صناعة الدمى : ترامب نموذجا/ بقلم : د. غسان عبد الله 

قديما، وعبر التاريخ ، كان يلد  القائد من رحم المعانة والحاجة الى الخلاص ، والامثلة على ذلك كثيرة لا تعد ولا تحصى ، بدءا ب قائد ثورة العبيد سبارتاكوس  سنة 75 ق.م  ، ومرورا بالرسل والانبياء . كل وجد البيئة الخصبة للانطلاق في رحلة الخلاص هذه  .

خلال حقبة تاريخية ليست بقصيرة ، شكلت الكنيسة في أوروبا ، مصدرأ واحدا ووحيدا  للحكم والخلاص ، الى أن جاءت الثورة الصناعية والنهضة الاوروبية وبداية الانعتاق من سيطرة الكنيسة حيث ظهرت الحركات الاحتجاجية والتصحيحية ، ولعل البروتستانية والتيار الاصلاحي لمارتن لوثر كينخ أبرزها.

في المقابل ، وبعد اسدال الستار على حكم الخلفاء الراشدين ، وبدء الصراعات ما بين مرشحي الزعامة ، وان اتخذت هذه الصراعات دوافع شخصية ، الا انها كانت تخفي في طياتها دوافع اثنية واختلافات فكرية ….

بعد انتهاء الحرب العالمية الاولى والثانية ، وما خلفته الحربين من كوارث وضحايا بشرية ، انهمك العالم في معركة اعادة البناء والبحث عن مصادر وثروات طبيعية من شأنها ان تعمل على  توفير احتياجات البشرية . نجم عن ذلك تضارب في المصالح بين الشعوب والدول ، واحتدمت الحرب الباردة بين القوى الرئيسة في العالم .

أدى  ذلك  الى اختلافات في الرؤى والاساليب الواجب اتباعها من أجل سيطرة ومنفعة أكثر ، فظهرت فكرة الاحزاب والحركات السياسية العديدة على مستوى العالم .

هنا برز التنافس يتجلى بين هذه الاحزاب والحركات السياسية ، الا أن جاءت الميكافيلية واباحت كل الاساليب ، وان كانت غير اخلاقية ، من أجل الوصول الى الهدف وتحقيق الغاية .

في اواخر القرن العشرين وبدايات القرن الحادي والعشرين ازداد دور وتأثير الماكنة الاعلامية ، الامر الذي حدا بأكبر الحركات السياسية العالمية للعمل من أجل ليس فقط الاستحواذ على أكثر وسائل الاعلام ، سواء كانت مسموعة أو مرئية أو مكتوبة ، ألاكثر تاثيرا ، بل و توجيه الناس نحو المبتغى تحقيقه ، دون ترك ولو هامش ضيّق للتفكير بالامور . ساعد في ذلك النمو المتسارع لانماط وأشكال التواصل الاجتماعي و التأثير المهول لهذه الوسائل على الناس .

لست من أصحاب أو مؤيدي نظرية ألمؤامرة ، لكن لدي قناعة تامة أن كبرى الحركات السياسية والفكرية ، الماسونية ، البروتستانية ، المسيحية الصهيونية والحركة الصهيونية قد بذلت ولا تزال تبذل الجهود الحثيثة في توظيف وسائل الاعلام المختلفة ، مستفيدة من الحالة العالمية السائدة ، لا سيما بعد انهيار أحد أعتى المعسكرات السياسية ، الاتحاد السوفياتي ، وبدء تنامي الحرب الاقثصادية القذرة بين أقطاب العالم الرأسمالي ، ناهيك الى شهوة هذه الحركات الى تحقيق مأربها المتنوعة ، مع الحرص على ابقاء دورها خلف الستار ، فلجأت الى نهج صناعة الدمى السياسية وانتقاءها بحرص شديد وعناية فائقة ، لدى تصميمها على صناعة دمية سياسية،  البحث عن شخصية تتسم بسمات معينة مثل :  ضعف أو غياب   العقيدة الإيمان،تدني مستوى الأخلاق ، انعدام الأدب والذوق العام ، تدني منسوب قدرات  التفكير والتأمل في الكون والحياة والخلق والنفس، عدم الاستعداد  لمراجعة القيم والنوايا باستمرار والتأكد من موافقتها ومصلحتها للناس وليس للفرد أو مجموعة، جهل مطبق في توظيف المنطق والإبداع وقواعد التفكير او القدرة على ،    فهم منهجية التغيير وقواعد النجاح وفلسفة القيادة، دوام الجاهزية لتقبل أي رأي بدون تفكير وتأمل ، صعوبة في  تعلم قواعد ضبط النفس والتحكم في السلوك و مراجعة الرغبات والميول والمهارات الشخصية باستمرار، غياب فن التعامل مع الناس او الاستماع لهم  او الحوار والاقناع ، عدم القدرة او الرغبة في  تعلم فن بناء فريق العمل وإدارة العمل الجماعي.  هذا ما قد يفسر لنا سبب احاطة مثل هذا القائد الدمية بكثرة المستشارين .

