المرأة الفلسطينية…عنوان الكرامة.. مجموعة ” زهرة الأقحوان” النسائية المقاتلة 

مهند إبراهيم أبو لطيفة 

لا تحتاج المرأة العربية أو المرأة الفلسطينية للاحتلال، للتأكيد على مكانتها ودورها الحضاري المتميز، فهي رائدة منذ فجر التاريخ، لكن وجود هذا الكيان ما زال يفرض التأكيد المستمر على دورها في جميع مراحل التاريخ الفلسطيني المعاصر، وفي جميع أماكن وجودها في الوطن والشتات وفي المنافي البعيدة.

فرض الاحتلال الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني بجميع أطيافه ومكوناته، واقعا سياسيا واقتصاديا واجتماعيا غير طبيعي، كانت المرأة الفلسطينية بالذات هي أكثر من تحمل ويتحمل تبعاته على مختلف الأصعدة، فهي تعاني بغض النظر عن موقعها ووظيفتها الاجتماعية معاناة مضاعفة. وعلى الرغم من ذلك، تحملت ولا تزال مسؤوليتها الإجتماعية والوطنية، وكانت شريكا في النضال من أجل حق شعبها في الحرية والإستقلال والحياة الكريمة. وأسهمت بشكل يستحق التقدير والإحترام في كل معارك الحركة الوطنية الفلسطينية، ومثلت الرافد الأهم لإستمرار ديمومتها وعنفوانها، والحفاظ على كيان الشعب الفلسطيني وهويته الوطنية وإستمرار صموده ومقاومته بكل إرادة وعزيمة.

لم تثني المجازر، الإقتلاع من الأرض، العيش في المخيمات والمنافي، الحرمان من أبسط الحقوق الإنسانية الطبيعية، المرأة الفلسطينية من أن تفرض حضورها وترتقي بفضل كفاحها لأرفع المستويات في السلم الإجتماعي، الثقافي، التعليمي، السياسي، ولكن أيضا في ممارسة الفعل المقاوم بكل صوره وأشكاله بما فيه العمل العسكري، والكفاح المسلح.

عرفت كثير من الساحات ، المرأة الفلسطينية في طليعة من يمارس العمل المسلح، وبشكل مباشر في وجه الإحتلال، وتكفي الإشارة السريعة لجزء من هذا التراث المشرف، عندما نتذكر أن أول نشاط سياسي نسائي في فلسطين، كان عام 1893 في العفولة، حيث خرجت النساء الفلسطينييات في مظاهرة إحتجاجا على إنشاء مستوطنة في ذلك الوقت، ومنذ ذلك التاريخ وحضور المرأة الفلسطينية في الحياة السياسية يزداد رقيا وتطورا واتساعا عبر الإتحادات النسائية، والجمعيات المختلفة، ومن خلال التنظيمات والأحزاب الوطنية، ومرورا بآلاف من المناضلات من مثل:

 عايدة سعد، فاطمة برناوي، فتحية عوض الحوراني، شادية أبو غزالة ( بنت نابلس وأول شهيدة في الثورة الفلسطينية) ، فاطمة غزال، أخوات القشام في حيفا القديمة، ليلى خالد، دلال المغربي، فاطمة النجار،وآيات الأخرس ( الشابة المتفوقة التي نفذت عملية إستشهادية قبل تخرجها وزفافها في عام 2002) . كوكبة طويلة من الرائدات الحرائر الماجدات، تنضم لأخواتهن العربيات: زهرة ظريف وجميلة بو حيرد، وحسيبة بن بوعلي من الجزائر، سناء محيدلي وإبتسام حرب من لبنان زهرات الحزب السوري القومي الإجتماعي، ونازك العابد المناضلة السورية التي شاركت في معركة ميسلون، وعشرات النساء العربيات أخوات خولة بنت الأزور و فاطمة الفهري، نسيبة بنت الحارث الأنصاري، رفيدة بنت سعد، زينب بنت أب جعفر ، الملكة ضيفة خاتون، زينب الشهدا، مريم الأسطرلابي ،  في باقي الأقطار العربية من المحيط إلى الخليج.

يسجل تاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية، مشهدا مهيبا من مشاهد الكرامة للمرأة الفلسطينية ، عُرف تحت إسم  مجموعة “زهرة الأقحوان” النسائية المقاومة. وهي أول  تشكيل عسكري نسائي فلسطيني، تأسس عام 1947 بمبادرة من الشقيقتين مهيبة وناريمان خورشيد ، وإنضم إليه عدد من النساء الفلسطينيات وبعض الشباب العرب. بدأ التشكيل كجمعية نسوية تطوعية إجتماعية، تقدم  الإغاثة والعون للمحتاجين من النازحين، وعندما شاهدت مهيبة خورشيد كيف يقتل أحد الأطفال الصغار ولم يتجاوز عمره السادسة، على يد الصهاينة، قررت الإنتقام، وبدأت في جمع التبرعات لشراء السلاح والتدريب للمشاركة المباشرة في الكفاح المسلح ضد العصابات الصهيونية ، كذلك فعلت شقيقتها ناريمان التي صرخت عند رؤيتها ما يحل بشعبها: ” ماذا حل ببلاد العرب؟ “.

