فيلم جذور .. احياء لذاكرة المكان.. الكاتب والباحث/ ناهـض زقـوت

يقول المثل الصيني: “الصورة أبلغ ألف مرة من الكلمة”، وتلك حقيقة لا مراء فيها، فقد توجه العالم اليوم إلى التوثيق بالصورة، وبث المعلومات والأفكار من خلال أفلام تسجيلية إخبارية أو تربوية، ولكن ثمة فرق كبير بين فيلم تسجيلي يبث مواد إخبارية، وفيلم تسجيلي يسجل ذاكرة.

تمثل السينما التسجيلية الذاكرة الحية التي تقدم الحياة الواقعية من خلال لوحات نابضة بالحياة تستخدم الواقع كمادة خام لها، فهي وثيقة عن المكان.

يأتي فيلم المخرج وكاتب السيناريو مصطفى النبيه (جذور) من أكثر الأفلام التزاماً وحرفية بآليات الفيلم التسجيلي إذ راعى فيه وحدتي الحدث والزمان بأسلوب فني خلاق من خلال تناول تجربة شخصية لعائلة فلسطينية مهجرة عام 1948 إلى قطاع غزة من مدينة يافا. وقد يعتقد البعض أن ما جاء في الفيلم من مادة تسجيلية هي مادة مكررة في أفلام عديدة، وهذا غير صحيح إلا من ناحية الموضوع، أما من ناحية التكنيك والإخراج الفني فقد تميز الفيلم بأنه يجمع ما بين الحكاية والسيرة المعبرة عن المكان بكل تجلياته الجمالية، وأخذت الصورة وخلفياتها أبعاداً تعبر عن دلالات ترسيخ جذور المكان.

لقد اعتمد الفيلم على التنقل والملاحظة، وانتقاء المشاهد من الحياة نفسها، لا من مشاهد ومناظر صناعية مفتعلة داخل الاستوديو، وهو أيضاً لا يعتمد على موضوعات مؤلفة أو ممثلة في بيئة مصطنعة، ولم يعتمد على ممثلين محترفين، إنما اختار شخصياته من الواقع الحي. فنجد شخصية أمال إبراهيم أبو عمارة شخصية حية تروي سيرتها وحكايتها عن المكان الماضي، وتحاول ربطه بالمكان الحالي، فهي مهجرة مع عائلتها من حي النزهة في يافا، وعمرها من عمر النكبة، لم تحمل شهادة ميلاد ولكن حافظت على هويتها بما تمتلكه من ذاكرة، ومن وثائق تعرضها في الفيلم عن أملاك عائلتها في حي النزهة، وهوية جدها عام 1935، وكذلك رخصة سلاحه المخصص لصيد الطيور، التي تبرز من خلالها معنى الحياة التي كانوا يعيشونها على أرضهم، حياة الاستقرار والترفيه والهدوء المنسجم مع الطبيعة، فقد كانت مفعمة بالسعادة وهي تروي عن يافا وحياة البلاد كما سمعتها من أمها وأبيها، وعن زراعة البرتقال وتصديره إلى دول العالم.

وكان المخرج مصطفى النبيه، يحرك الكاميرا في أحياء وأماكن غزة القديمة والحديثة عوضاً عن عدم قدرته على نقل المشاهد الحية في بيئتها الأصلية، فنجد أمال أبو عمارة تتجول في المكان الذي عاشت فيه أسرتها بعد الهجرة وهو الحي القريب من الجامع العمري بغزة، فهذا المكان الأثري والتاريخي لا يقل مكانة أثرية وتاريخية عن حي النزهة، وهنا عاشت سني حياتها الأولى ودراستها الأساسية قبل أن تنتقل عائلتها للعيش في مخيم المغازي.

في محاولة لتعميق الذاكرة تتحرك الكاميرا مع أمال أبو عمارة في مقبرة المغازي حيث يرقد قبر والدها إلا أنها لم تجده، فقد دمر الاحتلال شواهد القبور فلم تتعرف على قبر والدها، وهنا تقول: “لم يرحمونا أحياء أو أمواتاً”، وتأخذ في رسم معالم مأساة الفلسطيني الذي شرد بفعل النكبة وتعدد مقابرهم بعد أماكنهم، فأخويها دفنا في مقبرة القاهرة، وأختها في مقبرة السعودية، وأختها الأخرى في مقبرة ليبيا، وأخيها الأكبر الذي تخرج من المدرسة العامرية في يافا، وأحيا تلك المدرسة في المغرب بأنشاء مدرسة تحمل اسم العامرية، توفى ودفن في مقبرة المغرب، وما زالت عائلته تعيش هناك، هذا هو واقع الشعب الفلسطيني بعد أن هجر قسرياً من أرضه إلى المنافي والشتات.

أن تسجيل الذاكرة اعتمد على تسجيل أحداثاً وقعت بالفعل، يعمقها من خلال التبادل السردي ما بين شخصية أمال وزوجها علي طقش ابن بلدة أسدود الذي يروي الأحداث التاريخية التي مر بها كنموذج لمأساة الفلسطيني ومعاناته، حيث يبدأ من الهجرة، والحياة في البلدة، فهذا والده الفلاح المزارع الذي أصبح تاجراً، والذي يعشق بحر أسدود والسباحة فيه، ويستشهد عام 1948، وتعيش الأسرة مأساة اللجوء والتشرد، ولم تتركهم الطائرات الإسرائيلية، بل لاحقتهم في المخيم عام 1956 وهناك يستشهد أخيه عبد الله، ويصاب أخيه عبد الحميد في يده، وياسين في القدم. ثم سفره إلى مصر للدراسة، وشعوره بالنضج السياسي والثقافي.

