أمريكا ستنسحب من الشرق الأوسط، ثمّ ماذا بعد؟/ عميرة أيسر-كاتب جزائري

في إطار إستراتيجية إعادة التموضع الاستراتيجي، التي يتّبعها الحزب الديمقراطي منذ عهد الرئيس الأمريكي باراك أوباما، والقاضية بإعادة الانتشار  للقوات الأمريكية في مناطق غير تقليدية لحماية الأمن القومي الأمريكي، من خطر القوى والدول وحتىّ المنظمات الإرهابية، كما تعرف دوماً في الأدبيات السّياسية والأمنية والاستخباراتية الأمريكية، قامت إدارة الرئيس جو بايدن التي تعتبر امتداداً لإدارة أوباما السّابقة، بإكمال خطة الانسحاب التكتيكي المتوازن وهي الإدارة التي كان يشغل فيها  بايدن منصب نائب الرئيس وذلك خلال الفترة الممتدة ما بين 20ينار/جانفي 2009م إلى غاية 28ينار/جانفي 2017م.

وهي الفترة التي شهدت تغييراً حاسماً في السّياسة الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط بالأساس، حيث قام أوباما بالانسحاب من العراق سنة 2011م حيث سحبت القوات الأمريكية معظم جنودها البالغ 165ألف جندي ثمّ انخفض الرقم إلى حوالي 39ألف بعد أن بلغ ذروته عام2008م، بالرغم من أن أمريكا لا تزال تستغل 18 قاعدة عسكرية في العراق وبعد أن أرادت هذه الحرب حسب التقديرات إلى مقتل حوالي 400 ألف جندي أمريكي، وأكثر من 175 ألف مدني عراقي. حسبما نشر موقع  BBC NEWS بتاريخ 21 أكتوبر/ تشرين الثاني 2011م في مقال بعنوان ” أوباما يعلن انسحاب القوات الأمريكية من العراق بحلول نهاية العام”.

وركزت إدارة الرئيس جو بايدن سياستها الخارجية المستقبلية على كيفية الحفاظ على قوة أمريكا و إعادة بناء مجدها وعظمتها مرة أخرى وذلك من خلال تعزيز قوتها التكنولوجية والعسكرية بأسلحة متقدمة ومتطورة و أشدّ فتكاً  تطوراً وتزويدها بمنظومات الحروب السيبرانية، وهذا ربما السبب الذي دفع بايدن للاجتماع مع كبار عمالقة رؤساء شركات التكنولوجيا الكبرى في بلاد العمّ سام مثل شركات أمازون و أبل ومايكروسوفت في البيت الأبيض، لمناقشة تطورات الأمن السيبراني وسبل تعزيزه وذلك بعد أن خسر الاقتصاد الأمريكي مليارات الدولارات وتمّ اختراق أجهزة أمنية وحكومية على درجة عالية من الحساسية والأهمية، في عهد الرئيس السّابق دونالد ترامب وازدياد الاستياء الأمريكي الرسمي. بعد اختراق شركات ” سولاروتيد” و ” كولونيال بايبلايني” كما ذكر موقع رؤية الإخباري في مقال نشر بتاريخ 24 أوت/ أغسطس 2021م وكان عنوانه ” تقارير” بايدن” يجتمع مع رؤساء شركات التكنولوجيا الكبرى لمناقشة الأمن القومي السيبراني”.

بالإضافة إلى أنّ الولايات المتحدة الأمريكية تعيش منذ فترة حرباً اقتصادية مع العملاق الصيني حيث فرضت واشنطن عقوبات اقتصادية  على الشركات الصينية الكبرى مثل شركة “هواوي” وكذلك قامت بفرض تعاريف جمركية مرتفعة للسماح بدخول البضائع والسّلع الصينية للأسواق الأمريكية والتي أصبحت تنافس حتى السّلع الأمريكية من حيث الجودة و الأمان و تباع وبأسعار تنافسية ولم يعد الاقتصاد الصيني يعتمد على التقليد، و السرقات العلمية والابتكارية والتي كانت ولا تزال من الأمور التي تغض عنها الحكومة الصينية الطرف لحاجة في نفس يعقوب، بل أصبحت تلك الشركات تعتمد على الإبداع وتستخدم أحدث ما توصلت إليه التكنولوجيا العالمية من تقنيات وفي مختلف المجالات، إلاّ أنّ الناتج المحلي للصين بالرغم من تلك العقوبات الظالمة حقق حوالي 14 ترليون دولار في سنة 2019م مقابل 21 ترليون دولار كناتج قومي للولايات المتحدة الأمريكية. حيث حسب مقال نشر بموقع SUBSCRIBE بتاريخ 30 أفريل/ نيسان 2021م، بعنوان ” الوجهان المختلفان للتاريخ المحلي الإجمالي الصيني” .

وقد نما الناتج المحلي الإجمالي في الصين بنسبة 79 بالمائة في الربع الثاني من العام 2021م من أبريل/ نيسان إلى يوليو/ حزيران مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي. حسبما ماقاله مكتب الإحصاء الوطني الصيني وكان معدل النمو هذا أبطأ بكثير من الزيادة السنوية البالغة18.3 بالمائة و أدى إلى حدوث  تراجع اقتصادي كبير  في أوائل عام 2020م، مع انتشار جائحة كورونا حسب موقع BBC عربي في مقال نشر بتاريخ أوت/ تموز 2021م جاء تحت عنوان ” الاقتصاد الصيني ينمو بنسبة 7.9بالمائة في الربع الثاني من 2021م”.

