البابا فرنسيس يشيد بدور منغوليا النشط في تعزيز السلام العالميّ

في إطار زيارته التاريخيّة إلى منغوليا، الدولة ذات الغالبية البوذية، استقبل البابا فرنسيس، صباح السبت 2 أيلول 2023، في العاصمة أولان باتور، بمراسم رسميّة بمشاركة حرس الشرف، وذلك في ساحة سخباتار، التي سُمّيت على اسم بطل ثوري منغولي.

واجتمع الحبر الأعظم (86 عامًا) مع رئيس منغوليا أوخناجين خوريلسوخ، ورئيس وزرائه، تبعه بعد ذلك لقاء مع السلطات والمجتمع المدنيّ والسلك الدبلوماسيّ في قصر الدولة، حيث أشاد قداسته في أول خطاب رسميّ له بدور منغوليا النشط في تعزيز السلام العالميّ، مسلطًا الضوء على المساهمة التي تقدّمها الكنيسة الكاثوليكيّة الصغيرة، التي تضم نحو 1400 شخص من أصل إجمالي عدد سكان البلاد البالغ أربعة ملايين، في بناء مجتمع مزدهر في البلاد.

حاج صداقة

في مستهلّ خطابه، أوضح البابا فرنسيس بأنّه يتشرّف كـ”حاج صداقة” بتواجده على هذه الأرض الجذابة والواسعة، كما ويرغب في الاغتناء إنسانيًّا. وأشار إلى أنّه على الرغم من أنّ العلاقات الدبلوماسيّة الحديثة بين منغوليا والكرسي الرسولي، والتي عمرها 30 عامًا فقط، إلا أنّ الاتصالات الأولى تعود إلى القرن الثالث عشر، زمن الامبراطويّة المنغوليّة.

وقال: “في عام 1246، قام الراهب الأب جوفاني دي بيان ديل كاربيني، كمبعوث من البابا، بزيارة الامبراطور المنغولي الثالث جيوك، وسلمه رسالة من البابا إينوشنسيوس الرابع. وتمّ بعد ذلك بقليل صياغة رسالة إجابة تُرجمت إلى لغات عديدة وخُتمت بختم الخان الأعظم بالحروف المنغولية التقليدية”، مشيرًا إلى أنّ الرسالة ما تزال محفوظة في المكتبة الفاتيكانيّة، وهو يحمل معه اليوم نسخة طبق الأصل منها، معربًا عن أمله بأن تكون هذه علامة صداقة قديمة تنمو وتتجدّد.

نموذج للعناية بالخليقة

وفي إشارة إلى البيوت المنغوليّة التقليديّة الدائريّة، لفت البابا فرنسيس إلى “حكمة” شعب منغوليا والتي تكوّنت عبر أجيالٍ من المربين والمزارعين المتنبهين دائمًا إلى عدم إفساد التوازنات الحساسة للمنظومة البيئية. وقال: إنّ هذه الحكمة يمكنها أن تعلم الكثير لمن لا يريد الانغلاق في السعي إلى مصالح خاصة قصيرة النظر، بل يتطلّع إلى أن يسلِّم مَن سيخلفونه أرضًا لا تزال مضيافة وخصبة.

وأضاف: إنّ الخليقة، والتي هي بالنسبة لنا نحن المسيحيين ثمرة تصميم الله الخيّر، تساعدوننا أنتم على التعرّف عليها وتعزيزها من خلال مكافحة تبعات ما يسبّبه الإنسان من تدمير، كما ومن خلال ثقافة رعاية وعناية تظهر في سياسات بيئيّة مسؤولة، مشيرًا إلى أن الرؤية الكلية للتقاليد الشامانية المنغولية، واحترام كل كائن حي انطلاقًا من الفلسفة البوذية، يشكلان إسهامًا مفيدًا في العاجلة لحماية كوكب الأرض.

كذلك، تطرّق قداسته للحديث عن المزج الثمين بين التقاليد والحداثة.

وقال إنّ البيوت التقليديّة تجمع بين حياة المسنين والشباب، وتشير إلى استمراريّة الشعب المنغولي والذي عرف من القِدم وحتى الحاضر أن يحمي جذوره مع انفتاحه، خاصة خلال العقود الأخيرة، على التحدّيات العالمية الكبيرة للتنمية والديمقراطيّة.

الحقوق الإنسانيّة والسلام

وفي هذا الصدد، أشاد البابا فرنسيس بدور منغوليا اليوم، والتي “بفضل شبكات علاقاتها الدبلوماسيّة الواسعة وانضمامها الفاعل إلى الأمم المتحدة والتزامها من أجل الحقوق الإنسانيّة والسلام، تكتسب دورًا هامًا في قلب القارة الآسيوية الكبيرة، وفي المشهد الدوليّ”.

