مشاعل على الطريق.. قراءة في موسوعة اللواء عرابي كلوب.. الكاتب والباحث/ ناهـض زقـوت

نحن الفلسطينيون من أكثر الشعوب احتياجاً للتوثيق وتسجيل الذاكرة، حيث أن كثيراً من فصول القضية الفلسطينية وتداعياتها ضاعت بسبب عدم توثيقها وحفظها، في حين نجد عدونا يصنع من الأوهام تاريخاً له ويسجله وينشره.

إن تاريخ الثورة الفلسطينية ومنظمة التحرير الفلسطينية وحركة فتح لم يكن حافلاً بالورود والرياحين، بل حافلاً بالنضال والاستشهاد والتضحيات. إن القادة الذين انطلقوا بالثورة لم يكونوا فقراء ومحتاجين للمال، بل ضحوا بالمال وبالمراكز الرفيعة من أجل الثورة وبناء المنظمة وحركة فتح، وقدموا أرواحهم فداء للمبادئ التي أمنوا بها.

إن كتاب مشاعل على الطريق للباحث اللواء الركن عرابي كلوب كتاب غير عادي، فهو كتاب موسوعي يجمع بين السيرة والتاريخ، لقادة ورموز وثوار ومقاتلين ضحوا بأرواحهم من أجل فلسطين وشعبها، حيث تقوم منهجية الكتاب على السيرة الذاتية لهؤلاء القادة والرموز من حيث تاريخ الميلاد والنشأة والدراسة والعمل، والانتماء للحركة والمسيرة النضالية، والمناصب التي تقلدها، والمهام التي كلفوا بها، والمعارك التي خاضوها، والأحداث التي مروا بها خلال مسيرتهم النضالية، وتاريخ الاستشهاد وكيفيته.

لقد تصدى الباحث اللواء عرابي كلوب لمهمة موسوعية كبيرة للتوثيق عن سيرة هؤلاء المناضلين، وهو الجدير بهذا العمل البحثي، فهو خبير في العسكرية وتاريخ قادة الثورة وكوادرها، ومن خلال سيرته الذاتية نتعرف على جدارته وقدرته البحثية في الكتابة، فهو حاصل على ماجستير في العلوم العسكرية من أكاديمية القيادة والأركان في يوغسلافيا، وحاصل على العديد من الدورات العسكرية، وعلى العديد من الدورات في فن الإدارة، وتلقى علومه العسكرية في كل من العراق، والجزائر، والاتحاد السوفيتي، والصين، ورومانيا، ويوغسلافيا. تفرغ للعمل العسكري عام 1968 في الأردن، وعمل مدرباً في مؤسسة الأشبال والفتوة بالأردن من عام 1969- 1970، وعمل نائباً لمدير الإدارة العسكرية في بيروت منذ عام 1977، ونائباً لرئيس هيئة التنظيم والإدارة في تونس حتى عام 1989، ومديراً للتنظيم والإدارة في قوات صبرا وشاتيلا باليمن منذ عام 1990. عاد إلى أرض الوطن مع قوات الثورة الفلسطينية عام 1994، وعمل مديراً عاماً للتنظيم والإدارة في الشرطة من عام 1996- 2004، ومستشاراً لمدير الشرطة من عام 2005 – 2007، حتى تقاعده عام 2008.

كتب ونشر العديد من الدراسات العسكرية والشرطية والإدارية، كما كتب عشرات المقالات التي تتحدث عن سيرة القادة والرموز الوطنية والنضالية لشهداء شعبنا، وهي التي جمعها في موسوعته مشاعل على الطريق.

نستمد من سيرة هؤلاء القادة والكوادر تاريخ الثورة والمنظمة وحركة فتح، فنتعرف على أسماء القادة، وأسماء المعارك التي خاضوها، وأسماء أماكن توزع القوات، وأماكن التدريب، وأماكن تلقي تدريب كوادر الثورة في البلدان الصديقة (الدورات العسكرية)، وأسماء الكتائب المقاتلة وأماكن تمركزها وقادتها، وتاريخ تشكيل القطاعات العسكرية، كما نتعرف على أسماء الذين خططوا للعمليات العسكرية، وأسماء الفدائيين الذين نفذوا العمليات، بالإضافة إلى أسماء وأماكن القواعد البحرية والعسكرية الخاصة بالثورة الفلسطينية، وأسماء المشرفين على العمل الفدائي في بداياته الأولى في الأراضي المحتلة، ونتعرف أيضاً على دور الثورة في إرسال البعثات والدورات التدريبية لتطوير الكوادر، وتتناول انجازات ونضالات قدمها هؤلاء سواء في ساحة الميدان الوطني أو في ساحات النضال في المحافل الإقليمية والدولية، لذلك يمكن أن نستقصي من سيرة هؤلاء الرجال العظام ملامحاً من تاريخ الثورة الفلسطينية على كافة الأصعدة المحلية والإقليمية والدولية.

