حبايبنا اللزم.. رسالة مفتوحة الى جميع القائمين على تحفيظ القرآن الكريم.. عماد عفانة

القرآن الكريم بين التسميع والتطبيق…نحو مقاربة مختلفة

غني عن القول ان العلي قدر القدير جل وعلا، تكفل بحفظ القرآن الكريم، لقوله تعالى “إِنَّا نَحْنُ نـزلْنَا الذِّكْرَ وإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ”، أي وإنا للقرآن لحافظون من أن يزاد فيه باطل مَّا ليس منه، أو ينقص منه ما هو منه من أحكامه وحدوده وفرائضه، والهاء في قوله: (لَهُ) من ذكر الذكر.

كما أن من نافلة القول، أنه ليس من أولويات أمة إقرأ، الاجتهاد في حفظ القرآن الكريم في الصدور فقط، أو الاجتهاد في طباعة كلام الله تعالى في مصاحف جميلة مزركشة أو مذهبة ونشره في ربوع الأرض فحسب.

بل إن من أولويات أمة الإسلام في عصر انحرفت فيه البشرية عن جادة الحق، وانغمست في كل ما نهى الله عنه، من سلوكيات واخلاق وأعمال، أهلك الله بها الأمم الغابرة، أن نجتهد في اسقاط آيات القرآن الكريم على واقعنا، وأن نطبق أحكامه في حياتنا، لنستحق قوله تعالى، “كنتم خير أمة أخرجت للناس”.

فاذا كانت حياتنا جاءت في ظل حقبة الحكم الجبري الذي عطل حكم الشريعة، فلا اقل من أن نجتهد في أن نتحلى بأخلاق القرآن الكريم، الأخلاق التي ساد بها المسلمون وفتحوا القلوب قبل البلدان، ووصل ملكهم حدود العالم الأربع، الأخلاق التي تحلى بها نبينا الأكرم صلى الله عله وسلم فكان قرآن يمشي على الأرض كما قالت ام المؤمنين عائشة رضي الله عنها.

وبما أن خالق الكون تكفل بحظ القرآن الكريم، فانه يقع على عاتق امة الإسلام ترجمة القرآن الكريم أخلاق وأحكام في واقع حياتها، لتستحق رعاية الله تعالى ونصره وتأييده.

ونحن في فلسطين المحتلة، الذين نخوض صراعا كونيا في مواجهة أكبر قاعدة عسكرية غربية في قلب أرض الإسلام، التي تقبع بظلها الاجرامي والدموي على صدر مسرى نبينا صلى الله عليه وسلم، وتعمل على تحويل معراجه إلى كنيس في هيكلهم المزعوم، أحوج ما نكون إلى التحصن بأخلاق القرآن الكريم واحكامه، استمداداً للنصرة والتأييد ممن بيده وحده مفاتيح النصر والتمكين.

وقد حبانا الله تعالى في غزة بدار القرآن الكريم والسنة، التي ترعى بكل جهد ومثابرة على رعاية حفظ كتاب الله تعالى في الصدور، حيث يعمل فيها فريق يضم الالاف من المحفظين، عبر المئات من الفروع ومراكز ومدارس التحفيظ.

وقد خرجت دار القرآن الكريم والسنة على مدار سني عملها عشرات آلاف الحفاظ، ومما يثير في النفس الفخر أن تنجح هذه الدار في جمع خمسمائة حافظ سيجتمعون غداً الثلاثاء لتلاوة القرٱن الكريم كاملا في سرد متواصل.

وهو جهد جبار، وجهد يستحق كثير من الشكر والثناء، ولكن هل هذا ما تحتاجه غزة، وهل هذا هو ما يحتاجه واقع مجتمعنا الذي تتراجع فيه منظومة القيم والأخلاق.

ما لم نستدرك احتياجات الواقع، وما لم نشخص ما يعانيه مجتمعنا بل أمتنا من امراض، فسنواصل الخطأ في وصف العلاج المناسب.

وسنواصل تخريج آلاف الحفاظ، فيما تواصل منظومة القيم والأخلاق في التراجع.
وسيزداد رصيد دار القرآن الكريم مدارسها ومراكزها من الحفاظ، وسيزداد معدل الارتفاع في مؤشر الإنجاز، لكنه سيبقى انجاز رقمي لا رصيد له على أرض الواقع، وليس له نصيب في شرف التغيير.

