أعمال البناء ومن خلالها يكتسب رزقاً … كل ذلك لم يكن ليعطل المسيرة الدراسية المتقدمة لمحمد الذي أقبل على العلم بكل شغف وحب.

ولمّا انطلقت شرارة الانتفاضة، كان محمد يواصل دراسته الجامعية بقسم الكيمياء بكلية العلوم بالجامعة الإسلامية . بهذه الحياة الخشنة الشاقة، تعلم شهيدنا مواجهة الصعاب وتذليلها … تعلم فن العطاء اللامحدود … ودون أن يسأل عن المقابل … تعلم ببيت الله تعالى الإسلام صافياً، فعلم كيف يتبين الحق ويحميه ويدافع عنه بكل قوة، فكان مصرّاً على رأيه، إذ اعتقد صوابه لا يخشى في الله لومة لائم … فيما حمل منذ نعومة أظافره قدراً كافياً من الذكاء والشجاعـــة … إضافـــــة إلى الجســـــم المتيـــــن الذي تحلــــــى به (محمد) عدا ممارسته فن الدفاع عن النفــــس ( الكراتيه ) .

هذا المزيـــــج الفريـــــد من المواهـــــب والصفات جعل محمداً شخصية تفتح لها مغاليق القلوب، فكان محمد محـــــور التفاف شـــــباب الإسلام حوله، يحبهم فيحبونه … يعطي فيتعلمون منه فـــــن العطــــــاء…

 ترسخت هذه المعاني العظيمة في شخصية (محمد) يوم انطلقت الانتفاضة حيث كان (محمد) ابن الحركة الإسلامية (رمز العنفوان والعطاء في الانتفاضة) أبرز الوجوه اللامعة في المغازي كشاب يافع يحمل هموم وآلام شعبه … حيث انطلق محمد يمنح دو، تردد كل ما يملك …

وفي الليالي الأولى للانتفاضة انطلق محمد ملثماً يجوب أرجاء مخيمه مع إخوانه يضعون الحواجز ويشعلون الإطارات ويلهبون نار الانتفاضة الفتية بعطائهم المتدفق، ويطلقون صافرة البداية لمرحلة جديدة في تاريخ فلسطين والحركة الإسلامية … تطور عمل حركة المقاومة الإسلامية – حماس – وتفرع عبر أجهزة متعددة، وواصل الفتى المعطاء، مسيرته ليتولى مسئولية جهاز الأحداث في المغازي …

وبينما كان يجهز مع أحد إخوانه الأعلام الفلسطينية المزينة بشعار التوحيد وحولهم علب الطلاء في منزل أحد إخوانه في إحدى الليالي الإنتفاضية، طُرق الباب بشدة، خرج أهل المنزل حيث قوات الاحتلال تداهم المنزل وتعتقل صاحب المنزل دون رؤية (محمد) وأعلامه تفترش أرض الغرفة !! وبينما (محمد) كان يوزع في إحدى الليالي بياناً للحركة مع أحد إخوانه فاجأتهم دورية عسكرية، إلا أن (محمد) تحرك بشكل طبيعي وسار في طريقه دون أن تلتفت الدورية الراجلة إليه أو إلى أخيه المجاهد، مع أنه كان يلقي البيانات وهو يمر بجوارهم، كان يعلم يقيناً بأن الله خيرٌ حافظاً وهو أرحم الراحمين … لذلك ترى حقيقة التوكل المطلق على الله معلماً بارزاً في سلوك (محمد) …

ثم تولى المجاهد المعطاء مسئولية جهاز أمن الحركة (مجد) في المغازي، وبدأت رقعة المعلومات الأمنية تتزايد، فكان القرار بإيجاد خلايا قسامية تلاحق فلول العملاء في كل المواقع، ووقع الاختيار على صاحـــــب العطاء المتواصل (قنديل) ليؤسس خلية كتائب الشهيد عز الدين القسام في المغازي ويتولى مسئوليتها … حيث تحركت بفاعلية وقوة في منطقة المغازي، وكافة المناطـــــــق الوسطى، وهاجمت أذناب الاحتلال ونفذت حكم الإعدام في ما يقارب ثمانية عملاء …

