الانهيار بعد الاندثار: مصر كنموذج .. بقلم إبراهيم عبدالله صرصور 

بعيدا عما أحسه من صدق المرشح الرئاسي المحتمل النائب السابق احمد طنطاوي والذي يطرح برنامجا سياسيا طموحا وواثقا وعادلا ومتوازنا الى أبعد الحدود، وبعيدا عن قناعتي بأن السيسي لن يسمح لطنطاوي بخوض الانتخابات وقد بدأها الأول بمنع التوكيلات من خلال اطلاق قطعان البلطجية لمنع المؤيدين لطنطاوي من توقيع التوكيلات، واعتقال نحو سبعين من أعضاء حملته الانتخابية، وبعيدا عن فشل المعارضة في توحيد صفوفها من ورائه كمرشح يعتبر الأقوى والأكثر إقناعا على الاطلاق وذلك بعد ان دفعت  أحزاب محسوبة على المعارضة بمرشحيها لخوض هذه الانتخابات (فريد زهران/الحزب المصري الديموقراطي، عبدالسند يمامة/حزب الوفد، جميلة إسماعيل/الحزب الدستوري المصري، وآخرون)،  فقد أصابتني الصدمة وانا أتابع بقلق كبير الجدل الدائر بين مجموعات القوى الثورية المصرية حول جدوى المشاركة في انتخابات الرئاسة في نهاية العام 2023 من عدمها، وإيمان بعض هذه القوى ان فرصة تغيير النظام أصبحت مواتية ولا بد من استغلالها بهدف انهاء عشرية السيسي السوداء، الى غير ذلك من الأوهام.

ما زاد صدمتي فعلا ان مرشحي الأحزاب المنافسين لأحمد طنطاوي قد دخلوا حلبة السباق بعد تنسيق مع رئيس جهاز المخابرات المصري عباس كامل بهدف إفشال احمد طنطاوي، هدفها تحويل الانتخابات الى مسرحية ستصب في النهاية في خدمة الدكتاتور السيسي. ناهيك عن أحد المرشحين وهو فريد زهران جعل من العداء للإخوان المسلمين وعدم القبول بهم لاعبا سياسيا اسوة بغيرهم بالرغم من انهم الاعمقَ تأثيرا، والأوسعَ انتشارا، والأكثرَ تنظيما، جزءا أساسيا من برنامجه السياسي العفن، ومع ذلك يطرح نفسه كبديل للسيسي مع انه لا يقل عنه ظلامية وفسادا واستبدادا واستئصالا…

من الواضح ان مضي أحزاب المعارضة في هذا  طريق المشاركة في الانتخابات الرئاسية الصورية، معناه ليس فقط بقاء الانقلاب وتجاهل جرائمه، بل القبول فعليا وواقعا بالانقلاب كأمر واقع، والقبول بقواعد اللعبة التي حددها والتي لن تكون في صالح هدم بيته الذي بناه على دماء واشلاء ودموع المصريين، بل ستساهم في تكريس مفردات الانقلاب العسكري وشرعنته، وإطالة عمره التي قد تصل إلى عمر حكم مبارك الذي قامت الثورة لاقتلاع جذوره على اختلاف امتداداتها طولا وعرضا، وهذه هي الكارثة.  

منطلقي في نقاش هذه المسألة هو ان (السيسي) لم يفعل ما فعل، ولم يرتكب ما ارتكب من جرائم في حق مصر إنسانا ووطنا ومؤسسات وحتى دين، وهو ينوي السماح لأحد بإقصائه عن السلطة التي حازها بقوة السلاح. العكس هو الصحيح، فقد بنى (السيسي) خلال سنوات حكمه العشرة منظومة كاملة هدفها تكريس سلطته الغاشمة، وديمومة سلطته إلى ما لا نهاية، وإنْ من منطلق حماية عنقه من عدالة أي نظام يُمَثِّلُ اهداف ثورة يناير الحقيقية.

 واهِمٌ من يظن أن تغييرا يمكن ان يتحقق في مصر من خلال (الرقص على لحن ناي) السيسي ونظامه، واللعب حسب قواعد اللعبة التي حددها والتي تخدم كلها شخصا واحدا هو السيسي نفسه، بل اعتبر القبول بذلك انتحارا سياسيا بامتياز.

أذَكِّرُ هنا ان واحدا من أسباب نجاح انقلاب صعلوقٍ صغيرٍ مغمور كالسيسي وعصابته، أن ثورة 25 يناير رضيت ان تدير الشأن المصري بعد تنحي مبارك حسب القواعد التي رسمها والتي من اهم أهدافها الحفاظ على الدولة العميقة انتظارا للحظة الانقضاض على الثورة، وهذا ما حصل بالفعل. ثورة 25 يناير لم تكن ثورة بالقدر الذي مَكَّنَها من اقتلاع نظام مبارك بكل مؤسساته، وليس فقط اسقاط الرأس الحاكم والإبقاء على مؤسساته، الامر الذي كشف الثورة لمؤامرة ثورةٍ مضادة منذ اليوم الأول انتهت بالانقلاب الدموي الذي قاده عبدالفتاح السيسي.  