ولدت مهيبة خورشيد في عام 1921 في مدينة يافا الفلسطينية، تخرجت من المعهد العالي للمعلمين في القدس، ثم عادت إلى يافا لممارسة عملها كمدرسة للفتيات في المدارس الثانوية. عاشت في يافا متأثرة بالأجواء الثقافية والوطنية والعلمية المتميزة ، اهتمت بالأدب والفن والصحافة ، ثم التحقت بجمعية السيدات العربيات وقامت بتأسيس جمعية ” زهرة الأقحوان”، دعت لتعليم المرأة وفتح المجال لمشاركتها بفعالية في خدمة المجتمع عبر العمل العام.  ولنشاطها السياسي قامت السلطات البريطانية بإستدعائها للتحقيق عقب مشاركتها في التظاهرات مع أختها ” عربية”.

عندما تحولت الجمعية إلى مجموعة مسلحة مقاتلة ، شاركت عدد من النساء في نشاطها، عُرف منهن: يسرا طوقان ، عدلة فطاير، فاطمة أبو الهدى، نجلاء الأسمر، صبحية عوض، خديجة كيلاني، مديحة البطة، ميسر ضاهر، سنية إيراني، فايزة شلون، مبرة خالد.

عند سؤالها عن سبب تسمية الجمعية بهذا الإسم، أشارت مهيبة خورشيد،  إلى أنها  تدل على الحياة والجمال والمقاومة ، وهي مستوحاة أيضا من الزهرة القرمزية في الثورة الفرنسية، إضافة لإنتشارها بكثرة في ربوع فلسطين، وذكرت أنها سافرت خصيصا إلى مصر قبل النكبة، وحاولت تعلم الطيران في معهد عسكري في إمبابة، وما زالت عائلتها تحتفظ بصورة لها وهي في زي الطيران.

بتاريخ 7 أبريل عام 1948 ، نشرت صحيفة ” المصري” الصادرة في دمشق مقالا تحت عنوان :

” المرأة العربية في ميدان التحرير”، اشتملت على مقابلة مع ناريمان خورشيد، ومما جاء فيها:

” وشرحت لي هذه السيدة التي تبلغ الخامسة والثلاثين من العمر، أن حركة التجنيد بين الفتيات العربيات ناشطة على قدم وساق، وأن كثيرا من العائلات العربية المحافظة سمحت لفتياتها بالتدرب على إستخدام الأسلحة، للدفاع عن البيوت العربية من إعتداءات الإرهابيين الصهاينة. وقد حدث في أحد المرات أن حاولت تشكيلة من فرقة الهاغاناه، مهاجمة مركز الأيتام الإسلامي في يافا، فانبرى لها المجاهدون العرب، وإلى جانبهم عشرة من فرقة زهرة الأقحوان. إستمرت المعركة ثلاث ساعات، استشهد خلالها فتاة عربية، وتمكن الفدائيون من دحر القوات المهاجمة “.

أثناء بحثها في إرشيف “الهاغاناه”، في مدينة تل أبيب، وجدت المحامية تغريد جهشان، رسالة موجهة من كتيبة زهرة الأقحوان، للحاج أمين الحسيني، وهي موجودة بالإرشيف تحت رقم 105/122، مؤرخة ب 16 آذار/ مارس من عام 1948، ونشرت على موقع عرب 48 ، بتاريخ  8 آذار 2016. وكما سيتضح من سياق الرسالة، فهي تحمل شكوى من معاملة الشيخ حسن سلامة والقائد العام لمنطقة يافا عادل نجم الدين العراقي، وقائد منطقة الجبلية عبد الباري الهنسي، لمنعمهم من الإستمرار في العمل المسلخ، ربما لأسباب عشائرية أو تقليدية إجتماعية، لأن مهيبة خورشيد أكدت في مقابلة معها، أن المجاهدين العرب قدموا لمجموعتها الحماية، وأنها كادت أن تقع في الأسر بعد نفاذ ذخيرتها لولا تدخلهم، وتؤكد في الرسالة أيضا على إصرار المجموعة النسائية على حقها في ممارسة النضال المسلح.

