إضفاء الطابع اللامركزي التصاعدي على قطاع الطاقات المتجددة في المغرب/ بقلم: يوسف بن مير- مراكش

تعج المملكة المغربية بالروح الريادية، والآمال والطموحات الصادقة الرامية لخلق إنجازات تنموية تواكب وتتناسب مع رحلة تطور الإنسان. وتقر البنود المسطرة بين دفات دستورها وقوانينها وسياساتها وبرامجها بأن إشراك أفراد المجتمع عنصر أساسي لا غنًا عنه لتحقيق النتائج المثلى، بما في ذلك التنمية المستدامة ورضا الشعب.

على مر العصور والأزمان، كانت مدونة الأسرة التي تبنتها الأمة بمثابة ركيزة أساسية للمجتمع، تدعو إلى العدالة والإنصاف بين المرأة والرجل، وعلى الأخذ بالقيم والخبرات التي تحترم الجنسين. وعليه، وبناءً على نظرته التاريخية المستنيرة وعلى الدروس استقاها من تجارب عالمية أخرى، فقد عمل المغرب بجد لتوجيه سلطة الحكم وصناعة القرار صوب الشؤون التي تهم الناس أكثر من غيرهم، على أن تبقى المناصب الإدارية المعنية بينهم وأقرب إليهم. فالأمر يعلق هنا أيضًا بمسألة الاعتراف بكرامة بني الإنسان: جل القرارات التي يتم فرضها من مناصب وجهات بعيدة عن أرض الواقع نادرًا ما تكون مناسبة، أو بالأحرى مفيدة، إذا ما قورنت بتلك التي يتخذها الناس لأنفسهم، جنبًا إلى جنب مع عائلاتهم وبين جيرانهم وأفراد مجتمعهم.

وفي إطار الالتزام الوطني للنهوض بقطاع الطاقات المتجددة، تبذل البلاد جهودًا غير مسبوقة لخلق بيئة مجتمعية متوازنة، ليس فقط بين الأشخاص بعضهم بعضًا، بل وحتى في علاقتنا مع الطبيعة الأم. ويسلط المغرب ضوء اهتمامه، التي تأبى باقي دول العالم إلا أن تلاحظه، على مجال الطاقات المتجددة مدعومًا في ذلك بإرادة مالية وجدية سياسية، مما جعله مصدرًا حيًا للإلهام. وتعد هذه الخطوات جزءًا لا يتجزأ من النهج التحولي الذي تبناه المغرب في قطاعات حيوية أخرى، التنموي منها والمجتمعي.

مع ذلك، ومع كل هذه الفرص الكثيرة المتاحة في البلاد، إلا أن هناك صعوبات وأوجه تقصير، صارخة ومؤسفة في بعض الأحيان، تحول دون تنفيذ هذه المخططات. لا شك في أن المغرب يستحق كل التقدير على صدق نواياه. ولا يحتاج المرء لإدراك هذه الحقيقة إلا أن ينظر إلى تقرير اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي الجديد (تحت القيادة السامية لملك البلاد)، لفهم مدى توافر الفرص، والجوانب التي تفتقر لبعض التوفيق في الإنجاز، لتختتم اللجنة تقريرها بالإلحاح على ضرورة رسم مسار تخطيطي بمعايير عمل مغايرة.

وتتجلى أهمية التزام المغرب الحالي، أي إضفاء الطابع اللامركزي على القطاعات الحيوية كما نصت على ذلك المادة 1 من الدستور، في كونه يخلق نظامًا يمنح المجتمعات المحلية القدرة على تحديد وإنجاز المشاريع التنموية وفق النهج الذي يتماشى مع أولوياتها الخاصة. وغالبا ما تكون مثل هذه المبادرات المجتمعية وليدة شراكة بين القطاعين العام والخاص، وكلما عملت قنوات التعاون هذه أكثر بنظام اللامركزية، إلا وزادت فعاليتها وامتد نطاق تأثيرها.

قد يفشل الطابع اللامركزي فشلُا ذريعًا، أو أنه قد ينجح بشكل ملحوظ يجعل الجمعيات الترابية، والبلديات التابعة لها، تنبض بالحيوية والنشاط في مسارها التعاوني، ويمكنها من تنزيل النسق التنموية التي هي أحوج إليها من غيرها. والعامل الفاصل بين الحالتين هنا هو أن نظام اللامركزية يعتمد طرقًا غير مُرضية يتم بها اتخاذ القرارات وتفعيل الإجراءات المرتبطة بشؤون المجتمع، وبالتالي لا تسمح بتأسيس هياكل التمكين والتنوع الضروري لازدهار البلد.