وأشار إلى عزم البلاد على إيقاف انتشار الأسلحة النوويّة بأن تكون بلدًا خاليًا من هذه الأسلحة. وقال: إنّ منغوليا ليست فقط بلدًا ديمقراطيًا لديها سياسة خارجيّة سلمية، بل يمكنها أن تلعب دورًا هامًا من أجل السلام العالميّ، لافتًا أيضًا إلى إلغاء حكم الإعدام في نظامها القضائي.

وتحدّث البابا فرنسيس عن سماء عالم اليوم التي تغطيها غيوم الحرب الداكنة راجيًا أن تزيح رغبةٌ قوية في أخوِّة عالمية هذه الغيوم، أخوّة تُحّل فيها التوترات انطلاقًا من اللقاء والحوار وتُضمن فيها للجميع الحقوق الأساسيّة، داعيًا إلى العمل معًا من أجل بناء مستقبل سلام.

وفي سياق الحديث عن السماء ذكّر قداسته بمثل منغولي يقول: “الغيوم تمرّ، أما السماء فتبقى”.

رمزًا للحريّة الدينيّة

وأشار إلى أن مَن يدخل البيوت التقليديّة يرفع أنظاره إلى الأعلى حيث هناك نافذة، وهذه التقاليد المنغولية يمكنها أن تساعد في إعادة اكتشاف هذا التصّرف، أي إبقاء الأعين موجّهة إلى الأعلى. وقال: إنّ رفع الأعين إلى السماء يعني البقاء في حالة انفتاح مطيع على التعاليم الدينيّة.

ولفت إلى كون منغوليا تمثّل رمزًا للحرية الدينيّة، وشدّد على أنّ الأديان، وحين تكون أمينة لإرثها الروحي الأصلي، تصبح دعمًا يمكن الاعتماد عليه لبناء مجتمع صحيّ ينعم بالرخاء ويعمل فيه المؤمنون كي يكون التعايش المدنيّ والتخطيط السياسي في خدمة الخير العام، كما ويمكن للأديان أن تكون أيضًا حاجزًا أمام خطر الفساد الذي هو تهديد لتنمية أية جماعة بشريّة، ومؤشر على نظرة تبتعد عن السماء وتهرب من آفاق الأخوّة، وتضع مصالحها الخاصة قبل كل شيء.

وتطرّق قداسته إلى احترام التقاليد الدينيّة الكثيرة في منغوليا، وهو ما تشهد عليه أماكن العبادة العديدة المحفوظة في العاصمة القديمة، ومن بينها مكان عبادة مسيحي. وأشار إلى بلوغ منغوليا حرية التعبير والحريّة الدينيّة، وإلى تجاوز البلاد، بدون سفك دماء، إيديولوجية ملحدة كانت تعتقد أن بالإمكان القضاء على الحسّ الدينيّ، وتحدث أيضًا عن التناغم بين مؤمني ديانات عديدة في منغوليا.

مساهمة الجماعة الكاثوليكيّة

كما أشار البابا فرنسيس إلى أنّ الجماعة الكاثوليكية في منغوليا “سعيدة بمواصلة تقديم إسهامها”، معربًا عن سعادته لمشاركة هذه الجماعة، بحماسة ونشاط، رغم صغرها، في مسيرة نمو هذا البلد، ناشرةً ثقافة التضامن واحترام الجميع والحوار بين الأديان، وناشطة من أجل العدالة والسلام والتوافق الاجتماعي.

وأعرب عن أمله في أن يستمرّ الكاثوليك المنغوليين، وبفضل تشريعات بعيدة النظر، وبمساعدة المكرّسين والمكرسات، في أن يقدّموا بدون مصاعب إسهامهم الإنسانيّ والروحيّ لصالح جميع الشعب، موضحًا بأنّ المحادثات الحاليّة لصياغة اتفاق بين منغوليا والكرسي الرسولي تشكّل قناة هامة لبلوغ الظروف الأساسيّة للقيام بالنشاطات الاعتياديّة التي تقوم بها الكنيسة الكاثوليكية في هذا البلد.

وفي ختام خطابه، قال البابا فرنسيس إنّ شعار هذه الزيارة “الرجاء معًا” يشير إلى الإمكانيات الناتجة عن السير معًا في احترامٍ متبادل وتعاون من أجل الخير العام، معربًا عن ثقته في استعداد كاثوليك منغوليا للإسهام في بناء مجتمع مزدهر وآمن، في حوارٍ وتعاون مع جميع مكونات هذه الأرض التي تعانقها السماء.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Social Media Auto Publish Powered By : XYZScripts.com