رسالة كتيبة زهرة الأقحوان للمفتي الحاج أمين الحسيني:

” لقد وجدت جمعيتنا لزاما عليها الإنضمام لحرب الجهاد المقدسة،للمشاركة مع إخوتنا المناضلين بالدفاع عن أرضنا المقدسة من أجل إرجاع الأرض وكرامة نسائنا العربيات من العهود السابقة اللواتي تركن صفحات من العزة والكبرياء في الفتوحات العربية…فهذا هو حقنا القانوني الواضح وضوح الشمس.

لقد إنضممنا إلى المحاربين في منطقة كرم الصوان وسكنة درويش ، بسبب قربهما من أماكن سكننا، وبذلك نستطيع العودة إلى بيوتنا عند إنتهاء المعارك. لقد تركنا إنطباعات إيجابية على المسؤولين عن المنطقة، وخاصة على القائدين عبد الوهاب العراقي، وعلي بيه التركي، اللذين كانا يحضران للمنطقة ويشاهدان ويسمعان بأعينهما عن أعمالنا المشرفة. والدليل على ذلك ما كُتب في صحيفة الدفاع: ” النساء العربيات في صفوف المحاربين الأولى”، وما جاء في صحيفة فلسطين:” زهرة الأقحوان ، تعيد للمرأة العربية كرامتها الماضية” والكثير من المقالات في صحف الدول المجاورة.

وتكمل الرسالة: 

” إن الشيخ حسن سلامة ومعه القائد الجديد عادل نجم الدين، قد ضايقنا ومنعنا من الإستمرار بعملنا، بالرغم من أننا لم نره في المناطق التي عملنا بها، ذلك بسبب موقفه الداعم لقائد منطقة الجبلية الذي لا يعجبه النشاط الجدي في منطقتنا، نتيجة دعمنا ومضايقتنا لراحة اليهود في منطقة (بات يام)، حيث كبدناهم خسائر جمة بالأرواح والمركبات ولم يكن لطرفنا أية خسائر.

وعندما إتضح للشيخ حسن سلامة أنه لن يثنينا عن عزمنا ونضالنا، أوقفنا عن العمل بأوامر صارمة، وإذا كانت قد صدرت أوامر بمنعنا من الجهاد، فلماذا دُعيت بعض الجمعيات النسائية للمشاركة بالإحتفال الذي أقامته اللجنة العليا على شرف القادة العرب والبريطانيين، وتم تقديم عضوة جمعيتنا أمام القادة البريطانيين، على أنها فتاة عربية محاربة، تُحسن إستعمال السلاح، الأمر الذي أثار تقدير الحاضرين وبعض القادة البريطانيين قالوا: “سوف نحارب إلى جنبكم بالقريب”، وأما سكرتير اللجنة السيد أمين عقل وأحد الأعضاء الدكتور عازر، فقد عبرا عن إعجابهما بنا.”

 ملاحظة: وقعت الرسالة بإسم جمعية زهرة الأقحوان، مع ملاحظة تخصيص نسخة منها لتصل إلى الأمين العام لجامعة الدول العربية، عبد الرحمن عزام باشا، قائد جيش التحرير من دمشق.

إنتقلت الشقيقتان خورشيد للعيش في مصر بعد النكبة، حيث تزوجت وهيبة والتحقت بسلك التدريس، ولم تسمح لها سلطات الإحتلال بالعودة حتى وفاتها عام 2000. وقبل وفاتها في عام 1998 ، أجرت الباحثة آمال الآغا برفقة فيحاء عبد الهادي، مقابلة مع الشقيقتين في القاهرة، أثناء التحضير لكتاب عن أدوار المرأة العربية الفلسطينية في الأربعينيات، صدر عام 2006. عرف القسم السري لمنظمة ” زهرة الأقحوان ” وهذا نصه:

” أقسم بشرفي وديني وملتي، على موالاة مبدئي، وبذل الغالي والنفيس في سبيل الخير والمساعدة لكل محتاج وضيف، أشهدت رب العالمين على ما ذكرت، كما أنني لا أبوح به حتى الموت “، وقع على القسم – إضافة لمهيبة وناريمان-  كل من : صبيحة عوض، خديجة كيلاني، مديحة البطة، نجمة عكاشة، ميسر ضاهر، سنية إيراني، فايزة شلون، معبرة خالد.

تجدر الإشارة أن مهيبة خورشيد كانت معلمة لمادة الرياضيات، وابدعت في مجال الرسم والنحت والعزف على الكمان، وشاهدها  الكاتب والصحفي مسلم بسيسو ( ولد عام 1926 في بيسان) شخصيا بلباسها العسكري كما صرح بنفسه. أما شقيقتها ناريمان التي ولدت عام 1927 في يافا، ، فكانت خطيبة مفوهة، شاركت في التدرب على الطيران في معهد إمبامبة ، وعاشت في مصر إلى أن توفيت في 18 شباط 2014، بعد حياة حافة بالعطاء.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Social Media Auto Publish Powered By : XYZScripts.com