 تستند هذه الرؤية الواقعية والمستمدة من سلسلة الممارسات والسلوكيات والتصريحات القديمة الجديدة  للرئيس الامريكي ترامب . ان مجمل التوترات  والضغوطات التي يعيشها ترامب اليوم ناجمة عن ضخامة المصالح الشخصية ، وليس لها علاقة باختلافات ايديولوجية ، كونه لم يكن يوما قد رسى على ايديولوجية محددة ، وما محاولة اضفاء صبغات ايديلوجية على مواقفه ، ما هي الا غطاء لتحقيق المزيد من هذه المصالح الخاصة ، دون أن يدرك بأنه ليس اكثر من دمية تحرك خيوطها حركات وتيارات سياسية صهيونية

كثر الحديث عن امكانية تورط روسيا في الانتخابات الامريكية والتسبب في نجاح ترامب . صحيح ان التحقيقات من قبل الجهات الامريكية المختصى لا زالت جارية ، لكن لا نستبعد هنا هذا التدخل لسببين هما : اعتبار روسيا ذلك فرصة للرد على مشاركة أمريكا في انهيار الاقتصاد الامريكي خلال فترة ليست بقصيرة ولا بيسيرة على الشعب الروسي ، الا ان تعافى لاحقا بعد سنوات رغم ما تمارسه الادارة الامريكية لغتية الان من حصار اقتصادي للدولة الروسية ودعمها للحركات الانفصالية في اوكرانيا والقرم . أما السبب الثاني ، فيكمن في اختلاف شخصية والخلفية السياسية لهيلاري كلينتون ، كونها تتفوق على نرمب من ناحية حنكة سياسية وعقائدية . ألامر الذي جعل روسيا تشعر بامكانية التعامل مع ترمب كدمية ، خاصة اذا ما ثبت ان لدى روسيا من مستمسكات وأدلة دامغة على ترامب .

يرى المتتبع لشخصية ترامب ،بناء على تصريحاته ومواقفه وسلوكياته القديمة والجديدة  ، أن من أبرز السمات الملحوظة في شخصية ترامب العنجهية الديكتاتورية وما  يعانيه من جنون عظمة وغطرسة زائدة ، الذي اعتبرها ،البعض،  نوع من الشجاعة ، ولا أراها الا صفة من صفات الجاهلية المقيته يتوارثها اصحاب النفوس الضعيفة ، أضحت  مرتعا لهذه الحركات السياسية المذكورة انفا ، وليس من الضروري أن تكون سمة وراثية من سمات الشعب الامريكي، رغم قناعتي بان طبيعة الشعب هي التي تحدد الحاكم .
تتضح هذه السمة عند ترامب ، وعبر تطور شخصيته ، من خلال حب التفرد بالسلطه وتهميش الاخر، حب المال والجنس  والانا وقمع المناوئيين ،ولذا تجد ان سياسته تتارجح ما بين العداء المكشوف للاسلام والعرب عامة والفلسطينين خاصة و تحالفه اللامحدود مع اسرائيل بل وتبنيه لسياستها العدوانية التوسعية دون حساب ولا حدود  ، وهذا ما يؤكد على انه مجرد دمية لا حدود لها ولا تفهم او تعي مخاطر ما تنفذه ،دون ان يدرك ان لعبة المصالح تتبدل وقد يقع يوما ضحية لها ، ناهيك عن حقيقة انه اوقع الشعب الامريكي في مشاكل جديدة كان في غنى عنها ، مثل حتمية اللاستقرار والقلق الدائم  وتنامي كراهية العرب والمسلمين وقطاع واسع من شعوب المعمورة  لامريكا ،جراء ارتفاع منسوب الجنون والخرق لديه .

سمة تانية وجليه في شخصية ترامب هي التباس الهوية لديه ، هو يؤكد على ولاءه المطلق لامريكا وفي نفس الوقت يعمل جاهدا ليكون الحاكم المطلق والمتنفذ الوحيد في العالم باسره . لعل هذا ما يفسر بعضا من تخبطاته وسلوكياته المتناقضة الكثيرة ، واصابته بالنرجسية وعدم التواضع كليا ودوام الحديث في العموميات ، وانحيازه التام لمصالحه الاقتصادية اولا مهما كان الثمن ، وتكرار التلويح بسياسة العصا والجزرة  وبالتالي هو مستعد للتحالف مع الشيطان من اجل ذلك ، ظانا انه هكذا يستطيع ان يمتطي مجد القمة وشاحا .وعليه لا يمكن القول ان لدى ترامب أي التباس سياسي ، كون ان الاتباس السياسي وليد لتعارض الإيديولوجيات الفكرية ، فهو بعيد كل البعد عن مثل هذا الوعي الفكري ، اذ هو لا يفهم معنى السلطة  الحقيقي ، هي بنظره   مائدة مفتوحة وجاهزة للسرقة والنهب والاستغلال.

ختام القول ، فان كل ما ذكر اعلاه ، وبالاخص جنون العظمة وشهوة السلطة ، ومجمل  الكوارث  التي خلفها ترامب ، ليس فقط ستكون عوامل للتخلص منه ، بل وستدفع شعوب العالم قاطبة والشعب الامريكي خاصة ثمنها الباهظ على المستويين القريب والبعيد .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Social Media Auto Publish Powered By : XYZScripts.com