قصة قصيرة.. شياطين وملائكة.. بهائي راغب شراب

بعد خُلْوَة طويلة مع الشيطان، استمرت عدداً من السِنين العِجاف ، خرج السيّدُ إلى أولاده من قاع الحِلْكةِ المُرْعِبة، جَمَعَهم…

وقال: يا أولادي ماذا ترون بي؟

قالوا: سيدنا وسيدنا وسيدنا

قال: بوركتم ببركتي .. ألست بِزَوْجِ أُمكم

قالوا: نعم

قال: بوركتم ببركتي، أَلَسْتُ بِمُطْعِمِكم ومُلْبِسِكم

قالوا: بلى

قال: بوركتم ببركتي، أَلَسْتُ الحاكمُ الآمِر في هذا البيت

قالوا: بلى

قال: بوركتم ببركتي ، ألست… وألست … وألست … كل شيء أنا هنا

قالوا : بلى ، أنت سيدنا وسيدنا وسيدنا، وأنت زوج أمنا

قال: بوركتم ببركتي … ببركتي .. ببركتي .. بوركتم ووالدتكم الغائبة

قالوا: سيدنا يباركنا .. لا أحد مثلنا، لا أحد له سيد كسيدنا .. لا أحد سعيد مثل سعادتنا بسيدنا

قال: والآن أقول لكم

قالوا: سيدنا سيقول .. سيدنا سيقول .. السمع والطاعة لسيدنا

قال: اسمعوا

قالوا : سمعنا وأطعنا

قال: لا أريكم إلا ما أرى

تجرأ ولد: هذا أعظم قول سمعته في حياتي

تجرأ آخر: هذا أحكم كلام سمعته في عمري

تجرأ آخر : القول ما قال سيدنا

تجرأ آخر : وهل نعلم مثل سيدنا ،

تجرأ آخر وآخر وآخر وآخرون .. : نحن لسدينا مطية ، نحن لسيدنا جحوشا وبغالا، نحن بيد سيدنا سِيَاطاً ، نحن بيد سيدنا أَغْلالاً ، نحن.. نحن.. نحن.. له كما يشاء

نحن لسيدنا نَرْكَع .. نحن لسيدنا نسْجُدْ

***

مِنْ وَسَطِ الجُحوشِ والسِياطِ والأَغْلالِ والعبيدِ ، نَمَا إلى سَمْعِ السَيِّد صوتٌ مُخْتَلِف، هادئ، واثق، متماسك، واضح، قوي، ..

يقول: يا سيدنا .. إنك أعمى

غضب السيد: ماذا تهرف ، كيف تتجرأ .. من أين هذا الصوت المنكر ..

قال الصوت : إنك أعمى ، وكنت كذلك قبل زواجك من أُمِّنا ، وبقيت كذلك بعد زَوَاجِكَ منها..

غَضِبَ وثارَ السيّد أكثر: ماذا تَتَقَوَّل .. يبدوا أنك لم تسمع قول إخوانك قبلك، لستَ سوى جاهل تجهل ..

قال الصوت: أخبرني وأخبر إخواني .. ما لون عيني أمنا ، ما لون شعر أمنا، ما لون بشرة أمنا،

وقال الصوت : ولماذا لم تنجب أمي منك ولداً ؟ رغم أنك سيدنا ..

قال الصوت : لماذا أمنا تكرهك ، وتغتسل بدموع الندم كي تتطهر من إثم زواجها منك ..

ظل الصوت يتابع: وهل تظل السيد لو ماتت أمنا ، هل تظل السيد لو ماتت أمنا

ارتج السيد ، هدر السيد ، صرخ السيد ،

قال السيد للأولاد: هذا ليس أخيكم، دخيل يبغي تفريقا لوحدتكم، جاهل لا يعرف قيمة سيدكم،..

ارتفع صوت آخر: لكنك لم تعط أجوبة

وارتفع صوت آخر: لم نعرف أنك أعمى، لم تخبرنا.. أنك لست ترانا، ولم تر يوما أمنا ..

قال السيد مرتجا: أنتم نور عيوني

رد عليه صوت: بل كنا سلاحك البتار

قال السيد: كنتم حبي ، في قلبي سكنتم ، أضعت من أجل حمايتكم عمري

رد صوت هادر: لم يضع عمرك، نحن من ضاعت أعمارهم .. من قيدتهم .. من استعبدتهم .. من أذللت أمهم ..

قال السيد وهو يتراجع للخلف: أمكم مازالت باقية .. حية .. تتنفس مما أتنفس.. تشرب مما أشرب ، تأكل مما آكل ..

قال صوت : كذّاب أشر، بل تدنسها، تحبسها، تجوعها، تضعفها حتى لا تقوى عليك فتطردك من مجلسها ..