ولست بحاجة لتذكيركم أن عمر بن الخطاب الخليفة الثاني لأمة الإسلام رضي الله تعالى عنه، حفظ سورة البقرة وحدها في عشر سنوات، ليس لأنه كان عاجزاً عن حفظها في يوم أو يومين، فهو رجل فطن ذكي.

ولكن لأنه كان شأنه شأن كثير من الصحابة الكرام، كلما حفظ آية لا ينتقل إلى التي تليها إلا بعد أن يعطيها كامل حقها في الفهم والاستيعاب، كما في تمثل احاكمها وتوجيهاتها واخلاقها، وتطبيقها واقعا وممارسة في كل تفاصيل حياته.

ولهذا كان عهد نبينا الأكرم وخلفائه الراشدين خير عهود الإسلام على الاطلاق.
وإذا كنا نرغب ونتمنى أن تعود للإسلام عزته، وأن يعود للمجتمع حصانته وسموه، فعلينا أن نسعى لأن نتمثل سيرتهم، وأن نسير على نهجم في التعامل مع خير كتاب أنزل على الأرض، فهو مفتاح النصر، ودليل العزة، وخارطة طريق النجاة.

التقنيات الحديثة أتاحت وجود القرآن الكريم كاملا في كل بيت بل في كل جيب وفي كل وقت، فلسنا بحاجة إلى حفظة قدر حاجتنا إلى قدوات يطبقونه في حياتنا واقعاً.

الاجتهاد في تخريج الاف الحفاظ كل عام جهد كبير مطلوب ومشكور، ولكنه لا يجب ان يمثل أولوية لنا كون نفعه نفع شخصي وفردي، يعود بالدرجة الأولى على الحافظ نفسه، فيقال له يوم القيامة إقرأ وارتقي، ولا يعود بالنفع على المجتمع ما لم نجمع الفهم والتفسير والتمثل في التطبيق والقيم والأخلاق والسلوك مع الحفظ، لنضمن التغيير الإيجابي المطلوب في المجتمع، والموصل إلى استعادة هذه الأمة موقع الصدارة في القيم والأخلاق.

وكي لا يستمر التوافه بالانتشار، وكي نحد من انتشار رذائل الأخلاق، وكي لا يستمر الناس والشباب في التسابق لتقليد الساقطين والساقطات، في وقت تطورت فيه وسائل التواصل الاجتماعي.

فانه يقع على عاتق جمي القائمين على حفظ وتحفيظ القرآن الكريم، كما على عاتق جميع دوائر التربية والثقافة، واجب ملئ هذا الفضاء الافتراضي، بالمحتوى الذي يرفع من قيمة الأخلاق وينشر القيم.

وأن تنظم البرامج التي تعمل على ترميز القدوات في الأخلاق والسلوك والتعاملات، وتقديم النوابغ في العلم والفقه والابداع في الاعلام وفي مواقع التواصل.

وإعادة النظر في أسباب وأهداف تنظيم المسابقات والاحتفالات والتكريمات، بما يلبي احتياجات المجتمع، ويحقق الأهداف المرجوة في التغيير الإيجابي على طريق تحصين المجتمع، واسناد صموده في وجه المؤامرات التي تستهدف قيمه وأخلاقه وانهياره من الداخل.

ومن هنا اوجه الدعوة إلى جميع القائمين على حفظ وتحفيظ القرآن الكريم في غزة، إلى مقاربة مختلفة، مقاربة تعيد الأولوية للتطبيق لا للتسميع.

ولتنظيم المسابقات لإسقاط الآيات على الواقع وليس مسابقات للتسميع أو تلاوته في سرديات.

وأن تعظم المكافآت والتكريم للنماذج السلوكية والأخلاقية على طريق ترميزهم ليكونوا قدوات في التقليد والاحتذاء، وحث أجيالنا وشبابنا للتسابق على خلق نماذج متقدمة تستعيد سيرة ومسيرة صحابة رسول الله والتابعين، فلا عزة ولا نصر ولا صلاح لهذه الأمة إلا بما صلح به أولها.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Social Media Auto Publish Powered By : XYZScripts.com