من رسائل محمود درويش إلى  سميح القاسم

( الرسالة الأخيرة )

عزيزي #سميح،
بين عاصفةٍ وعاصفة، قد نجد مَقعداً للحنين أو للوداع. طوبى لهذه السُّكنى القصيرة المُسَوّرة بالرّيح. ولكن، لماذا تخشى السُّخرية؟ إذا كان لا يروقُكَ تعريفُها بأنّها “اليأس وقد تهذّب”، فإنّ في مَقدوركَ أنْ تُسمّيها ما شئتَ، شرط أن تدرأ عنكَ البُكاء.. وأن تقترحَ وردةً على الليل.

أمُّكَ، أمّ قاسم، أمُّنا المُشتركة، تنامُ أخيراً على مِتْرٍ من وطن. كيف أواسيكَ وأنتَ على مَقرُبةٍ من ثراها! خُذْ قصفةً من حَبَق واذهبْ إليها، وقبِّلْ ثوبَها التّرابيّ باسمي. كلّمتُها منذ شهر ولم تقلْ لي إنها ستغادر ذاك البيتَ القديمَ. كلّمتُها ولم تُخبرني بأنها ستذهب بهذه السُخرية العبثيّة إلى النهاية.

لا أذكرُ منها غيرَ جمالها الناطق وصَلاتِها الصامتة على ولدين منذوريْن لما يٌقلِقُ الأمّهات. قالت إنها قويّة وستحيا من أجلك. والآن، لا أستطيعُ أن أتخيّلكَ بلا أمّ أيّها الطفلُ الأبديّ. لقد اختارتْكَ أنت، لتكونَ يوسفَ قلبِها. ألأنّكَ جديرٌ بكلّ حُبّ؟ أم لأنكَ ذاهبٌ في طريق الشقاء والحُريّة؟

كل الذين نحبّهم ذهبوا… وسيذهبون.

لا تنسَ أن تنثرَ عليها ما وسعكَ أن تنثرَ من حَبَق. ألم تكنْ هي سيّدةَ الحبَق، كلّما فركْنا يدَها أو ثوبَها صرخَ العطرُ بنا ونهانا عن انكسارٍ لا يَليقُ بأغنيةٍ صاعدة. ولكنّ لكَ، يا عزيزي، أمّاً ثانية. لكَ أمّي التي كفّتْ، منذ سنوات، عن إدراك الفارق ما بيني وبينك. عرّجْ عليها في طريقِكَ من حيفا إلى الرّامة، لتُعوّضَ عنكَ غيابَ “أمّ قاسم”. عرّجْ على “أم أحمد” لتعوّض عنها رحيلي الطويل.

#أخوك محمود درويش
(باريس – 21/6/1988)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Social Media Auto Publish Powered By : XYZScripts.com