إن الكتاب ليس سيرة ذاتية وحسب، بل تاريخ طويل نعتز به، ونعتز بنضال قادتنا وكوادرنا الأبطال الذين انطلقوا بالثورة وخاضوا المعارك دفاعاً عن الثورة، والمبادئ التي أمنوا بها، ومن هنا تكمن أهمية هذا الكتاب، في أنه يؤرخ لمسيرة الثورة الفلسطينية وحركة فتح من خلال هؤلاء المشاعل .. هؤلاء الرجال القدوة والقادة في القول والفعل، الذين صنعوا تاريخاً نفتخر به، وحملوا لواء الثورة الفلسطينية في مراحلها المختلفة ومنعطفاتها الحساسة، وخاضوا الكفاح المسلح ردحاً من الزمن يقارعون العدو الصهيوني بعزيمة صادقة وقوة لا تلين ولا تنكسر.

لقد عشت مع هذه الموسوعة منذ جزئها الأول الذي تناول سيرة وتاريخ (73) مناضلاً وطنياً، أفنوا حياتهم في خدمة القضية الفلسطينية وشعبها، وقد ركز على الشخصيات التي ساهمت في تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية وكانوا أعضاء لجنتها التنفيذية الأولى، وكذلك الذين أصبحوا أعضاء في لجنتها التنفيذية على مدار سنوات نضالها وكفاحها لنيل حقوق شعبنا، كما تناول سيرة قادة تاريخيين قادوا النضال الوطني من خلال قيادتهم لتنظيماتهم السياسية. ويأتي الجزء الثاني لكي يكمل مسيرة التأريخ لسيرة كوكبة أخرى من المناضلين الذين أفنوا حياتهم من خلال نضالهم في صفوف حركة فتح، فكتب عن (84) مناضلاً وطنياً من قادة ورموز حركة فتح من السياسيين والفدائيين والعسكريين. ويستكمل الجزء الثالث مسيرة التأريخ للنضال الوطني الفلسطيني متحدثا عن سيرة (100) مناضل وطني من قادة ورموز حركة التحرير الوطني الفلسطيني – فتح الذين دافعوا عن القضية الفلسطينية وشعبها من خلال مواقعهم النضالية في الثورة الفلسطينية وحركة فتح التي جعلت من نفسها مشاعل على درب حرية أبناء شعبنا واستقلاله. أما الجزء الرابع فأرخ لسيرة (100) من قادة ورموز حركة فتح أيضاً فهم قادة النضال وأول الرصاص وأول الحجارة، وحماة المشروع الوطني الذي ضحوا من أجله بالغالي من أجل الحق الفلسطيني. وفي الجزء الخامس تناول سيرة (150) مناضلاً وطنياً من قادة ورموز حركة فتح، الذين قادوا النضال في الوطن والشتات دفاعاً عن الثورة الفلسطينية وقرارها المستقل، وقدموا أرواحهم رخيصة على مذبح حرية شعبهم وأرضهم. وجاء الجزء السادس مستكملاً ما بدء به من سيرة قادة ورموز منظمة التحرير الفلسطينية، فتحدث عن سيرة (120) مناضلاً وطنياً من أبناء فلسطين البررة الذين دافعوا عن فلسطين وقضيتها في المحافل الدولية وحملوا السلاح وخاضوا المعارك دفاعاً عن الثوابت الوطنية الفلسطينية. ويأتي الجزء السابع معبراً عن سيرة (156) من قادة ورموز وكوادر من حركة فتح الذين ضحوا بأرواحهم من أجل الأرض والشعب والقضية. وقدم الجزء الثامن سيرة ومسيرة (167) قائداً وكادراً من شهداء منظمة التحرير وحركة فتح، وفي الجزء التاسع يستكمل الكتابة عن (180) قائداً ومناضلاً من حركة فتح، وفي الجزء العاشر تناول (196) قائداً وكادراً ومناضلاً من حركة فتح أفنوا حياتهم من أجل رفعة الوطن والشعب. وثمة أجزاء قيد الطباعة وهي: الجزء الحادي عشر الذي يقدم توثيقاً لسيرة عشرات المناضلين (203) من قادة وكوادر منظمة التحرير الفلسطينية، من خلال سيرتهم ومواقعهم النضالية في الثورة الفلسطينية ومنظمة التحرير تلك التي جعلت من نفسها مشاعل على درب حرية أبناء شعبنا واستقلاله. والجزء الثاني عشر يتابع سرد حياة (185) مناضلاً قدموا أرواحهم في سبيل حرية شعبهم. وفي الجزء الثالث عشر مازال مستمراً في الكتابة عن (200) قائداً وكادراً من حركة فتح الذي شكلوا نبراساً للثورة والشعب.

في هذه الموسوعة التي وصلت أجزاؤها حتى الآن إلى 13 جزءاً، بلغت عدد صفحاتها ما يزيد عن (5500) صفحة، وضمت ما يزيد عن (1700) قائد وكادر ومناضل في صفوف منظمة التحرير وحركة فتح، وما زال في أدراجه العديد من الأسماء لكي يستكمل بها مسيرته البحثية لتوثيق شهداء الثورة الفلسطينية وشهداء منظمة التحرير الفلسطينية، ليقدم للأجيال القادمة مادة يفتخرون بها بما قدمه هؤلاء المناضلون طوال سنوات نضالهم من بذل الغالي والنفيس من أجل رفعة الوطن والشعب، والمحافظة على الثوابت الوطنية الفلسطينية، وعلى رأسها منظمة التحرير الفلسطينية. فنحن اليوم أمام عاصفة هوجاء تحاول النيل من مكانة المنظمة وقدسيتها.

