فـيـدريـكـو غـارثـيـا لـوركـا : شــاعـر أســطـورة/ الـدكـتـور عـبـد الـقـادر حـسـين ياسـين

عـنـد زيارتي الأولى للعاصمة الإسبانية، مدريد،
تملكتني رغـبة عارمة في التحقـق من أمر ،
كنت قد قـرأت عـنه ولم أصدّقه تماماً،
يخصّ الشاعـر فـيـدريـكـو غـارثـيـا لـوركـا (1898 ـ 1936)،
رغم أنّ الفرضية المنطقية تؤيد مصداقيته.
ففي ساحة “سانتا آنّا”، القريبة من الساحة الأشهر “بويرتا ديل سول”،
ثمة تمثال جميل للشاعـر الغـرناطي الـقـتـيـل،
أنجزه النحـَّات الإسباني خوليو لوبيز هرنانديز،
لا يخلّد مكانة لوركا الأدبية الرفيعة فحسب؛
بل هو تذكرة دائمة بأنّ حساسيات الحـرب الأهـلية الإسبانية،
خلال صيف 1936 وحتى ربيع 1939، انتهـت عملياً على الأرض،
ولكنها لم تضع أوزارها تماماً في النفوس.

ومن الصحيح الافـتـراض، إستطراداً،
بأنّ المصالحات الوطنية التي تعـقـب الحروب الأهـلية،
من الطراز الذي اسـتـقـرَّت عليه أسبانيا ،
أو جنوب أفريقيا أو حتى الولايات المتحـدة الأمريكية،
لا تزيـل الرواسب كلّها، ولا تغـسل القـلوب من كامل الأحقاد.

أمّا الواقعة التي شـئـتُ التحقـق منها ـ ولم تكن، بالطبع،
الدافع الأوّل لزيارة تمثال ذلك المبدع الكبير ـ
فـقـد كانت تروي أنّ أهـل اليسار يحرصون على ربط منديل أحمر حول عـنـق لوركا،
الواقف بالطول الكامل، موشكاً على إطلاق يمامة ترفـرف بين كفّيه؛
وأهل اليمين يحرصون، في المقابل،
على زيارة التمثال للغرض النقـيض، أي نزع المنديل الأحمر.

وأعـترف أنني وجدتُ بعض المناديل حول عـنـق لوركا ويديه ورسغـيه،
وعـقـدتُ بدوري منديلاً كنت قد أحضرته لهذه الغاية؛
وأعـترف، كذلك، أنني حين عـدتُ في ساعة مبكرة من صباح اليوم التالي،
لم أجد منديلي في مكانه فحـسب، بل رأيت مناديل أكثر، وليس أقـلّ!

أتحدّث هنا عن  ثلاثيـن سنة خلت،
ولا ريب في أنّ متغيّرات إسبانيا، الثقافية والتربوية والسياسية والاقـتصادية،
قـد بدّلت الكثير من الثوابت التي لاح أنها راسخة رسوخ الجبال الرواسي،
خاصة بعـد اسـتـقـرار الديموقـراطية الإسبانية.

لكنّ قـرار نبش الموقع الذي يتردد أنّ لوركا دُفـن فيه ،
قرب فوينتي غراندي، في وادي غرناطة الخصيب،
بعد أن تولّت مفـرزة فاشية خاصة إعـدامه رمياً بالرصاص،
فجر التاسـع عـشـر من آب  أسقـط ظلال الماضي الثقـيـل على الحاضر، مجدداً،
خاصة وأنّ المكان مـقـبـرة جماعـية لقـرابة 400 من أنصار الجمهوريين أُعـدموا هناك،
ثمّ دُفـنوا، أو طُمروا في تعبير أصحّ.

وقـبل شـهـرين، في الذكرى الـثانيـة والثـمـانـيـن  لإعـدام لوركا،
لم تمرّ المناسبة دون تذكير بأنّ الأنساق السياسية ـ الثقافية،
التي أنـتجت تلك الفاشية، لا ترقـد أو تستكين إلا لكي تـسـتـفـيـق وتستشري،
خاصة في أطوار الركود الاقـتـصادي والبطالة والـقـلق والتأزم.

