فن الكلام الصادق (الفلترة والتشادق)/ بكر أبوبكر

  أساس المشاكل والاضطرابات وقطع العلاقات بين الناس، وشحن النفوس هو نقل الكلام بدون إتباع “قانون الفلترة” أو قانون المصفاة للكلام، تاملوا معي هذه القصة[1] …

في أحد الأيام صادف فيلسوف أحد معارفه الذي قال له بلهفه أتريد ان تسمع ماقاله عنك أحد طلابك ؟!

رد عليه الفيلسوف : انتظر لحظة قبل أن تخبرني أود منك أن تجتاز امتحاناً صغيراً يدعى امتحان الفلتر الثلاثي

قبل أن تخبرني عن طالبي لنأخذ لحظة لنفلتر ما كنت ستقوله!

الفلتر الأول هو (فلتر الصدق(

هل أنت متأكد أن ما ستخبرني به صحيح؟

 فقآل الرجل : لا ..

في الواقع لقد سمعت الخبر.

 قال : إذاً أنت لست متأكد أن ما ستخبرني به صحيح أو خطأ ؟!

فلنجرب الفلتر الثاني وهو فلتر الطيبة :

“هل ما ستخبرني به عن طالبي هو شيء طيب ؟!

قال مرتبكا : لا.. على العكس !

قال : إذا ستخبرني شيء سيء عن طالبي على الرغم من أنك غير متأكد من أنه صحيح !!

بدأ الرجل بالشعور بالإحراج الشديد.

تابع الفيلسوف قائلا : ما زال بإمكانك أن تنجح بالإمتحان، فهناك فلتر ثالث وهو فلتر الفائدة :

هل ما ستخبرني به عن طالبي سيفيدني؟!

 فأجاب الرجل : في الواقع لا.

فقال : إذا كنت ستخبرني بشيء

1/ ليس بصحيح

2/ولا بطيب

3/ولا فائدة فيه

لماذا تخبرني به من الأصل؟؟

﴿يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنوا إِن جاءَكُم فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنوا أَن تُصيبوا قَومًا بِجَهالَةٍ فَتُصبِحوا عَلى ما فَعَلتُم نادِمينَ﴾ [من سورة الحجرات: ٦]

صوت وحركة وجسد و”نيكسون”

في الخطاب فن حين القول ونطق اللسان، واختيار الكلمات المناسبة للموقف، وفن للصوت، وفن للحركة الجسدية بالعينين واليدين والجبين والصورة اجمالا.

يذكر أن الصراع الرئاسي الأمريكي الذي حصل بين المترشحين جون كينيدي وريتشارد نيكسون عام 1960 ظهرت آثار النصر فيه لكنيدي على غريمه من اللحظات الاولى، حيث كان نيكسون قد اشتهر بفن الخطابة المسموعة، والتي تنقل عبر الاذاعة، ولكنه لم يعهد ان يخطب امام القمرات (الكميرات) وكانت المناظرة هذه المرة رائية (تلفزية) فظهر جون كندي بشبابه وأناقته وابتسامته وحركاته الأنيقة أكثر قوة من طبقات صوت نيكسون، الذي لم يستطع المجاراة للصورة، وفي الحركة والصورة 55% من قدرة التاثير، وحينها قال مدير حملة نيكسون: لقد خسرنا وهذا ما كان.

يقول الجاحظ في البيان والتبيين في لغة الجسد:  الإشارة واللفظ شريكان، ونعم العون هي له، ونعم الترجمان هي عنه. وما أكثر ما تنوب عن اللفظ، وما تغني عن الخط. وبعد فهل تعدو الإشارة أن تكون ذات صورة معروفة، وحلية موصوفة، على اختلافها في طبقاتها ودلالاتها. وفي الإشارة بالطرف والحاجب وغير ذلك من الجوارح، مرفق كبير ومعونة حاضرة، في أمور يسترها بعض الناس من بعض، ويخفونها من الجليس وغير الجليس. ولولا الإشارة لم يتفاهم الناس معنى خاص الخاص، ولجهلوا هذا الباب البتة. ولولا أن تفسير هذه الكلمة يدخل في باب صناعة الكلام لفسرتها لكم. وقد قال الشاعر في دلالات الإشارة:

أشارت بطرف العين خيفة أهلها … إشارة مذعور ولم تتكلم

فأيقنت أن الطرف قد قال مرحبا … وأهلا وسهلا بالحبيب المتيم.

وقال الشاعر أيضا:

وللقلب على القلب … دليل حين يلقاه

وفي الناس من الناس … مقاييس وأشباه

وفي العين غنى للمر … ء أن تنطق أفواه

اختيار اللفظ والمعنى

في اختيار اللفظ الأنيس والمفهوم والواضح والبسيط والمباشر وذو التأثير ما يغنينا عن التشدق بالغريب أو الافرنجي او الوحشي من الكلام.

 حيث ذكر أنه: كان صلّى الله عليه وآله قد قال: «إياي والتشادق» ، وقال: «أبغضكم إليّ الثرثارون المتفيهقون» ، وقال: «من بدا جفا»، وعاب الفدادين والمتزيدين، في جهارة الصوت وانتحال سعة الأشداق، ورحب الغلاصم وهدل الشفاه، ويقول الجاحظ أيضا أنه:  على قدر وضوح الدلالة وصواب الإشارة، وحسن الاختصار، ودقة المدخل، يكون إظهار المعنى. وكلما كانت الدلالة أوضح وأفصح، وكانت الإشارة أبين.[2]

الدلالة الظاهرة على المعنى الخفي هو البيان، والبيان من نتاج العلم، والعي من نتاج الجهل، وقال سهل بن هارون: العقل رائد الروح، والعلم رائد العقل، والبيان ترجمان العلم.

لا يجب مطلقا أن نتجاوز الاهتمام بلساننا ولغتنا العربية فاللغة ليست فقط حروفا وجملا وانما هي ثقافة وفكر تعبر عن شخوصنا ومجتمعنا، وعن حضارتنا التي تتراكم في العقل والمرجعية وتظهر باللسان في تعابير جميلة وقوية ومؤثرة لا يمكن للغة اخرى أن تجيد التعبير عنها.

 يقول الكاتب الاسلامي المغربي مصطفى الشنضيض:[3]  “إن اللغة ليست فقط تعبيرا انفعاليا للتكيف مع الأوساط الخارجية، وإنما هي بنية رمزية تطبع حركة الفكر فوق ذلك، بنظم أنساق من رموز مكتسبة اتفق عليها البشر، فإذا ضعفت وأهمِل نشاطها ستتوقف عمليات التعقل ويتجمد الفكر وستتأخر محركات الثقافة ومولدات الطاقة الفاعلة، وسيتقوى أصحاب اللغات الأخرى التي اجتهد أهلها في إسعاد عقولهم بها، وسيتمددون في فراغاتنا، وسيفكرون بالنيابة عنا ويستلمون قيادتنا إلى ما لا نهاية.”

الحواشي

 1]لم نستدل على مصدر القصة أو قائلها لكنها ذات عبرة تستحق الاقتباس.

[2]  من كتاب الجاحظ في البيان والتبيين.

[3]  من مقال لمصطفى الشنضيض في صحيفة هسبريس المغربية عن عربية القرآن الكريم.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Social Media Auto Publish Powered By : XYZScripts.com