كل التحية والتقدير للأخ المناضل اللواء الركن عرابي كلوب على جهوده الوطنية في التأريخ لسيرة قادة ورموز فلسطينية ضحوا بكل ما يملكون رخيصة في سبيل كرامة شعبهم وحريته. لقد تصدى اللواء عرابي لهذا المشروع خوفاً من تكلس الذاكرة الفلسطينية، وعاملاً على إحياء الذاكرة الفلسطينية من أجل الأجيال الجديدة. إن تاريخ الثورة الفلسطينية وحركة فتح حافل بالنضال والاستشهاد والتضحيات، والأسماء كثر من الصعب إحصائها، وإن أحصيتها تصعب عليك المعلومة. لأننا فقدنا التوثيق لكثرة الترحال من مكان إلى مكان. فكان بالضرورة أن يتصدى أحد أبناء فلسطين البررة المخلصين لمهمة التوثيق لهؤلاء الذين ضحوا بدمائهم من أجل فلسطين، مما يؤكد بأن فلسطين لا يمكن ولن تنسى أبنائها الشهداء.

ومن منطلق الإيمان الوطني بالمشروع الموسوعي للأخ اللواء عرابي كلوب، تبنى مركز عبد الله الحوراني للدراسات والتوثيق الإشراف وطباعة أجزاء الموسوعة بهدف حفظ الذاكرة الفلسطينية وترسيخ حضورها بين أبناء شعبنا، وكان دافعنا هو إيماننا الراسخ بأننا نحن الفلسطينيون من أكثر الشعوب احتياجاً للتوثيق وتسجيل الذاكرة، وقد بدأنا في مسيرته الوطنية البحثية منذ الجزء الأول وحتى الجزء الخامس، ولكن لظروف قاهرة وخارجة عن إرادتنا، بعد تدمير اسرائيل للمركز، وتوقف نشاط المركز وفعالياته، لم نستطع مواصلة المسيرة في تبني سلسلة مشاعل على الطريق. ويأتي مركز فلسطين للدراسات والإعلام التابع لحركة فتح بالقاهرة ليستكمل تبني المشروع منذ الجزء السادس.

هؤلاء الشهداء كانوا الأوفياء لفلسطين وقضيتها وشعبها، فكان لزاماً علينا أن نكون أوفياء معهم، بنشر سيرهم لتكون سفراً خالداً للأجيال الجديدة، لكي يتعرفوا على رجال من وطنهم قدموا الكثير من أجل أن تحيا تلك الأجيال حياة حرة كريمة.

إن تجربة اللواء عرابي كلوب تكتب بماء الذهب، لمن يقدر القيمة العلمية والتاريخية لما يوثقه في سلسلة مشاعل على الطريق، فهو يقدم التاريخ الحقيقي للثورة الفلسطينية من خلال رموزها الوطنية والثورية، فهؤلاء هم الذين صنعوا تاريخ الثورة، ورسخوا جذورها الأولى، وتواصلوا دون كلل أو ملل في النضال من أجل اقامة الدولة الفلسطينية كاملة السيادة وعاصمتها القدس، وحين رحلوا سلموا الراية لأجيال جديدة لكي تواصل الكفاح والنضال من أجل تحقيق الأهداف التي ناضلوا واستشهدوا في سبيلها، فكان من الواجب ومن شرف الانتماء إلى الوطن والثورة أن تسجل أسمائهم وسيرتهم بأحرف من نور، لتبقى مرشداً وهادياً في نضال الأجيال الجديدة.

وانطلاقاً من الإيمان بأهمية هذا المشروع الموسوعي، كان الأجدر بنا كفلسطينيين أن نخلد هؤلاء الشهداء الأبطال في متحف خاص يحمل صورهم وسيرتهم، لكي يصبح مزاراً للأجيال الجديدة لكي تتعرف على مناضلين أفنوا حياتهم لكي يعيشوا حياة حركة كريمة. ومن هنا أدعو وزارة الثقافة ووزارة الإعلام إلى تبني هذا المشروع، أقصد مشروع المتحف، ومشروع استكمال الكتابة عن أبطال الثورة الفلسطينية ومشاعلها، وفي إعادة طباعة الكتب السابقة في موسوعة شاملة توزع على سفاراتنا في الخارج وعلى جالياتنا العربية والفلسطينية في الخارج، كما تصبح نموذج إهداء للسفراء العرب والأجانب كنوع من الافتخار بهؤلاء المناضلين، وبما قدموه لرفعة الوطن والشعب، وتأكيداً أن الشعب الفلسطيني قاتل وناضل من أجل حريته واستقلاله، وها هم رجاله المخلصون، المشاعل التي أنارت طريق الحق الفلسطيني.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Social Media Auto Publish Powered By : XYZScripts.com