ما زالت ذاكرة آمال مفعمة بذكريات البرد والجوع وقسوة المخيم، وقصف الطائرات وغارات الصواريخ، فتذكر قصف منطقة الزيتون التي عاشت فيها مع عائلتها عام 1956، ودراستها في مدرسة الزهراء الثانوية ومديرتها يسرى البربري التي كان لها دور كبير في ترسيخ ثقافة العودة لدى طالبات المدرسة. وتتحرك الكاميرا باتجاه المنزل الذي كان في حي الزيتون، فنشاهد أطلال المنزل، وهي تتحرك مع الكاميرا وتتنقل من شارع الكمالية هذا الشارع الذي تذكر مقتل طفلة فيه عام 1956، ونقلها راهب الكنيسة، ذكريات كثيرة ترويها عن بيوت غزة القديمة، تلك الذكريات ما زالت حية وراسخة في أعماقها منذ خمسينيات القرن الماضي، وما زالت نفس الأحداث والمآسي تلاحق الفلسطيني بعد ما يزيد عن سبعين عاماً من اللجوء والتشرد.

تتمازج صور الماضي مع صور الحاضر دون إحساس بالتناقض، فتاريخ الصورة ما زال حاضراً في الذاكرة، وصورة الحاضر هي ما تعيشه أمال أبو عمارة بعد عودتها إلى قطاع غزة إثر اتفاق اوسلو، وقد أصبحت باحثة في التعليم المتكامل.

إذا كانت الغربة هي عدم الإحساس بالمكان، فقد ركزت الكاميرا على إبراز تجليات المكان وجمالياته، لكي تعمق الإحساس بالمكان المفقود، وهنا ركزت الكاميرا كثيراً على مشاهد البحر حيث وضعت الزوجين في كادر الصورة على الشاطئ يتمشيان، أو على سفينة في قلب البحر، أو يروي ذكرياته على مقعد على الشاطئ. إن البحر يعطينا دلالة على فضاء الحرية التي بدأ الزوجين الشعور بها بعد عودتهم إلى وطنهم. لذلك تتجول الكاميرا معهم في منزلهم، وفي شوارع مدينة غزة، وفي منتزه البلدية، وفي الجندي المجهول، وفي شوارع المخيم، وفي أماكن غزة القديمة، فالكاميرا لم تستقر على الشخصية لتروي، بل أخذت الشخصيات إلى أماكن متعددة لكي تروي ذكرياتها، فكانت دائمة التنقل والحركة، مما أعطي للفيلم قيمة بصرية جمالية عالية.

كانت العودة بالنسبة لهم حلم تحقق، وكما قال الزوج “العودة إلى غزة هو الحلم الأصغر، فيه نجمع العائلة على أرض فلسطين، على أمل أن يتحقق الحلم الأكبر بالعودة إلى أرضنا”، ويحكي عن تغيرات النظرة بين الأجيال في مسألة الهوية، وذلك بتأثيرات النكبة. فهو يختلف عن أبنائه في مسألة الحنين إلى الوطن، حيث أغلبهم في بلدان أوروبية، لم يعرفوا فلسطين إلا من خلال الصورة أو الحكاية، أما هو فمازال عشقه الدائم للعودة راسخاً في وجدانه وذاكرته، ويتطرق إلى العلاقات العربية اليهودية في فلسطين التي كانت حسنة وثمة تعاون، ولكن الصهيونية قلب معادلات تلك العلاقة.

بعد العودة عمل الزوج في بلدية غزة، أما الزوجة فقد أعاد لها الوطن ما كانت تشاهده في البلدان التي زارتها من عملية الربط بين التعليم واللعب، واهتمام الشعوب بإحياء تراثها، فبدأت تجربتها الذاتية في تعليم الأطفال وإحياء أشكال التراث الشعبي الفلسطيني لدى الأجيال الجديدة، ومنها الأغاني التراثية، والألعاب القديمة، وأغاني الأفراح، والطائرات الورقية التي تبنتها وكالة الغوث، ورسمت الكاميرا ملامح من تلك الألعاب بطريقة حية وفعل مباشر. وهنا استعان المخرج بعدد من الأطفال لكي يعمقوا المشهد بتمثيل مشاهد حية من هذه الألعاب أو الأغاني، أما أغاني الأفراح فكانت النساء حاضرات ليمثلن مشهد الفرح كما رسمته أمال برؤية تراثية لتلك السيدات.

وإذا غاب المكان في أذهان الأطفال يبقى التراث أداة لترسيخ جذور المكان في الذاكرة، ومن خلال التعليم نستطيع أن نبقي ذاكرة أجيالنا الجديدة حية ومتفاعلة، تلك هي رسالة المخرج التي حاول أن يوصلها من خلال شخصية أمال أبو عمارة وزوجها. وقد نجح كثيرا في رسالته، فيشعر المشاهد بأن ثمة ترابط وانتماء للمكان لدى الفلسطيني، ناقضاً بذلك كل محاولات التزييف التي تبثها الحركة الصهيونية، لهذا نعتقد أن رسالة المخرج لم تكن للواقع المحلي الذي يعرف كثيراً عن تفاصيل الحكاية، إنما هي رسالة للرأي العام الأوروبي والغربي الذي يصدق الرواية الإسرائيلية الزائفة. فيقدم له الفلسطيني صاحب الحكاية والرواية بشخصيته وبلسانه ليروي حكاية المكان الذي فقد جذوره فيه، ولكنه ما زال محافظاً على هذه الجذور بالذاكرة والتراث.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Social Media Auto Publish Powered By : XYZScripts.com