ولمّا أعُتقــل الأخ (حسن العايدي) على الحدود المصرية … وقع المحظور وتوالت الاعترافات حتى طالت خلية المغازي القسامية لينـظم (محمد) فوراً إلى قافلة الأحرار … قافلة المطاردة الأولى … ويختفي مع إخوانه عن الأنظار يجوبون أنحاء القطاع في كر وفر مع قوات الاحتلال على الأرض الطاهرة … فيما رفض مراراً الخروج مقسماً على الشهادة على هذه الأرض .كان حب الله والوطن الدافع الأكبر لتواصل العطاء القنديلي حتى الشهادة التي كان محمد يعشقها ويكثر ذكرها وانتظارها …

وفي زياراته القليلة لأهله كان يحثهم على الصبر والمصابرة إذا وصلهم خبر استشهاده، ولمّا سمع الأهل نبأ استشهاد ولدهم في اليوم الرابع والعشرين من شهر مايو في العام ألف وتسعمائة واثنين وتسعين ميلادية من الإذاعة الإسرائيلية، وقفت صورة محمد بينهم كالطود الشامخ يذكرهم وصيته بالصبر والاحتساب، فتواصوا بالصبر وحمدوا الله تعالى ودعوا له بالخير وأن يشفع لهم يوم القيامة.

وما أن انتشر الخبر بين جماهير قطاع غزة حتى توافدت أفواج المهنئين (لآل قنديل) بشهيدهم الغالي حتى غدا موقع العزاء عرساً ضخماً يؤمه الآلاف من كافة الأرجاء، وبقي النشيد الإسلامي يصدح موحياً بالفرح الغامر الذي يملأ القلب، فيما طافت أكواب الشراب تؤكد هذا الشعور … فجفت الدموع، وشعر الجميع بالغبطة حتى الأم الحنون لم تذرف دمعةً واحدة، بل كانت أكثر النساء حثاً على الصبر واحتساب الأجر والدعاء.

 وفي آخر أيام العزاء كان حفل تأبين ضخم للشهيد، حيث غصت شوارع المغازي بأهالي القطاع الذين توافدوا يستمعون مناقب القنديل القسامي (محمد)، وتحدث الجمع، ودقت الطبول، وفي هذه الغمرة الحافلة اقتحمت بيت العزاء قوات ضخمة من جيش الاحتلال وحرس الحدود ووقعت مواجهات ضارية، جرح فيها عدد كبير من الجماهير بالرصاص … فيما تفرقت الجموع في الأراضي الزراعية …

وفي ظلام الليل الدامس بدأ أنفار قليل عددهم من عائلة الشهيد القنديل تحوطهم قوات كبيرة من جند الاحتلال يحملون جثمان الشهيد الغالي فيما رائحة المسك ملأت الموقع … وألقى الجمع النظرة الأخيرة على الجسد الطاهر قبل أن يوارى التراب، وقد شاهد الجميع أصبع يد محمد الشهيد يرفع شارة (الوحدانية)، وقد حاولوا مراراً ضم اصبعه دون جدوى … وقد دفن الشهيد وهو يرفع هذه الشارة العظيمة،  لينتقل محمد من العالم المحدود إلى عالم الخلود … ومن دار الابتلاء إلى دار البقاء، وليثبت اسمه في صحائف المجد، وفي جسور العودة كأبرز أسماء العطاء، وقد ترك الشهيد وصيته المتزنة الشارحة لأصول الطريق قائلاً فيها :

بسم الله الرحمن الرحيم

 

 ” الحمــــــد للـــــه رب العالميــــــن، والصـــــلاة والســـــلام على امام المجاهديـــــن، وعلى مـــــــــــــن اتبعهـــــــم بإحســـــــــان إلــــــــى يــــوم الديـــــــن …    

          أما بعــد،،،

 

إلي إخوتي … أحبتي … أمل الجهاد المتأجج في ناظري إلى عمالقــة الالتـــــــزام الصادق …