وربما تعاني المشاريع القائمة على الطاقات المتجددة، بغض النظر عن انتشارها الكبير وحتى مع تكريس المغرب لجهوده في هذا المجال، من غياب دمج وإشراك صوت أفراد المجتمع، وتقييمهم، وحرمانهم حتى من الفوائد المجنية – وهو إقصاء لا تخفى معالمه على السكان المحليين.

بتفاؤل وحزم، تنشُدُ مؤسسة الأطلس الكبير وشركاؤها من الجهات المعنية المتعددة، المحلي منها والدولي، الخير وترى المراحل التي قطعها المغرب نحو لامركزية الطاقات المتجددة جدية ومشجعة. وتؤمن هذه الجهات بضرورة توفير فرص حقيقية تُساعد على تمكين الأشخاص المستهدفين وحشد روح الانخراط في التخطيط التشاركي للمبادرات التي تختارها هذه الفئات بعناية. عندها فقط ستتضح لنا المجالات التي يمكن إدراج تقنيات الطاقة المتجددة فيها في ظل المسار التنموي الذي تحدده هذه المجتمعات.

وكما هو حال مجمل المبادرات المحلية الهادفة والرامية إلى التمكين، بدأت الرحلة بدعوة من أفراد بعض الجماعات للتعبير عن استعدادهم الكامل للمشاركة في التغيير واستثمار ما يكفي من الوقت والطاقة من أجل تحقيق نتائج مشجعة. وعقب تلقي البرنامج الخاص بالمؤسسة مجموعة من الدعوات والنداءات، قررنا التوجه إلى إقليم اليوسفية في قرية جنان بويه بسبب الظروف القاسية التي فرضتها ندرة المياه والتعرض الواضح لتأثيرات تغير المناخ على المنطقة.

تفاعلًا مع فعاليات الدورة التكوينية، يرى المشاركون والمشاركات أن مياه الشرب النظيفة، ومشاتل مختلف الأشجار المثمرة المتوطنة والنباتات الطبية، ذات أولية قصوى في المستقبل الذي يسعون لبنائه. واعتبارًا من اليوم، بعد تطبيق أولى محاور ورش التمكين، وولادة تعاونيات جديدة خاصة، وحفر بئر للمياه العذبة والمغذية على عمق 200 متر، تظل المؤسسة وفية لطموحها في تحقيق أحلام الساكنة الفردية والجماعية.

تكشف هذه التجارب التنموية المحلية، سواء تأملنا في إحداها أو في مجمل المبادرات، عن القواسم المشتركة بين احتياجات الأفراد: صعوبة الوصول إلى الموارد الضرورية لخلق أي مستوى من التغيير، والكيل بمكيالين بين الجنسين في ما يتعلق بالأهداف المجتمعية، والروابط المتينة بالمجتمعات القروية التي تحجب الساكنة عن مغريات الهجرة إلى المدن من أجل لقمة العيش. ويمكن للخبرات القائمة على مناهج مشابهة، أو غيرها من الوسائل الإعلامية، أن تساهم فعليًا في إحداث إصلاحات سياسية مفيدة. ولا يقتصر دور اللامركزية فقط على تمكين أشخاص يتحكمون في مستقبلهم ويخلقون لأنفسهم فرصًا تنموية، بل ويكمن أيضًا في قدرة هذا النظام على طرح مناهج وأطر سياسية جديدة تتناسب أكثر مع ما يريده الناس ومع الأولويات التي يعبرون عنها.

ليست زيارتنا إلى اليوسفية وأماكن أخرى إلا محطات بارزة في رحلتنا، تجارب تسلط الضوء على التعديلات والبرامج التي يمكن إنجازها بفعالية أكبر إذا تم إدماج الطاقات غير المحدودة التي يمتلكها الناس إذا تعلق الأمر بتحسين حياتهم وظروف عيش مجتمعاتهم. وقد سطرت محطة اليوسفية الخطوط العريضة لاحتياجات السكان المستعجلة. لكن التجربة تعنى أيضًا بفهم الاحتياجات التي تتجاوز المناطق القروية والتي، إذا لقيت آذان صاغية بصدق، قد تشكل قاعدة ينطلق منها تأسيس قوانين تنظيمية واعدة تؤطر موارد المغرب بشكل يبعث روح التفاؤل بين جميع أبنائه.

دورة تصورات تمكين المرأة بمدينة اليوسفية (مؤسسة الأطلس الكبير، 2021)
رئيس مؤسسة الأطلس الكبير، المغرب.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Social Media Auto Publish Powered By : XYZScripts.com