فالنمو الذي شهده الاقتصاد الصيني يشير إلى أنّ الصين سوف تصبح القوة الاقتصادية الأولى عالمياً مستقبلاً وبالتالي فهو يهدد الاقتصاد الأمريكي الذي بالرغم  من أنه يتربع على عرش الاقتصاد العالمية  إلى أنّ وتيرة تغير الأوضاع الجيواستراتيجية في العالم، تؤكد على أنه سيصبح في المرتبة الثانية وحتى الثالثة في ظرف العشرين سنة القادمة على أقصى تقدير. فسياسة الولايات المتحدة الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط والتي اعتمدت منذ حرب الخليج الأولى في سنة 1991م على التدخل المباشر لحماية مصالحها الاستراتيجية هناك وإقامة مجموعة من القواعد العسكرية في الكثير من دول المنطقة، مثل قطر والأردن والبحرين والسعودية والكويت والكيان الصهيوني…. الخ والتي صرفت عليها مليارات الدولارات وكانت بمثابة قواعد أمامية متقدمة لشنّ حروبها على أفغانستان في 2001م والعراق في سنة 2003م وقصف كل من سوريا وليبيا عقب ثروات الخراب العربي سنة 2011م. قد أصبحت في عهد بايدن عبأً على المجهود الحربي والأمريكي.

وهذا ما لمّح إليه في خطابه الأخير الذي ألقاه لشرح أسباب الانسحاب الأمريكي من أفغانستان و أخر التطورات في هذا الملف بعدما انسحبت أمريكا من هذا البلد وهي مذمومة مدحورة بعد 20 سنة، وبعد أن فقدت أكثر من 1909 جندي أمريكي حسبما ذكرت صحيفة “تايمز أوف إسرائيل” مشيرة إلى أنّ أكبر خسارة في الأرواح سجلت يوم 6 أغسطس/ أوت 2011م عندما أطلق متمردون النار على عربة من طراز “شينوك” كانت في مهمة ليلية في مقاطعة وردك جنوب غرب كابل،  وأدى ذلك إلى مقتل 30 من أفراد الجيش الأمريكي و 22 من قوات العمليات الخاصة التابعة للبحرية الأمريكية بالإضافة إلى ثمانية أفغان وكلب عسكري أمريكي. كما ذكر موقع RTالروسي بتاريخ 27أغسطس/ تموز2021م بعنوان “تقرير” الجيش الأمريكي في أفغانستان يتعرض لأكبر خسارة يومية بالأرواح منذ 2011م”

بالإضافة إلى خسارة حوالي 2 ترليون دولار، بمعدل أكثر من 100 مليون دولار يومياً حيث كان عدد الجنود الأمريكان ما بين عامي 2010م و 2012م أكثر من 100 ألف جندي في البلاد وارتفعت تكلفة الحرب إلى ما يقارب 100مليار دولار أمريكي  سنوياً وذلك وفقاً لأرقام الحكومة الأمريكية.

حسب مقال نشر على موقع BBC عربي نشر بتاريخ 19نيسان/أفريل 2021م بعنوان” الحرب في أفغانستان كم كلّف ذلك الصراع الولايات المتحدة الأمريكية”، وبالتالي فالانسحاب الأمريكي من أفغانستان  سيتبعه بالتأكيد تقليص لعدد القوات الأمريكية في مناطق أخرى من العالم ومنها منطقة الشرق الأوسط. حيث أعلنت وزارة الدفاع الأمريكية أنها بدأت خفض أنظمتها الدفاعية الجوية في الشرق الأوسط بعد أن كانت تعمل على تعزيزها في عامي 2019م و2020م على خلفية توترات مع إيران مؤكدة بذلك معلومات أوردتها صحيفة “وول ستريت جورنال”.

وقالت المتحدثة باسم البنتاغون جيسيكا ما كنتوليتي في بيان” إنّ وزير الدفاع لويد أوستن، أمر(….) بأن يتمّ خلال هذا الصيف سحب القوات والقدرات من المنطقة” مشيرة إلى أنّ الأمر يتعلق” بشكل رئيسي بمعدات الدفاع الجوي” وأضافت” بعض هذه المعدات سيعاد إلى الولايات المتحدة الأمريكية للصيانة، والإصلاحات التي أصبحت ضرورية للغاية والبعض الأخر سينقل إلى مناطق أخرى”. مثلما ذكر موقع DW بتاريخ 19 جوان/ يونيو2021م بعنوان” واشنطن تسحب أنظمة دفاعية من دول عربية، وتبقي على الجنود”.

و سيجد حلفاء الولايات المتحدة الأمريكية وعلى رأسهم الكيان الصهيوني بالتالي أنفسهم مكشوفين أمام أعدائهم كإيران أو سوريا ويجب عليهم الاعتماد على أنفسهم على لحماية أمنهم القومي، عن طريق اتباع سياسة التحالفات الاستراتيجية بين هذه الدول كالإمارات ومصر والسعودية التي يجب أن تعزّز تعاونها العسكري والأمني والاستخباراتي في ظلّ التهديدات الإقليمية التي لا تنتهي، وأيضاً فإنّ هذا الانسحاب سيفتح المجال لأعداء أمريكا التقليديين كإيران وروسيا والصين، للعب دور أكبر في المنطقة بما يخدم مصالحهم الحيوية في المقام الأول بكل تأكيد وبالتالي فإنّ كل الدول التي وثقت بأمريكا في المنطقة قد خذلتها مرة أخرى، وأثبتت السّياسة الأمريكية البرغماتية للجميع أن مصالحها الجيواستراتيجية و أمنها القومي فوق كل التحالفات والاعتبارات والصداقات.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Social Media Auto Publish Powered By : XYZScripts.com