والحال أنّ لوركا لم يكن عـضواً في أية حركة سياسية،
وليس في أشعاره إشارات سياسية مباشرة،
وشدّد مراراً على أنه يرفض التفسير السياسي لقصائده ومسرحياته.

لقد نـشـأ في كـنـف الأرسـتـقـراطية الإسبانية، وعاش حياة مرفهة منعمة،
ولم يخـف رغـبـتـه في النأي بنفسه عن اضطرابات بلده السياسية،
والتأكيد على أنه شاعـر أسطورة لا شاعـر أفكار،
والأسطورة تبدأ من نقطة انتهاء الأفكار (وانتهاء الإيديولوجيات).

وقـد يضيف المرء أنّه كلما توجّب البحث في أعماله عن رسالة اجتماعية ما،
ظاهرة أو حتى خافية، فإنها غالباً سوف تحمل طابعاً محافظاً، على نحو أو آخر.

لكنّ فـيـدريـكـو غـارثـيـا لـوركـا كان جزءاً لا يتجزأ من الحركة الديموقراطية الإسبانية،
لأسباب أشدّ عـمقاً وتعـقـيـداً من ثنائية الانتماء السياسي أو النأي عنه،
ولا تبدأ من مسائل التأويل وتفكيك الرموز وتحميل المعنى دلالات من خارجه.

كانت الأسباب تضرب بجذورها عـميقاً في دينامية النصّ الأدبي ذاته،
وكيف أنّ علاقاته الإيصالية يمكن أن تستقـلّ في حقبة اجتماعية وسياسية محددة،
وتسبغ على المـعـنى طبيعة متغايرة، تتبدّل تبعاً للمتلقيّ، في أزمنة متغايرة.

وعلى سبيل المثال، عُـرضت مسرحية لوركا التاريخية ،
‘ماريانا بينيدا’ للمرّة الأولى عام 1927، حين كانت الدكتاتورية العسكرية في أوج أزمتها،
والعرش يهتز، والحركة الديموقراطية تعزز مواقعها كل يوم،
والجماهير تبحث عن وسائل التعبير.

وكانت أبسط الكلمات مرشحة آنذاك لاحتمال المعـنى الآخر،
والدلالة المشحونة والرمز الضاغـط على الأذهان،
فـتـحـوّل العرض إلى تظاهرة شعـبية،
رغم أنّ العمل كان أقـرب إلى تكريس القيم الرجعية وليس التقدمية،
بمقياس ذلك الزمان، على الأقل….

وبـالإضـافـة إلى أهميته كشاعـر ،
ومسرحيّ وشخصية حداثية في الأدب الإسباني،
لا بدّ أنّ حياة لوركا انطوت على الكثير من العناصر الإنسانية الدرامية،
التي تبرّر هذا المقـدار الواسع من الاهتمام بسيرته،
حتى يـبـدو وكأنّ سرد وقائع حياته لن ينفـد في أيّ يوم!

هـذه حال الشريط السينمائي “رماد قـليل”،
وهو إنتاج بريطاني ـ إسباني عُـرض قبل سنوات،
بتعاون مثمر بين المخرج بول موريسون وكاتبة السيناريو فيليبا غوسليت،
ويروي صداقة ثلاثة من كبار مبدعي إسبانيا،
لويس بونويل ،وسلفادور دالي، ولوركا،
خلال عشــرينيات وثلاثينيات القرن الماضي،
دون اكتراث بالمحرّمات المعتادة في توصيف أكثر التفاصيل حميمية.

وكما لا تستكين الفاشية إلا لكي تستفيق أكثر شراسة،
كذلك فإنّ أمثولة فـيـدريـكـو غـارثـيـا لـوركـا،
لا ترقد إلا لكي تواصل ذلك الصحو اليوميّ الفريد:
في الضمائر كما في العـقـول،
وفي القـصيدة كما في التاريخ،
وفي الماضي كما في الحاضر.

 <ahy15may1948@gmail.com>

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Social Media Auto Publish Powered By : XYZScripts.com