القبول بقواعد اللعبة التي حددها الانقلابي المجرم (السيسي)، معناه ان القوى الثورية لم تتعلم الدرس ولم تستخلص العبرة من تجارب الماضي. فبدل ان تخطط لثورة مصرية عارمة متكاملة بما ذلك الثورة الشعبية، تقتلع نظام السيسي ومعه النظام المصري العسكري التي تشكل منذ ثورة 52 انتهاء بنظام مبارك والسيسي، تعود بعض قواها الثورية للحديث عن العودة إلى حضن نفس ادوات النظام الذي ما زال مصرا على قتلها وسجنها واضطهادها وملاحقة أبنائها وبناتها، وبيع مصر في المزاد العلني…

المطلوب ثورة حقيقية تهدم مؤسسات النظام القديم ابتداء من قيادة العسكر والمخابرات والشرطة والاعلام والقضاء إضافة الى المنظومة الحكومية والمحلية، وتنظيف الدولة من أحشائها السرطانية حتى القاع، وإقامة مؤسسات جديدة بكوادر جديدة ولاؤها فقط للثورة وأهدافها.. بغير ذلك، لن يكون تغيير في مصر ولا في غيرها حتى لو بقينا ألف عام نناضل بالكلمة والقصيدة والانشودة، مع تقديري لدورها إن كان جزءا من منظومة شاملة تقف الثورة الشعبية في القلب منها، ناهيك عبر المشاركة في انتخابات محسومة النتائج سلفا… 

الحديث المتكرر عن تراجع شعبية السيسي الى أدني مستوى، واستمرار الحديث عن تردي الأوضاع في مصر وعلى جميع المستويات، كوسيلة لتوعية الشعب المطحون ودفعه للثورة على جلاديه، أمر مهم.. لكن الأهم منه، أن نكون على وعي تام بأن هذا الحديث لن يؤثر في الطغمة الانقلابية، لأن آخر ما تفكر فيه هذه الطغمة الفاسدة هو الرأي العام واستطلاعات الرأي وأوضاع الشعب.

الذي يهم الانقلابيين هو البقاء في السلطة ولو على أنقاض شعب يموت جوعا وقهرا. أما كيف، فهذا أمر هين! تزييف إرادة الشعب، والترتيب لانتخابات صورية كما حدث في الانتخابات الرئاسية والتشريعية في عهد الانقلاب، تدفع بأزلام الانقلاب دون غيرهم إلى مواقع اتخاذ القرار. لماذا تفترض بعض قوى الثورة المطالبة بالمشاركة في الانتخابات الرئاسية 2023 أن الأمر سيكون مختلفا عما جرى في 2014 و2018، او عن تلك الانتخابات التي جرت في عهد مبارك والذين جاءوا من قبله؟! 

 إذا سارت القوى الثورية في هذا النفق المظلم الذي يخطط له شياطين الانقلاب ودعاتُه ودهاتُه، فلن تقوم للثورة قائمة، وسيعيدنا ذلك الى مرحلة ما قبل الانتخابات التشريعية التي جرت في مصر عام 2010، والتي حصلت فيها أحزاب المعارضة بما فيهم (الإخوان المسلمون) على صفر مقاعدالاختلاف الوحيد – لكنه الجوهري – سيكون في أنه إذا ما أطلقت انتخابات 2010 شرارة الثورة التي انتهت باسقات مبارك، فإن انتخابات 2023 ستنتهي بالقضاء على ما تبقى من وهج ثورة 25 يناير واسقاطها نهائيا، وعندها لا ينفع الندم.  

ذاكرة الشعب المصري ليست قصيرة، فهو يذكر كيف وقف القمع السلطوي والتنكيل الحكومي والارهاب الامني على قمة الظواهر التي رافقت كل مراحل العمليات الانتخابية، حيث تحولت اللجان الانتخابية فيها الى ساحات مواجهة بين الأمن المركزي مدعومين بعصابات (البلطجية) الذين تلقوا الأوامر من أعلى المستويات في السلطة بمنع مصوتي المعارضة من الوصول الى اللجان، والوقوف بشراسة في وجه الناخب المصري الحر الذي أصر على ممارسة حقه في اختيار ممثليه مهما كان الثمن. لقد كانت النتيجة مأساوية.. قتل ودماء ودموع، حتى انفجرت الثورة التي لم تنجح في اقتلاع الدكتاتورية من جذورها، فعادت بصورة أسوأ مما كانت عليه سابقا!

