بريطانيا في مقاربة التأثيم.. عدلي صادق

يصح أن ننظر الى المحاولة البريطانية وصم أي طيف فلسطيني بـ “الإرهاب” باعتبارها علامة فارقة جديدة، في تاريخ المواقف البريطانية الظالمة، حيال الشعب الفلسطيني، منذ ديسمبر 1917.
وقبل أن نستعرض جوانب الاستهداف البريطاني، يتوجب العودة الى تعريف مقتضب، للإرهاب نفسه، ونقول إن الإرهابيين الذين نراهم عنصر إيذاء لقضية الشعب الفلسطيني، هم الذين يجوبون العالم ويقتلون المارة عن سبق إصرار وتقصد، ويزرعون قنابلهم في في أوطانهم وغيرها، لقتل عابري السبيل، لا سيما في محطات القطار والحافلات، وفي المدراس، ويستهدفون داخل أوطانهم، رجال الشرطة والجنود البسطاء، ودور العبادة من أي دين، دون أن يكون لهم قضية غير الجنون والترويع!
في مقدورنا الجزم، أن ليس هناك الآن، أي طيف فلسطيني يمارس هذا الإرهاب. ولن يوجد العنصر الفلسطيني بأي عدد لافت، في تشكيلات داعش وشبيهاتها. فمنذ نحو نصف القرن، كانت هناك ظاهرة خطف الطائرات لإسماع العالم صوت القضية، ولم يكن هناك في تلك الظاهرة عمليات قتل. كان مهاجمو الطائرة المخطوفة، هم الذين يقتلون، وعلى الرغم من ذلك، روجعت الظاهرة من قبل الذين اعتمدوها للإسماع السياسي، وتقرر وقفها تماماً، لأن معركة الفلسطينيين تظل مع الإحتلال حصراً، وفي حدود جغرافيا وطنهم.
الإحتلال قبل أن يقتل، هو أقبح ممارسات الإرهاب. لكنه باعتماد القتل الممنهج وممارسته؛ بدأ منذ يومه الأول، إرهابياً بامتياز وفداحة، إذ هو يفعل الشي نفسه الذي يفعله الإرهابيون، عندما يقتلون دون تمييز، أو يطيحون بالرؤوس ويزهقون الأرواح.
في مكابدة الإحتلال، هناك من يقاومون. ولأن المحتلون يعرفون أنهم حاملو مشروع تصفية، فهم يحتاطون. يبنون الملاجيء ويجهزون سلاحهم، لكي يكون صغارهم وكبارهم محميين، في أوقات قصف محتشدات الناس في أرض ذات سماء مكشوفة. وبالتالي يكون الرد على نيرانهم الإغراقية، ببعض نيران جوابية، أمر طبيعي وفق المتاح، وما السبب في كل تلك الجولات من الحرب، إلا الغطرسة وصم الأذان عن نداءات العدالة ووجوب رد الحقوق التي يعرفها كل العالم ويدعو الى ردها، والكف عن الاستمرار في وإشقاء حياة شعب آخر يرزح تحت نير الاحتلال.
البريطانيون من جانبهم، بدل أن يكّفروا عن آثامهم وأن يعترفوا لشعب فلسطين في الاستقلال والدولة، ولو ـ في الحد الأدنى ـ بموجب منطوق وعد بلفور نفسه ـ يزدادون جفاء حيال شعب فلسطين، علماً بأن النُخب الاجتماعية والثقافية، من هذا الشعب، رحبت بهم في ديسمبر 1917 وقيلت فيهم الأشعار ومطولات المديح التي خلعت عليهم صفات الإنسانية والعدالة، وتلك مرحلة نتحرّج من ذكر تفاصيل مُخرجاتها. لكن الإمبرياليين البريطانيين، الذين جاءوا واضعين نُصب أعينهم التمكين للصهيونية في بلادنا، على حساب بيوت وحقول وأملاك وسمات حضور شعب كامل؛ إستمروا في خطتهم، ونشروا مع الجيش، عناصر المخابرات، وأرسلوا الجواسيس في إهاب باحثين في البيئة وخبراء في الطيور ورحّالة ومدربو قصاصي اثر. وسرعان ما أتاحوا للصهيونية تأسيس الإطار التنظيمي والإداري الذي يراكم عناصر دولة أخرى، على أرض فلسطين. وعندما تولى ونستون تشرشل في العام 1921 وزارة المستعمرات، وهو المتشبع بالفكرة لصهيونية أكثر من تشبع أصحابها، نذر نفسه وسياساته، لإقصاء شعب فلسطين عن أرضه، ليصبح بعدئذٍ أحد أقوى الشخصيات تأثيراً في التاريخ البريطاني.
كنا في بلادنا، مجتمعاُ يعيش نحو 70% منه في الريف وكان هذا المجتمع، في حال إقتصادية مُزرية بعد الحرب العظمى الأولى، التي تخللتها موجة جراد في العام 1915 أجهزت على المحاصيل. وإن كانت قوة السلاح كافية لأن يفعل البريطانيون ما يريدون، إلا أن المال اليهودي حضر بقوة، وفعلت الخدع والتحايلات والمخابرات فعلها، لكي تكتمل كل العناصر الكفيلة بإتمام الإستلاب، ولم يكن هناك أي سند لفلسطين، بحكم ضعف وهزال وتبعية القوى الإجتماعية في الإقليم، وحال الأسر الطامحة الى الحكم بأي شكل وأي شروط !
في مايو من العام الجاري، شوهدت صور الإرهاب من خلال نتائج القصف الذي طال غزة، ونشرت صور رؤوس الأطفال، تُنقل مجتمعة لكي توارى الثرى. على الرغم من ذلك لم تستح بريطانيا ولم تقل كلمة حق، وجعلت شغلها الشاغل، الإنتقاص من حق الشعب الفلسطيني في الاستقلال والحرية، وهي تعرف أن مثل هذا المنحى، هو الذي يفاقم البغضاء والتشدد حيال بريطانيا. فتشرشل نفسه، الاستعماري المميز، مر بكثير من التجارب التي دلت على سوء عاقبة السياسة البريطانية. فأثناء الحرب العالمية الثانية، وعندما كان موقف بريطانيا حرجاً، تمردت قوى سياسية في الهند “دُرة التاج البريطاني” وأعُلن هناك في العام 1943 عن قيام دولة الهند الحرة قبل موعد استقلالها بسبع سنوات، أما في ايرلندا، فقد عرض تشرشل على الرئيس الرئيس إيمون دي فاليرا، ضم شمالي أيرلندا الى سلطاته، لكي يتخلى عن الحياد في الحرب، مقابل أن تقدم أيرلندا المستقلة تسهيلات للبحرية البريطانية، وتتخلى عن الحياد في الحرب. رفض دي فاليرا، بل إنه بعد انهيار ألمانيا النازية، وباتت بلا أمل في النصر، ركب سيارته لكي يقدم التعازي بموت هتلر، لسفيره في دبلن، مجازفاً بغضب الأمريكيين. ولم يكن ذلك حُباً في النازية، وإنما كراهية لأفاعيل بريطانيا في بلاده.
المواقف المجافية للمنطق وتبادر الشعوب بالأذى والبغضاء، تكون لها نتائج عكسية, فعن اي إرهاب تتحدث الدولة التي نسجت كل تاريخها بمفاعيل القتل الممنهج، وتريد أن تنصب نفسها داعية الحكمة والرقة؟.

لبرنامج “همزة وصل” على شاشة “الكوفية”

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Social Media Auto Publish Powered By : XYZScripts.com