إلى كل المتمسكين رغم كثرة المفرطين، ورغم سفههم … إلى أبطال مستقبل هذا الدين… إلى فرسان الحق والقوة والحرية… وإلــــــى أشبال حمــــاس الأبطــــــــــــــــــال …

إنني أكتب لكم رسالتي وأنا في خندقي بين الرصاص والقنابل، وبجانبي رشاشي ينتظر المعركة وهو مشتاق إلى تقبيل رؤوس اليهود وعملائهم … من بين الأحداث وهذه المخاطر تذكرتكم وأنتم تجلسون حولي في أيام قد خلت، فقلت لنفسي … من فيهم يحمل الرشاش من بعدي … ويلقى بالقنابل ؟؟ … من فيهم هانت عليه الدنيا وأشرقت روحه وتألقت لمعانقة الشهادة ؟؟ كي أخفـــــي عنـده ســـــر الجهاد …

 من فيهم يا ترى سوف يرث (أحمد ياسين ويحيى السنوار وروحي مشتهى وحازم العايدي وعيد مصلح ؟؟) من فيهم سوف يذكرني وأنا مطارد، فلا ينام الليل يحلم في الجهاد ويظل يفكر كيف السبيل لقتل اليهود وأذنابهم الأوغاد ؟؟

من فيهم يرفع راية القسام عالية كما رفعناها في زمن الذل والعار، لقد مهدنا لكم الطريق لكي تسيروا على درب البطولة والشهادة، وتعانقوا روح الجهاد، ولا تفرطوا،  أقول لكم من قلب صادق وكلي أمل أن تسمعوا كلمتي …

أحبتي … إن أول خطوة في طريق الجهاد المقدس هي الإلتزام بتعاليم القرآن والنهج على درب محمد صلى الله عليه وسلم خير الأنام … وثاني خطى الجهاد ، أن لا تنام الليل إلا وأنت تنظر في حال البلاد والعباد … ومن بعد ذلك يبدأ الاستعداد ليوم اللقاء مع البنادق والقنابل والزناد … لتكون الشهادة أو نصر ينزله رب العباد … هذي خطانا في خنادق القسام، فهل تكون لكم أمنيات وتتقدموا كي تبدأوا الطريق إلى الجهاد وتستعدوا كي تلحقوا بإخوان لكم هانت عليهم الدنيا وباعوها بما فيها ليصلوا بثمنها إلى رضا الله وإلى جنات الخلد وعدن، وإلى حوض النبي صلى الله عليه وسلم .

أقولها لكم : إن جهادكم ونفوركم هو حياة الأمة، وأن بين أيديكم تشرق روح الخلافة فتنعم الأرض بالإسلام، وترفع راية التوحيد وما كنا نحن إلا حلقة من حلقات الجهاد الرهيبة المتواصلة بها يعز الإسلام وتنتعش راية التوحيد لتظل عالية لا تذل ولا تهفت ما دام سيل الدم يرويها، وزغاريد الرصاص تصاحبها، وشظايا القنابل تشق لها الطريق للعلو والشموخ …

إخوتي … إن الرسول صلى الله عليه وسلم بشرنا بالرباط إلى يوم القيامة، وفضل الشام في الجهاد عن باقي البلاد، وحبب إلينا الشهادة ورغبنا فيها لعظم درجة الشهيد ومنزلته بين الأنبياء والمرسلين يوم القيامة، وحبب إلينا الجنة وفردوسها الأعلى وعد الله للمجاهدين والشهداء، وندعو الله أن يقبلنا مع المجاهدين وأن يرزقنا الشهادة في ارض الأقصى الحبيب وأن يلحقكم بنا مجاهدين وشهداء وأن يجعل النصر على  أيديكم … إنه نعم المولى ونعم النصير، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .

                           أخوكم/ محمد حسن قنديل ” القسام “

 

                                  ” أبـــــو حسـن “

 

                                   21/3/1992م

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Social Media Auto Publish Powered By : XYZScripts.com