الأوضاع في مصر كانت ناضجة تماما لميلاد شيء ما… الشعب كان ينتظر الفرصة السانحة… كان على موعد مع قطرة الماء التي ستسبب الطوفان… أتكون من الداخل أم من الخارج؟؟ ماذا سيكون شكلها، وماذا ستكون أدواتها؟؟ حركة طوفان التغيير جاءت مفاجئة تماما من حيث الكم والكيف، ومن حيث أدوات الفعل… جاءت كزلزال في قاع المحيط نضح أمواجا للتغيير أشبه (بتسونامي)، من قعر بلا قرار، قَلَبَ الموازين وحقق المعجزة… هل يمكن لشيء مشابه ان يحدث بعد انتخابات 2023؟ اشك في ان امرا كهذا يمكن ان يحدث وانا اشاهد بطش النظام غير المسبوق من جهة، وبعثرة القوى الثورية التي يمكن ان تقود البلاد الى تغيير جديد من الجهة الأخرى!…  

هذا التغيير المزلزل في أكثر من بلد عربي، والذي وضعنا أمام معضلة ما زالت تشغل بال الكثير من المفكرين والمناضلين على حد سواء، كان في صلب حوار عميق بيني وبين أحد الأصدقاء حول سبل التغيير في ظل أنظمة قمعية جعلت من التحكم في (معرفة المقموع) هدفها الذي تعول عليه في إحكام سيطرتها وتشديد قبضتها على الشعوب، كما يقول (ستيفن بيكو) أحد رموز النضال ضد نظام (الأبارتهايد) السابق في جنوب أفريقيا…

لقد حرصت أنظمة الاستبداد على التحكم في المشهد العام بكل تفاصيله، فإن سمحت للمعارضة بمساحة ما فبقدر ما يخدم مصالحها تتسع وتضيق بناء على ذلك، لكنها حرصت دائما على أن تظل ممسكة بالخيوط  وراسمة لحدود وقواعد اللعبة، ومحددة لأدواتها، اعني بذلك (أدوات السيد !!!) ، فلا يخرج فعل الآخر المختلف والمخالف (والمشاغب !!) في نظرها عن الحدود المرسومة، لأنه يعرف تماما أنه وفي اللحظة التي يخرج فيها عن دائرة السيد/الحاكم المرسومة، وفي اللحظة التي يختار فيها أدواته من خارج نطاق هذه الدائرة، وينتج قواعده هو للعبة بعيدا عن قواعد لعبة (السيد)، فإن ذلك يعني بالضرورة بداية هدم هذا البيت من قواعده، وإزالته بالكلية وإقامة شيء آخر مكانه مختلف تماما…

على عكس القيادات “المخضرمة” لأحزاب المعارضة والتي تميل الى التعاطي مع الواقع ب – “بواقعية!”، وصل الثوار الشباب إلى قناعة أنه لا يمكن لهم أن يغيروا أوضاعهم، كما ويستحيل عليهم أن يزيلوا كابوس الاستبداد من على صدروهم ما لم يهدموا بيت “السيد” فوق رأسه، تماما كما فعلت الثورة الإسلامية في إيران بغض النظر عن اتفاقنا او اختلافنا مع سياساتها فيما بعد…

الثورة التي لا تملك القوة لحماية انجازاتها، وتفشل في إقامة المؤسسات السيادية المنحازة لمبادئها بعد ان تهدم المؤسسات العفنة القديمة حتى القاع، وتسعى إلى تغيير النظام كاملا، وليس إلى إصلاحه، لا يمكن ان تصمد وهذا ما حصل فعلا في كل بلاد ثورات الربيع العربي بما في ذلك تونس الخضراء!   

المطالبة بالتغيير لا بالإصلاح، معناه رفض أسلوب الترقيع من الداخل… فقد أثبتت الاحداث في كل دول الثورات العربية ان “الداخل” هذا لا علاقة له بالشعب وبمصالحه الحقيقة، ولكنه الطريق إلى (تأبيد) الدكتاتورية (وتخليد) الاستبداد.

يجب ان اعترف ان هنالك من القوى الثورية وفي قلبها الاخوان المسلمون وحزب غد الثورة/ايمن نور وغيرهم، ما زالت في منتهى الحذر والانتباه من مغبة الانجرار إلى ساحة السيد المستبد، وظلوا ينأون بأنفسهم عن محاولاته المكشوفة لإرجاع (القطيع) إلى حظيرته من خلال تقديم تنازلات محدودة لا تضمن أي تغيير جذري وجدي للنظام، بل تكتفي بإصلاحات في طلاء جدرانه وترتيب غرفه على أكثر تقدير…

الشعب أراد ويريد تغيير النظام وليس إصلاحه، وهذا هو الذي سيصنع الفرق ويحقق المعجزة. المطلوب ليس تغيير استبداد باستبداد آخر، (فملة الكفر واحدة) كما يقال. بناء البيت الجديد على أسس جديدة من الحرية الحقيقية والديمقراطية الحقيقة والتعددية الحقيقة والتنمية الحقيقة، معناه فعلا الزوال النهائي لنظام “السيد” القديم… فهل سترتقي القوى الثورية المعارضة في مصر أساسا وفي غيرها، لهذا الفهم، ام ستبقى سببا في احباط شعوبها فتكون بذلك “خادمة مخلصة” لنظم الاستبداد والدكتاتورية وهي التي تسعى الى ازالتها؟!….  

**** الرئيس السابق للحركة الإسلامية في الداخل الفلسطيني       

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Social Media Auto Publish Powered By : XYZScripts.com