الصوت الأول الهادئ الواثق المتماسك : أسمعت … هذا مصداق كلامي … أعمى أنت.. عيناك مفتوحة للشر، لا تر خيراً فينا ، لا تر خيراً في أمنا، نظراتك تختلف عن نظرات عيوننا، أنت مختلف عنا ، لم تك يوماً منا، لم تشعر بمشاعرنا، لم تفرح ، لم تحزن ، لم تشاركنا يوماً لحظة حية من لحظات حياتنا ..

قال السيد بخوف: كنت أتدبر تسيير أموركم، كنت أبحث ما أطعمكم وأسقيكم، كنت أدربكم كيف تكونوا كتيبة موت لأعاديكم ..

قال صوت : لكننا أبدا لم نشبع من طعامك الشحيح، ولم نرتو من مائك الملوث، وبيوتنا ظلت مستباحة لأعدائنا .. ولجنودك..

قال الصوت الأول الهادئ الواثق المتماسك: وكنا نراك في صف أعدائنا، تأكل معهم ، تمازحهم، تسكت على اهانتهم، وما زلت تعصرنا لتقدم دمنا لهم مشروبا يحييهم ويزيد من قوتهم ،

أضاف صوت متماسك : لا نذكر كيف أتيت، ولا من أين ، ولا من زَوَّجَك لأمنا، ثم من قال أنك سيدنا..

قال السيد مرتعشا : قبل قليل أكدتم لي أني سيدكم ، وأكدتم حكمة قولي وحروفي، وأكدتم على شرعية سيادتي عليكم ..

قال صوت آخر : أعمانا عماك فعمينا، لكن النور عند وصوله أضاء بصيرتنا ..

قال صوت آخر : خفنا منك، فرقت بين الأخوة، وجعلت منا دُمىً تحركها كيف تشاء لتضرب وحدتنا ..

وزاد صوت لأخ آخر : جاء الضوء ليكشف ظلامك المدقع، وليخرجنا من حلكته الظالمة .. ليحررنا من أغلالك التي تسحرنا، وتمنع أصابعنا من الاشارة إليك بالجرم المشهود …

وزادت الأصوات .. وبصوت متصاعد … اخرج .. اخرج .. أخرج .. لن نبقيك بعد اليوم ولو صورة باهتة ..

أخرج .. وإلا أخرجناك …

***

وفجأة..

ووسط حمم الثورة، عَمَّ الكونَ سلامٌ شامل .. عم القوم اطمئنان كامل .. أحسوا بنسائم ريح طيبة تلامسهم .. وسمعوا صوتا غاب طويلا عن ضمائرهم ..

يباركهم ويقول :

بوركتم يا أولادي .. بوركتم في كل زمان ومكان،

بوركتم يا أحفاد عمر وصلاح ، يا أولاد أمكم العصماء ،

بوركتم حقا بأمر الله .. لا بأمر الشيطان ..

أنتم حقا أولادي .. أنتم حقا أولادي ..

..

سكنوا جميعا ..

اللحظة تأسرهم .. من قبل .. لم يستمعوا لمثل هذا القول،

شعروا جميعا بالزهو ..

لأول مرة تحضر أمهم رغم القيد، ورغم جدران السجن، حرة .. تكلمهم .. تثني عليهم الفعل

كيف حدث ذلك .. كيف استطاعت أن تحطم زنزانة الخوف ..

وكيف وصلت الآن لتشاركهم .. الثورة على الظلم ..

سألوها: لكن كيف .. حسبناك أقرب للموت .. لم نشعر أنك يوما حية تتنفس هواء الخير ..

ردت بحنو : أنتم أولادي من أعطاني القوة … اكتشفتم زيف الرجل الأب ..

صرختم في وجهه … فانتقل الخوف إلى قلبه .. فزُلزِل بالرعب

سألوها : أيضا كيف .. لقد كنت بعيدة … تحتاجين لأيام وأسابيع لتستعيدي عافيتك ..

ردت بحنو أكثر .. وباتسامه دافئة توزعها عليهم واحدا تلو الآخر : لقد أزلتم سحر الساحر يا أولادي .. لقد زال السحر .. بصحوتكم ، بصراخكم في وجه الشيطان … بتوحدكم حول كلمة الحق .. هززتم أركانه .. وخلعتم عنه ثوب الثقة العمياء بقدراته ..

وها أنا قد عدت إليكم لأحضنكم .. وأعيد الخير لمنبعه ..

قال الصوت الأول الهادئ الواثق المتماسك: إذن قد عدت أخيرا أماه..

عدت أخيرا يا أم الخير والبركة.. لن نفرط بك أبدا بعد اليوم ولو للحظة نوم ..

ولن نسمح أبدا للساحر أن يرجع

لن نسمح أبدا للساحر أن يرجع ..

قالوا جميعا بصوت واحد:

نعم .. لن نسمح أبدا للساحر أن يرجع ..

نعم … لن نسمح أبدا للساحر أن يرجع ..

***

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Social Media Auto Publish Powered By : XYZScripts.com